كافحت أمي، رحمها الله، حتى النزع الأخير، من أجل أن تقول إنها فخورة بمسيرتها الوفية مع القرية والأرض، وانه لميخالجها يوما شعورا بالندم أو الأسف أو التذمر.
هزمها السرطان، قبل ثمانية أعوام تقريبا، ورأيت كيف انتزع منها عنادها والقوة التي كانت تبارز بها آلامها المزمنة، دون أن تتنازل عن لحظة تعب وعرق كانت تبذلهما بسخاء من أجل نصيب قليل من الأرض، ومن أجل البقرة الممتدة من نسل واحد لأكثر من أربعة عقود.
لولا رحيل أمي ما كان لهذا الامتداد أن يتوقف ويصبح في خبر كان.
قناعاتها كانت حاسمة بأفضلية الحياة والمعيشة في القرية، بالرغم من مظاهر الحرمان والافتقار لأبسط الخدمات التي ظلت حكرا على المدينة. كانت حكمتها أن الأخيرة ليست موطنا حقيقيا للعيش!
هل كانت محقة؟
ليس تماما.
لكن استطيع القول أنها كانت محقة إلى حد معقول!
وكأمي الكثيرات من النساء الريفيات، اللواتي منحن القرى أعمارهن بحب وشغف وصبر وسعادة. ولقد كان ذلك بالنسبة لهن كل شيء، ولم يطلبن في حياتهن شيئا!
أكثر ما كنت أغبطه، هو يقينها الذي تسلحت به في مجابهة موجة الافلات من انماط العيش في القرى والفرار إلى المدن، بذرائع البحث عن الاستقرار الوظيفي أو المهني. وكثيرا ما سمعتها تقول إن الأمر لن يدوم طويلا، ولن توفر المدن الخبز بهدوء على الدوام.
( في قريتنا،
حقلٌ يورقُ..
يُشرقُ في اشواق الأهل
يَقيهم حَرَّ السوق الحُرّ
وحرب عيال السوق! )
هذا الذي بين الهلالين السابقين، هو مقطع من نص شعري صغير، أوحته لي أمي من مجمل يقينها بالقرية كمصدر حياة وعيش مقرون بمقدار ما نبذله من حب وشغف للأرض هناك.
كما يعد موقفا حاسما من بلاهة البقاء كأسواق مفتوحة لما تنتجه الرأسمالية المتوحشة التي قتلت الإنتاجية الوطنية والقومية، وراكمتنا على طرقاتها مستهلكين شرهين أو جوعى ومتسولين.
الآن اتذكر بعض ما كانت تردده امي، وقد كبرت في أعماقي الرغبة بالعودة إلى القرية. لكن لا اعرف تحديدا، ما إذا كنت رغبتي هذه على قدر كبير من الوضوح!!