عادت حركة التعاونيات إلى ريمة من جديد. ومن يوم لآخر بات الوصول سهلا إلى أعالي أجمل الجبال اليمنية والذي كان الاكثر صعوبة عبر العصور.
لا تزال الطبيعة في نواحي “ريمة الأشاعر” ريفية خالصة وحياة الناس الراكضة وسط قرى تلك المديريات الست تضج بالحيوية وتزدان بالمهاجل والتغاريد.
عصافير وغيول واشجار متنوعة وحيود شاهقة لا نظير.
وبين اللحظة والأخرى تسنح الفرص أمام البصر من وسط بحر الضباب لرؤية حياة ريف الجبالية ناصعة الجمال وممتعة.
القرية كما هي منذ القدم اتسعت قليلا لكن مداميك البيوت لا تزال مثنى ويتنافس الناس فقط على انجاز أجمل السقوف لمنازلهم ذات الطوابق الرفيعة.
اخشاب قاسية من شجر العتم (الزيتون) يجلبونها من وسط الشعاب.
اما الجدران والساحة الجامعة للمنازل المرصوصة بالحجر فيقضضونها احيانا بمادة يصنعونها بطرق بدائية (يسمونها القضاض) ثم يسكبونها في الشروخ وفواراق الأحجار لتصبح أقوى من الأسمنت: حيث لا تزال عملية طحن الأحجار البيضاء مشغولة في بعض تلك القرى الرابضة في الأعماق الداخلية لريمة.
تقع “ريمة” في أعالي الجبال السابحة في بحر من الضباب طوال العام. وللضباب (العمى) في أعاليه هناك حركة انسيابيه عجيبة: تبدأ دورته من الغرب وتنتهي بالشرق دون أن تتجاوز الحدود الإدارية للبلاد في مشهد ثابت ومتدافع الأمواج.
حركة الغمر الكثيفة لسحب الضباب تقل كلما اتجهت شمالا، وتتعاظم بكثافة عندما تندفع باتجاه الجنوب وبين الصعود والهبوط تغمر موجات العمى الذوراي حتى إذا ما كادت أن تلامس قعر الأودية تبدأ بالتلاشي وتعاود الارتفاع.
“ما للعصافير سكْرى بين خضر الجنان” هذه الجملة الغنائية تكاد تقطر متعة من وسط غابات وادي البلبل الجميل المسكوب بعيدا خلف آكامها الغربية. وفي الجنوب يقع جبل “برد” فوق رأسه الثلج وفي جهاته الأربع تتناثر القرى وحواليه تطوف الغيوم.
كانت الجبين قديما بلا نون واسمها أجمل. “الجبي” او هكذا ينطقها كبار السن والمجتمع المحلي، وكلما ذهب الشبان إلى المدن عادوا ينطقونها بالنون. وأيا كان فالجبي هي مركز المحافظة ذات النواحي الست وهي مركز قضاء ريمة عبر العصور تضج بالحياة لكنها لم تَجفَّل بعد في ثياب المدينة.
لا تزال ريمة ريف من أقصاها إلى أقصاها وبلا أسواق مركزية ايضا. وفي قلبها يرتعي الثُور ويأتي القات ملفوفا بأوراق العُثرب الباردة الى مركز المحافظة.
من “بُكال” يجلبون القات، ومن الجعفرية في أقاصي الغرب يأتي الموز والخرمش وأنواع الثمار التي لا نظير لها.
قف في سطح قشلة “الجبي” لتلاحظ كيف يأتي الضباب من جميع الجهات. هناك كان يصلي العامل على حجر مستطيلة ملساء وبجواره كان الرعية يصبون آلاف الأقداح من الذرة الرفيعة في جوف مدافنها الكبرى.
كانت الجِمال تصعد محملة وتعود فارغة إذا لم تكن في الجبي سلعا ذا قيمة تباع.
الفلاحون في قراهم يصنعون كل شيء، وفي كل عُزلة كانت الحدادة، وظهر يوم السوق كانت روائح اللحم واللحوح تنذخ من داخل كل بيت.
وأمس كانت ريحة السمن المشهف بريح الحلبة يسافر مع الرعية إلى كل سوق. والجبي ليست سوقا وانما محل إقامة العامل وقاضي قضاة النواحي.
“ريمة” بلاد واسعة وتقع بين واديين: سهام من شمالها ووادي رماع يطوقها من جهة الجنوب. وهكذا لا تزال في توصيفاتها الجغرافية قطعة واحدة ـ كما وصفها الهمداني.
لا تزال الأبقار الجبلانية ترتعي وسط وديانها ومروجها الخضراء، والديكة تصيح من كل بيت في مواعيدها. وحدها الغزلان باتت قليلة.
اللافت للانتباه هو روح الانسان المبذولة لأي انشطة تعاونية وقلبه وسجاياه المطبوعة بكرم الاستقبال والضيافة.
القِمْر (بكسر القاف وتسكين الميم) واحدة من أكثر صفات سكان الجبال، لكن هذه الخصوصية في ريمة تجدها أكثر تعبيرا عندما يتعلق الأمر بأنشطة المشاريع الجماعية.
وفي هذه الحالة نجد “القِمْر” وقد تحول إلى محرك فعال للتغلب على أكثر عوائق وصعوبات التنمية المحلية.
يتبارى الناس لردم الطرقات الوعرة بأحجار مصقولة ضمن ماراثون سباقي يبذلون فيه الأموال والجهد واوقاتهم الثمينة.
الأعمال في هذا المضمار تجري على قدم وساق في عموم العُزل، ولئن سارت هذه العمليات التعاونية في مسعاها النبيل رغم صعوبته، فإننا في غضون ربما أعوام قليلة سنقف على شواهد خالدة لتجليات المجتمع اليمني المعجزة.
الطريق في ريمة أساس التنمية والاستقرار، وهي كذلك في كل الدنيا إنما في أعالي تلك الحيود تعني الازدهار بكل من تحمله الكلمة من معنى: الزراعة، التجارة، الصحة، السياحة، والحفاظ على الحقول والمدرجات. وتشمل إجمالا: الريف والتنمية.