شهدت أرياف يمنية عدة خلال السنوات الأخيرة عودة انتشار قرود البابون بشكل ملحوظ (الرُّباح)، ولا سيما في المناطق الجبلية، بعد غياب دام لأكثر من 10 سنوات، وقد بلغت ذروة هذه العودة في 2024، وأصبحت تهاجم المَزارع بشكل متكرر، ويصادفها المواطنون في الطرقات والمراعي.
وأثارت هذه الظاهرة مخاوف كبيرة بين السكان المحليين، خصوصا المزارعين الذين يعتمدون على محاصيلهم مصدرا رئيسيا للعيش، فقد أصبحت هذه القرود، المعروفة بشراهتها، تقتحم الحقول والمَزَارع بشكل متكرر وغير مسبوق، مما يهدد بحدوث أزمة زراعية قد تتفاقم إذا لم تُتخذ تدابير عاجلة لمعالجتها.
خطر متزايد
وكانت هذه القرود جزءاً من التنوع البيولوجي الذي يميز المناطق الريفية في اليمن، إلا أن أعدادها تقلّصت بشكل ملحوظ في العقود الأخيرة، نتيجة عوامل بيئية وبشرية متنوعة، ومنها عمليات الصيد الجائر، والتوسّع العمراني الذي أدى إلى تدمير موائلها الطبيعية، بالإضافة إلى الربط بين القرى بالخطوط الإسفلتية الذي أسهم في تقييد حركة الحيوانات البرية.
وعلى الرغم من ذلك، ظل هناك وجود محدودة لهذه القرود في مناطق مثل مديرية بُرَع بمحافظة الحديدة، ومنطقة الشِّعر في محافظة إب، والمحويت ومناطق ريفية أخرى، غير أنها عاودت بالظهور منذ عام 2020، وباتت تتزايد بشكل ملحوظ، دون وجود حلول لمكافحتها.
مواضيع مقترحة
“القرود” تسطو على مزارع المحويت ولا إمكانيات مواجهتها
تحديات مناخية وبيئية تُنذر بانحسار الزارعة
الرياح وزحف الرمال.. ثنائي مخيف للمزارع اليمني
وفقاً لشهادات سُكان في محافظات متعددة تحدّثوا لمنصة ريف اليمن، تهاجم هذه القرود بين حين لآخر مزارع المواطنين والقرى والمنازل، كما حدث في مديرية الصعيد بمحافظة شبوة قبل أكثر من عام، فقد قدِمت إلى بعض القرى بحثاً عن الطعام والماء.
وفي منطقة صَبِر بمحافظة تعز، يعيش السكان حالة من الفزع بسبب الهجمات المتقطعة والمفاجئة التي تتعرض لها المزارع والعابرون، بينما تتعرض مزارع الفاكهة والخضروات في وادي أسس بعزلة بني حَمّاد في مديرية المواسط لهجمات مشابهة.
وسبق أن هاجمت عشرات القرود مزارع ومنازل في منطقة غار بن لَسْود في مديرية دوعن بمحافظة حضرموت، ودمّرت مجموعات أخرى مدرجات زراعية في الشعر ودلال ووادي الملحة بمحافظة إب.
ذكر الشباب صدام محمد أن مجموعة من القرود هاجمت العام الماضي إحدى قرى عزلة مَدِيخة في مديرية الشاهِل بمحافظة حجة، واعتدت على إحدى النساء في القرية وأدت إلى إصابتها.
وأوضح صدام، وهو من سكان المنطقة، لمنصة ريف اليمن أن المرأة كانت تخبز جوار منزلها، فتعرضت لهجوم مفاجئ من مجموعة قرود ظهرت عند باب المطبخ، وحاولت انتزاع الخبز من يدها، وعند محاولتها الدفاع عن نفسها، تعرضت للإصابة.
وفي عزلة دلال بمديرية بعدان في محافظة إب، يقول محمد يحيى (60 عاما): “القرود عادت بشكل كبير خلال العامين الماضيين، وزادت بشكل ملحوظ هذا العام 2024″، ولفت إلى أن هذه القرود كانت موجودة بشكل محدود جداً في الأعوام السابقة في بعض الجبال الشاهقة والبعيدة عن السكان.
وأكد يحيى أن القرود تلتهم بين الحين والآخر محاصيل المواطنين الزراعية، خصوصاً في المساء، مما أجبرهم على تشديد الحراسة على مزارعهم التي يعتمدون عليها لسد احتياجاتهم.
ووصف الأمر بأنه مفاجئ وغريب بالنسبة للسكان المحليين، لا سيما كبار السن الذين كانوا يعتقدون أن القرود قد انقرضت من هذه المنطقة نهائيا.
أما المزارع الثلاثيني نشوان غالب، فيرى أن عودة قرود البابون ليست مسألة بيئية وحسب، بل هي تحدّ حقيقي يهدد مصدر رزق المزارعين؛ إذ تعتمد الأرياف على زراعة المحاصيل الأساسية مثل القمح والذرة والبقوليات، بالإضافة إلى زراعة القات والبن، وهي هدف رئيسي لهذه القرود.
ويضيف غالب، وهو من أبناء منطقة العُدين: “اعتدنا على رؤية قردة البابون من وقت لآخر، لكنها لم تكن تشكل تهديدا حقيقيا من قبل. والآن أصبحت تأتي في مجموعات كبيرة، وتهاجم المحاصيل بشكل مخيف، مما يتسبب في فقدان كثير من المحاصيل”.
عدم التوازن
يُرجع المواطن أحمد ناجي، وهو مزارع ذو خبرة، سبب عودة وانتشار القرود بكثرة في عدد من مناطق البلاد إلى عدة عوامل، أبرزها عدم المحافظة على الحيوانات المفترسة في البيئة، مثل النمور والضباع والذئاب والأوشاق (جمع وشق)، فقد انقرضت هذه الحيوانات بسبب القتل المباشر وعمليات التهريب إلى بلدان أخرى، وكل ذلك يقع أمام الإهمال الحكومي، مما أدى إلى فقدان التوازن البيئي.
وأشار ناجي إلى أن التدهور في البيئة الطبيعية أسهم في فقدان هذه الحيوانات؛ إذ يعتمد سكان الريف بشكل رئيسي على الاحتطاب مصدرا لصناعة الطعام، منوّها إلى أن إشعال الحرائق وتوسع البناء وشق الطرق أسهم أيضاً في إزالة الغطاء النباتي الذي كانت تعتمد عليه هذه الحيوانات، كما أن تجمعات النفايات أصبحت مصدراً غذائياً مهماً لبعض الحيوانات بدلاً من أكل بعضها بعضا.
ومن الواضح أنّ ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض هطول الأمطار في بعض المناطق قبل الموسم الحالي كان له دوره في تقليص مصادر الغذاء الطبيعي لهذه القرود في مواطنها الأصلية. فقد بدأت بالتحرك بحثاً عن الغذاء نحو المناطق الزراعية، حيث تجد محاصيل غنية تشكل مصدراً سهلاً للغذاء.
وللاضطرابات الاجتماعية والسياسية في اليمن دور كبير في تغيير التوازن البيئي، فقد أدى النزاع المستمر إلى تراجع النشاط الزراعي في بعض المناطق، مما أعطى مجالاً أوسع للحياة البرية للتوسع في هذه المناطق دون منافسة كبيرة من الإنسان.
القُرُود والمناخ
ولا توجد إحصاءات رسمية لمعرفة العدد التقريبي لحجم القرود في اليمن، كما لا توجد أي خطط حكومية للحدّ من انتشارها في المناطق المأهولة، للحفاظ على محاصيل المزارعين.
وللحد من تأثير هذه الظاهرة، يقترح مواطنون تنفيذ حملات توعية بين المزارعين حول كيفية التعامل مع القردة بطرق آمنة، تجنباً لأي صدامات يمكن أن تؤدي إلى أضرار أكبر. كما يجب توزيع أدوات تساعد في إبعاد القردة عن الحقول، وإنشاء محميات طبيعية لهذه القرود بعيداً عن المناطق الزراعية.
وبينما يرى البعض في عودة القرود بكثرة إلى الأرياف اليمنية مؤشراً إيجابياً لإمكانية استعادة التنوع البيولوجي المفقود في اليمن، يراه آخرون مؤشراً سلبياً يهدد المجتمع والإنتاج الزراعي معاً، خاصة في ظل فقدان أغلب الحيوانات المفترسة.
ولا يستبعد السكان علاقة هذه العودة للقرود باليمن بالتغيرات المناخية؛ إذ يرجح أغلب من تحدثوا إلى منصة ريف اليمن أن ارتفاع درجة الحرارة في الخليج، لا سيما في السعودية، أسهم في دفع مجموعات من هذه القرود إلى البلاد للتكيف مع الأجواء الباردة في المناطق الجبلية.
وتُعتبر محافظات مثل: إب، الحديدة، الضالع، ذمار، البيضاء، تعز، صنعاء، حضرموت، لحج، شبوة، المحويت، صعدة، ريمة من أكثر المحافظات اليمنية التي توجد فيها هذه القرود، خاصة في المناطق الجبلية والمناطق الكثيفة الأشجار.