تتميز اليمن بتنوع تضاريسي ومناخي قل ما تجد له نظيرا في دولة أخرى، أدى ذلك إلى حدوث تنوع حيوي ايكولوجي (Ecology) تمثل في العديد من الأنظمة البيئية مثل النظام الإيكولوجي البحري، النظام الإيكولوجي السحالي، النظام الإيكولوجي الجبلي والنظام الإيكولوجي الصحراوي.
بإمكاننا الاستشهاد بجزيرة سقطرى كمثال إيكولوجي بحت حيث مثلت إرثا بيئيا وتاريخيا احتفت به كل منظمات العالم وكل أنصار البيئية بما في ذلك اليونسكو، كونها من الروائع الطبيعية الخلابة على وجه الأرض.
إن ذلك التنوع أدى إلى تنوع إنساني تمثل في فن أولئك الناس ورقي أسلوبهم الأركولوجي (Archaeology) الذين قدموا للعالم فراده معمارية ليس فقط على مستوى المباني السكنية وإنما تنوع ذلك الفن والأسلوب ليمتد حتى وصل إلى القنوات المائية، طرق حصاد مياه الأمطار، إنشاء السدود والبرك المائية، ووصل بهم الأمر إلى إنشاء المدرجات الزراعية فكانت تلك المدرجات واحدة من عجائب الدنيا الثامنة حتى اللحظة.
لماذا المدرجات الزراعي؟
لأن اليمن تتميز بسلسلتين جبليتين هامتين؛ السلسلة الأولى تمتد من محاذاة الساحل الغربي من الشمال إلى الجنوب ويصل طولها إلى ١٢٠٠ كم. والسلسة الأخرى على امتداد الساحل الجنوبي تصل إلى ٨٠٠ كم. تتميز الأولى بوجود سفوح شرقية وغربية متباينة الارتفاعات وبزاوية ميل 45 درجة.
أما السلسة الجنوبية فهي أقل ارتفاعا لكنها ذات درجة ميول أكبر حيث تميل بزاوية ميل 60 درجة.
تنبّه الإنسان اليمني القديم إلى تلك الخصائص الجبلية والتي تمثل تقريبا نفس مساحة اليمن وهذه إضافة مسحية قد لا ينتبه لها الجيل الحالي ولا يعلم عن أهميتها، فعمل على إدارة تلك الجبال بأسلوب بيئي لا تجده في أكبر الأكاديميات البيئية في العالم.
في البداية، قام بإنشاء وبناء المساكن والبيوت المعلّقة على سفوح تلك الجبال في أعلى القمم وخطر الحواف وأنشئ عليها قنوات الصرف الصحي وقام بزراعة أحواض تلك القنوات بأشجار حراجية وشجيرات مثل الصباريات (الكاتوس) العوسج، الريحان وهي نباتات عطرية وراتنجية قادرة على الاستفادة من المياه العادمة وإفراز روائح خلابة تغلب تلك الروائح العفنة.
ثم استطرد قائما على خطوط الكنتور الجبلية وقام بتشييد المدرجات الزراعية واعطائها أسلوب أركولوجيا يصعب على الكليات الهندسية والمعمارية والإنشائية أن تقدّمه في مناهجها العلمية والأكاديمية.
وهنا لا أبالغ حين أتحدى المهندسين المعماريين اليمنين أو غيرهم أن يقدموا شرحا نظريا للخصائص المعمارية والهندسية والإنشائية لتلك المدرجات.
إن الزائر لمنطقة جبل صبر في تعز قد يندهش ويصاب بالذهول من تصميم تلك المدرجات الزراعية المتبقية وكيف تناغمت مع قنوات الري الممتدة عبر 2000م طوليا من القمة إلى الأسفل وقنوات تصريف المياه من أعالي جبل صبر إلى أسفل المدينة والتي كانت تغذي معظم الآبار القديمة مثل بير (باشا، اللجينات، المظفر، الهندي، المرزوح). وإذا عُرف هنا السبب بطل العجب فلا يحق لأبناء تعز التندر على شح المياه في مدينتهم، فالمورد المائي هو أساسا في جبل صبر.
عندما بدأت الهجرة اليمنية بعد انهيار سد مأرب العظيم تلك المنشأة المعمارية الفريدة والتي كانت تمثل بحق أول إنجاز مدني في التاريخ. وأول أسلوب تقني في حصاد مياه الأمطار والسيول في العالم والذي أدى إلى هجرة القبائل القديمة أمثال عدنان وقحطان إلى بلاد الرافدين والشام، حيث قاموا بجلب أدواتهم الحضارية والفنية وأسلوبهم المعماري إلى تلك البلدان فظهرت هناك الهندسة المائية عبر نقاط تجميع المياه وشبكات الري والتي يرجع تاريخها الحجري إلى ما بعد انهيار سد مأرب.
لقد قدمت اليمن خلال القرون الماضية فرداه زراعية تمثلت في أوج غابات المانجروف والتوت البري في أعالي قمة جبل صبر وجبال صعدة ثم وصلت إلى البن (اربيكا) والذي تم نقله عبر الحملات البرتغالية والبريطانية والإيطالية والهولندية إلى دول العالم الجديد والقديم مثل أمريكا الجنوبية والهند واثيوبيا.
إن بن (اربيكا) هو الشاهد الحضاري الآخر على أن حضارة اليمن لم تقدم للعالم نظريات فكرية أو فلسفية فقط، بل أيضا قدمت منتوجا ونتاجا إنسانيا يشهد به العالم المتحضر.
كما أن اليمن قدمت فراده معمارية وبيئية قد لا تكون المباني الطينية القائمة في شبوة وتريم حضرموت وصنعاء القديمة الشاهد الوحيد عليها فقط وإنما المدرجات الزراعية والفريدة من نوعها هي إحدى النتاج البيئي المعاصر.
أعود وأكرر أن الهجرات المتوالية وخاصة التي بدأت في عام 1906م بأسلوب منتظم حتى 1949م أدى إلى تهجير الفلاحين والمزارعين اليمنيين المهرة بالذات إلى دول أخرى التي قامت به منظمة العامل الصغير آنذاك.
قد لا يكون السبب الوحيد في انهيار 70% من تلك المدرجات حتى توالت تلك الهجرات لتشمل الشباب في عصر النفط حيث هاجر الكثير من الشباب ما بعد ثورة 1962م إلى الكثير من الدول النفطية وأمريكا وأوروبا، ولا أقول إن المخططين للهجرة كانوا متعمدين ذلك ولكن ما حدث مسبقا ويحدث الآن هو تهجير للشباب بكافة تخصصاتهم وقدراتهم ومن مختلف المحافظات اليمنية قد يكون بدواعي اقتصادية بحته.
ولكن مع الأسف أدت تلك الهجرات التي ركزت في مجملها على الشباب والفلاحين والمزارعين المهرة إلى بقاء المسنين في القرى والذين قد يرون تلك المدرجات تنهار ولا يعيرونها أدنى اهتمام إما لكونها لا تعطيهم الدخل المطلوب مقابل ما يرسله الأبناء من عملات أجنبية وبفارق صرف مأهول يؤدي بهم إلى السخرية ومن انهيار تلك المدرجات أو لا نها إذا انهارت اقصد المدرجات تحتاج إلى مجهود عضلي وفكر هندسي جبار لإعادتها وإعادة نقل الأحجار من أدنى ارتفاع 500م إلى أعلى ارتفاع 2800م.
بالإضافة إلى ذلك حدوث التغيرات المناخية والبيئية الحادة مثل هطول الأمطار بشدة وفي أيام محددة من السنة على مدرجات تكاد تكون متهالكة مما يؤدي إلى جرف الصخور والتربة الجبلية إلى الوديان والتي بدورها كانت تشكل بيئية خصبة لنمو الكثير من المحاصيل المائية (الموز، المانجو، قصب السكر) فتحولت تلك الوديان إلى ممرات سيلية مدمرة وقاتلة تجرف كل شيء أمامها بلا هوادة ولا رحمة.
ولم تعد ترى سوى الأحجار والصخور والحجيرات والحصي والأتربة الناعمة التي تمتد في طريقها حتى الساحل عند مستوى سطح البحر؛ فأضحت الكثير من المدن اليمنية خاصة الساحلية والقريبة من الجبال مهددة بتلك السيول التي لا تعرف متى تأتي ليلا أو نهارا ضحى أو بياتا صيفا أو شتاء.
وبالنظر إلى كل تلك المشكلات وغيرها فإننا نحتاج إلى برنامج توعوي بيئية قادر على أن يعيد المصفوفة النباتية والنظم الايكولوجية المندثرة أو المهددة بالانقراض إلى صف الحياة، كما نحتاج أيضا إلى برنامج هندسي شامل يقوم بتعليم المهندسين والعاملين الفنيين على كيفية تصميم تلك المدرجات وفقا لمعايير خطوط الكنتور والخصائص الهندسية الجبلية.
وبعد ذلك نحتاج إلى برنامج آخر يستهدف الشباب وتوعيتهم بأخطار الهجرة والتي قد لا تهدد الاستقرار والسلم الاجتماعي فقط وإنما قد تمتد آثارها لتطال كافة والموارد الطبيعية المتجددة وغير متجددة وهي أغلى من تلك العملات الأجنبية التي لا تمثل حينها فارقا يُذكر.