قبل أن تضيء الكهرباء ليالينا، وقبل ظهور القنوات التلفزيونية الأرضية قبل الفضائية، كانت ليالي العيد في قريتنا، كما في غيرها من القرى، تشهد مهرجانات شعبية وحفلات تنكرية، ومشاهد تمثيلية فكاهية، ورقصات تقليدية.
كانت هذه الفعاليات تُقدم من قِبل شخصيات متنكرة يصعب التعرف عليها، إما لأنها قادمة من قرى أخرى لا نعرف الكثير عن أبنائها، أو لأن القائمين على تلك السهرات تعمدوا إخفاء ملامح الأبطال بملابس عجيبة ومساحيق غريبة، مما زاد من الإثارة. وتعتمد هذه الفعاليات على القمر كمصدر رئيسي للإضاءة، مما أضفى على الأجواء سحراً خاصاً.
كان بطل السهرة دائماً هو “الطبشي”، الذي يرتدي ملابس غريبة بألوان فاقعة، وجلود حيوانات، وشعر مستعار للرأس واللحية والشارب، مما يخفي ملامحه ويجعله يظهر بمظهر مخيف، يشبه إلى حد كبير الصورة النمطية المطبوعة في الأذهان للهندي الأحمر.
على الجانب الآخر، كان بعض الشباب ممن يجيدون فنون الرقص، يتبرعون للقيام بأدوار الراقصات. وكانت الشراشف النسائية حاضر، وهي مكونة من فوط مزركشة تستغرق الكثير من القماش، وجناح واسع، وكان اللباس محتشماً جداً، لا يُظهر تفاصيل الجسد كما هو الحال مع البديل الذي حل محله “البالطو”.
إضافة إلى دوره المحوري في السهرة، كان “الطبشي” يقوم بدور الحارس للراقصين، ويوفر الحماية الكافية لهم باستخدام عصاه الغليظة وعضلاته المفتولة، التي كانت شرطاً هاماً لمن يسند إليه هذا الدور، ولا يُلام على ما يفعله مع الشباب أو بعض الممتلكات، ولا يحمل أحد ضده أي ضغينة خلال الحفل أو بعده.
اعتاد الناس إقامة هذه الاحتفالات في عيد عرفة تحديداً، لما له من أهمية خاصة في قلوبهم، ولأن هذا العيد يصادف الليالي القمرية الساطعة، مما يسمح للفرقة الفنية بالانتقال من قريتها ومركزها الرئيسي إلى بقية القرى بدون الحاجة لمصادر ضوء أخرى غير القمر.
حتى عند وصول الفرقة (مجموعة من الشباب يقومون بفنون مختلفة) إلى القرية المستهدفة بإحياء الاحتفال، كان الاعتماد بدرجة أساسية على النور الذي يوفره القمر، وفي حالات نادرة يتم توفير ضوء يعمل بمادة الكيروسين (أتريك قاز) إذا ما توفر.
بطبيعة الحال، كانت القرى تنام في وقت مبكر، وكانت الفرقة الفنية تستغرق الكثير من الوقت حتى يتجمع شملها وتقطع المسافة بين مركزها الرئيسي والقرية التي سيقام فيها الاحتفال. غالباً ما تصل الفرقة إلى القرية بعد خلود الناس للنوم، خصوصاً أن الزيارة تكون عشوائية وغير مرتبة مسبقاً، ولا يعرف أحد من القرية أن الفرقة ستزورهم في تلك الليلة.
يستيقظ الأطفال على أصوات “رضيح التنك والدقة الحميرية”، كما أسماها شاعرنا الكبير والخالد صالح السعيدي، رحمه الله. يخرج الأطفال فرحين بهذا الحدث غير المسبوق، يرافقهم كبار السن بحجة المؤانسة، رغم أن لديهم الرغبة في حضور هذا النوع من السهرات، وتطل النساء من نوافذ الغرف المعتمة وسطوح المنازل للمشاهدة والاستمتاع.
هكذا كانت ليالي العيد في زمن ما قبل الكهرباء، مليئة بالبهجة والفرح، ومفعمة بروح الجماعة والتعاون، حيث يجتمع الكبار والصغار، الرجال والنساء، للاحتفال بطرق تقليدية تنبض بالحياة والأصالة.