قريتي الصغيرة “القتب”

رشاد السامعي
رشاد السامعي

لم تعد تستهويني كما كانت، فقدت ثلاثة ارباع شغفي بها وحبي لها لأنني فقدت السبب الذي كان يجعلني متعلقاً بها الى حد الهوس والجنون.

فقدت امي، بعد ان توفت بسبب جرح صغير في يدها، تطور الى تسمم أصاب الكلى والرئة والقلب. كانت أمي تعيش في القرية في غرفتين صغيرتين برفقه اختي، وأخي الاصغر مني وأختين أكبر مني.

اضطرت أمي للانتقال من المدينة الى القرية بعد انفصالها عن والدي، كنت وقتها في سن الخامسة تقريباً.

اتذكر يومها عندما كانت امي تلملم أشيائها وملابسها وهي تبكي بحرقة وأتذكرها عندما صعدت الى سيارة الصالون التي تم استئجارها لأخذها الى قريتها، اسمها الشعوبة.

أتذكرها عندما حضنتني وقبلتني قبلات كثيرة، وكانت تشمني وتبكي، وتقبلني وتبكي لأنها ستسافر وتتركني.

لم أكن استوعب وقتها ما يجري، لا افهم ما هو الطلاق، ولماذا الفراق ولماذا امي ستسافر، لم أذرف دمعة واحدة بقيت صامتاً اراقب آخر لحظة بها.

كانت اختي الكبيرة بنت العشر سنوات تصرخ في وجهي وهي تبكي وتقول: وانت ليش ما تبكيش؟ ابكي …. امي بتسافر وانت ساكت.

لم أكن اعلم ان ذلك اليوم سيكون آخر يوم ارى فيه امي، ولم أكن اعلم ان الليلة التي مضت ستكون آخر ليلة انام في حضنها.
لن اسمع صوتها بعد اليوم ولن ارى وجهها يشرق كل صباح بعد هذا الصباح.

وفي ليلة ذلك اليوم بدأت اشعر بفداحة الفقدان، واستيعاب الامر، وبدأ الخوف والوحشة والحرمان تسكن صدري وتكبر يوماً بعد يوم.

كيف لطفل في الخامسة ان تودعه امه وترحل، كنت ارى الاطفال مع امهاتهم واتساءل لماذا انا! لكن لا أحد يمكنه ان يجيب.

عشت مع أسراب من الخوف والقلق والتخيلات والكوابيس المرعبة وكانت اشد لحظاتي معاناة وقسوة عندما يحين موعد النوم لكمية الخوف والكوابيس والتهيؤات التي كانت تحضر، كنت لا اجرؤ على رفع البطانية من على وجهي.

وإذا غامرت ورفعت غطائها، كنت ارى كل يوم عند باب الغرفة كأن رجلين من دخان يقفان عند الباب يمسكان حربتين على شكل (X) كأنهما يحرسانني.

وقتها فقط اشعر بالأمان ويغلبني النوم، لعلهما قلب امي وروحها يحضران للتخفيف على ومواساتي، وهكذا تمر اغلب ايامي حتى يأتي عيد عرفة.

فنستعد جميعاً للسفر لقضاء الاجازة في بيت عمي في القرية، اتذكر السعادة التي كان تغمرني قبل كل عيد لأني سأسافر والتقي بوالدتي من جديد.

يبدأ الجميع بتجهيز اشيائهم من ملابس العيد وغيره. وابدأ انا بالبحث عن شيء آخر، ابحث عن أي شيء يمكنني ان اهديه لامي.

ربما أجد هنا أو هناك خاتماً من حديد مرمياً لا أحد يريده. أو مشطاً او قباضة شعر. فأنا ما زلت صغيراً جداً واحلامي بسيطة، لكن حبي لها كان بحجم مجرة.

وعندما بدأت أكبر قليلاً بدأت في تجميع مصروفي وأستطيع الآن شراء مقرمة جديده او علبة بخور او رشه عطر رخيصة.

اضع الهدية بين ملابس العيد واصعد سيارة الصالون ثم نسافر. حتى إذا ما وصلنا الى سوق الدمنة.

ينزل والدي لشراء بقية الاشياء وانزل انا اشتري بما تبقى لي من افلاس نص درزن موز او قطعة هريسة او كيكة لكي اعطيها لأمي واختي الصغيرة.
ماذا لو قلت لكم إني اكتب ما اكتب الآن ودموعي تتساقط رهبة وشوق وكأنني الآن اسافر اليها من جديد.

المهم يبدأ الصالون بسلك الطريق الترابي الوعر المؤدي للقرية وعندما نقطع بعض المسافة اتوسل والدي ان يسمح لي بالركوب في سقف الصالون فيرفض خوفاً على من السقوط.

اعيد الرجاء والتوسل فيستجيب لتوسلاتي، ويطلب من السائق ان يتوقف حتى اصعد وامسك بشبك الصالون ثم نواصل السفر.

لم يكن أحد يعلم لماذا كنت أصر في كل مرة على الركوب فوق سقف في الصالون، كان الشوق يغمرني للقاء امي وكانت زحمة الصالون والحديث المتبادل داخلها يفقدني جزء من تركيزي.

ويحرمني من ان اعيش لحظات المسافة بكل تفاصيلها، وعندما اصعد وحيداً الى سقف السيارة اشتم رائحة امي تقترب كلما اقتربنا، كنت احدثها كما لو كانت امامي.

كنت اسمع نفسي وانا اقول لها خلاص يا امي وصلنا هذه القرية.

خلاص يا امي مشينا من هذا الرون، خلاص يا امي عدينا هذه الشجرة، باقي قليل ونصل، الى ان نصل الى النجد وبعد النجد تظهر قريتنا.

وهنا يبدأ شعور آخر لا أستطيع وصفه…وتتسارع الانفاس ويتضاعف الحنين، يستمر هذا الشعور حتى نصل القرية، وتتوقف السيارة في آخر موقف لها فينزل الجميع من الصالون ويأخذون اغراضهم ثم يسلكون الطريق المؤدي الى بيت عمي بكل فرحة.

بينما انا اتسلل خلسة واسلك طريقاً آخر، هذا الطريق هو الطريق المؤدي الى بيت امي وليس الى بيت عمي.

وفي هذه المسافة القصيرة المتبقية أقسم إني كنت أعد حتى الأحجار واتلمس الجدران والبيوت واعد الخطوات، اعد حتى انفاسي لكي أصل بسرعة.

لم تكن امي او اختي وأخي الاصغر يعلم بموعد سفرنا، لهذا يكون اللقاء مفاجأً.
اتذكر في أحد الاعياد عندما أخبر أحد الجيران اختي وامي أنه رآني من سطح منزله وانا في طريقي الى البيت فنادا اختي وأخبرها.

فهرعت تجري الى الزقاق ويديها ملطختان بالعجين لأنها كانت تساعد امي في “المنداد” او المطبخ، وعندما رأتني صاحت والله انه صدق، رشاد اخي اجا، واحتضنتني بحرارة مع العجين الذي في يديها.

حتى إذا رأيت امي ارتميت في حضنها وغرست رأسي في صدرها وشممت رائحتها احاول ان اعوض ما فقدت، وأعيد بناء روحي، روح طفل فقد أمه في اشد المراحل احتياج اليها، وامي تبادلني نفس المشاعر والاحتياج والدموع.

ثم تمر ايام العيد سريعاً كأنها تعاندني وتذكرني بموعد اقتراب سفرنا وعودتنا الى المدينة، وكلما اقترب موعد العودة تتضاعف معاناتي ويتضاعف الخوف عندي وتبدأ ندوب الروح تظهر من جديد بعد ان كانت قد اندملت ويبدأ قلبي يبكي بحرقه.

يرسل لي والدي أحد الاطفال ليقول لي الصالون مستني بسرعة لا تتأخر، ولا اشد وقتها من سماع هذه الرسالة، ورؤية هذا الرسول.

الملم اغراضي بعدها بسرعة وتجمع اختي ملابسي من فوق الاحجار بعد ان قامت بتصبينها وتجفيفها في اليوم الأول.

ثم احتضن امي الحضنة الأخيرة والدمع لا يتوقف من كلينا، والسؤال الكبير يكبر أكثر وأكثر.

لماذا انا؟ لماذا يا أمي؟ لماذا لا نكون معاً؟ لماذا الفراق؟ لا اريد ان اعود للمدينة واتركك يا امي.

وهي نفس التساؤلات التي تسألها امي لنفسها والدموع تغمر عينيها، فتحتضنني وتقبلني وتشتمني، وتستودعني الله، استودعتك الله يا ابني، انتبه لنفسك ولدراستك.

اخرج من عند امي مهزوماً، امر من نفس الطريق التي اتيت منها، الطريق موحش هذه المرة، كنت أودع البيوت والجدران والابواب والازقة التي استقبلتني، كنت اراها عندما اتيت مبتسمة زاهية، اما الآن اراها قاتمة حزينة كأنها تشاطرني الم الرحيل.

وهكذا عشت عمري انتظر العيد في كل عام، حتى كبرت وكبر معي جرح كبير لا يمكن تجاهله او تجاوزه.

حاولت مراراً اقناع امي ان تترك القرية وتأتي للعيش معي خاصة مع كبر سنها، وبعد ان اصبحت قادر على تحمل المسؤولية، إلا انها كانت ترفض برفق وبلطف، وتدعوا لي بالبركة.

حتى جاء العام الذي ترحل فيه امي وتودعنا للأبد عام ٢٠٢٣.

ماتت امي ورحلت.. بعد ان قضيت معها أكثر من اسبوعين لكن في مستشفى الثورة إثر الاصابة في يدها.

حضنتها وحملتها واكلتها واسقيتها بيدي لكن على سرير المرض في آخر ايامها حتى فاضت روحها الطاهرة.

ركبت سيارة الاسعاف التي حملت جثمانها الطاهر من المغسلة الى المقبرة، ركبت الى جوارها في سيارة الاسعاف.

ووضعت راسي على صدرها للمرة الاخيرة وبكيت طويلاً، وفي المقبرة، تجرأت يداي على دفنها وإهالة التراب عليها.

.. يالحقارتي.. كانت امي تحبني، وكانت تتمنى لي الخير حتى وهي في كفنها، وفي لحدها كنت اشعر بنبضات قلبها وإن كان قلبها قد توقف.

وكنت أراها تنظر الي وإن كانت عيناها مغمضتين، كنت اشعر بلمسه يديها وارى ابتسامتها رغم انهم قد سدوا باب لحدها واهلوا عليها التراب.

لن اجرؤ ربما بعد رحيلها ان اسافر الى القرية، لن اجرؤ على الدخول الى خلوتها الصغيرة، لن اجرؤ على النظر في مكان جلوسها، وتذكر ضحكاتها، وخبز يديها.

كانت لي قرية عندما كنتِ فيها يا امي، اما الآن فهي مجرد ذكرى جميلة لا أكثر.

رحمة الله عليك يا امي.. يا حبيبة القلب ومهجة الروح يا فاطمة الردمانية.

اللهم اني حرمت حضنها في الدنيا.. فلا تحرمني حضنها في الآخرة.

*نقلاً من صفحة الكاتب على فيسبوك

شارك الموضوع عبر:
المقالة التالية
تغيرات في الاقتصاد الريفي
المقالة السابقة
طواف الضباب في أعالي الريف

كتابات

حالة الطقس

+20
°
C
H: +22°
L: +14°
صنعاء‎
السبت, 27 كانون الثاني
أنظر إلى التنبؤ لسبعة أيام
الأحدالاثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعة
+23°+23°+23°+22°+23°+22°
+14°+14°+14°+14°+14°+14°
شاهد أيضا