العصيد باليمن: طبق أساسي في الريف

رغم تطور المأكولات وتعدد الأصناف لا تزال العصيد صامدة أمام كل المتغيرات

العصيد باليمن: طبق أساسي في الريف

رغم تطور المأكولات وتعدد الأصناف لا تزال العصيد صامدة أمام كل المتغيرات

عندما تتذوق اللقمة الأولى من “العصيد”، تسترجع ذكريات الطفولة وعبق الماضي، حيث كانت هذه الوجبة جزءًا أساسيًا من حياة سكان الأرياف اليمنية اليومية، ورغم تطور المأكولات وتعدد الأصناف الحديثة؛ لا تزال العصيد صامدة أمام كل المتغيرات، محافظةً على مكانتها في المائدة اليمنية؛ سواء في الريف أو الحضر.

بمكوناتها البسيطة، وتعدد طرق تحضيرها، وإضافاتها المتنوعة، تظل العصيد جزءًا من التراث الغذائي اليمني الذي لا يمكن تجاوزه، وبرغم انتشار الأكلات الدخيلة، إلا أنها ما زالت تحظى بشعبية واسعة، خاصة بين الأجيال التي نشأت على مذاقها الأصيل.

وللعصيدة أنواع كثيرة منها، “البيضاء (عصيدة القمح)، عصيدة الذرة، عصيدة الدُخْن، العصيدة الأحمر (الحنطة الحمراء)، عصيدة التمر، وعصيدة المطيط”، وكل نوع من هذه الأنواع يعكس جزءًا من التراث اليمني وتفضيلات الأكل المختلفة في المناطق الريفية المتنوعة، ومع أنواعها المختلفة يبقى الماء والطحين، بالإضافة إلى المرق، هو المكون الأساسي للطبق.


     مواضع مقترحة


في ظل التفكير الإبداعي، والاستفادة من الأكلات الريفية بطريقة حديثة؛ أطلقت الشابة “أم ليان الصرمي” مشروعها المنزلي “عصيدة ومرق في الدماغ ” في تعز (جنوب غربي اليمن)، والذي يهدف إلى تقديم العصيدة بطريقة صحية ومبتكرة؛ ليكون مصدر دخل لها ولأسرتها.

بدأت أم ليان مشروعها في مطلع عام 2024م بدافع حبها للعصيدة، وإتقانها لطريقة تحضيرها، بدعم وتشجيع من أسرتها والمحيطين بها، وسرعان ما لاقى مشروعها نجاحًا كبيرًا؛ حيث استطاعت أن تقدم طبق العصيدة بنكهات متعددة، مع إضافات مميزة، مثل: السمن، العسل، والمرق؛ مما جعلها وجبة مشبِعة ولذيذة.

تؤكل العصيدة حارة مع إضافة الحلبة أو المرق، أو الحقين أو السحاوق

أولى خطواتها لإعداد العصيدة؛ تقوم أم ليان بخلط الماء والطحين مع القليل من الزيت، ولوجبة تكفي لأربعة أشخاص يستغرق الأمر منها قرابة نصف ساعة إلى 45 دقيقة، من التحريك المستمر على نار هادئة بواسطة “المَجْحِى، أو المِحْوَاش” (عصا خشبية)، لتكون العصيدة متماسكة وجاهزة للتقديم.

تؤكل العصيدة حارة، مع إضافة الحلبة، أو المرق، أو الحقين، أو السحاوق (صلصلة حارة)، وبإضافة الوزف (صغار سمك السردين المجففة)، كما أوضحت أم ليان خلال حديثها لمنصة ريف اليمن.

ورغم النجاح الذي حققته؛ تواجه أم ليان عدة تحديات؛ أبرزها ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وصعوبة خدمات التوصيل، بالإضافة إلى التحديات المرتبطة بالحفاظ على “حجر المدر” المستخدم في تقديم العصيدة، حيث تتطلب هذه الأواني عناية خاصة. ولتفادي الخسائر؛ اعتمدت أم ليان نظام العربون لضمان إعادة الأواني بعد استخدامها.

ما يميز مشروع “عصيدة ومرق في الدماغ”، أن كميتها مشبعة للزبائن، فضلا عن ليونتها ومذاقها برفقة التوابع التي ترافقها الحلبة والسحاوق الخضراء. بنظافة واهتمام في التغليف تقدم أم ليان وجبتها التي تُتقن صنعها يوميا بحسب الطلب.

مشروع منزلي بنكهة ريفية

لا تخلو عصيدة أم ليان من الإضافات العصرية؛ لتضهي مذاقا لا ينسى ـ كما تقول ـ موضحةً أنها تعمد إلى شراء الأواني الخاصة لتقديم العصيدة التي تحفظ لها حرارتها وتبين جمالها.

أضافت أم ليان في مشروعها عدة وجبات بجانب العصيدة، وكلها أكلات شعبية ريفية، مثل: السلتة، الفحسة، الزربيان باللحم، أو الدجاج، الشربة، الأرز، السمك المقلي، الصيادية، وغيرها.

اندهشت أم ليان خلال بداية مشروعها من ردود الزبائن، وانبهارهم بما تقدمه، لافتةً إلى أن ذلك أكسبها عملاء جدداً، وشرائح واسعة، وأضحى مشروعها الفريد من نوعه على مستوى المحافظة يملك شعبية كبيرة، حتى شمل العائدين من الغربة الذين يحنون إلى الوجبات الريفية التقليدية.

العصيد.. طبق ريفي يتحدى تطورات العصر
أضافت أم ليان في مشروعها وجبات عدة بجانب العصيدة كالسلتة، الفحسة، الزربيان باللحم والدجاج

وتعد العصيدة من والوجبات الغنية بالعناصر الغذائية -كما تفيد أم ليان- لافتة إلى أن العصيد يُحضَّر من القمح، الذرة، الدخن، أو الحنطة، وهي مصادر غنية بالألياف، والبروتين، والفيتامينات، تعزز صحة الجهاز الهضمي، وتمنح طاقة مستدامة للجسم؛ لذا فهي أفضل وجبة لدعم التغذية السليمة، والوقاية من سوء التغذية، أيضا تُعد مفيدة للأطفال وكبار السن لسهولة هضمها واحتوائها على كربوهيدرات معقدة تعطي طاقة طويلة الأمد. وفق قولها.

لم تُغِفل أم ليان الجانب الصحي في إعداد العصيدة؛ حيث توفر خيارات تناسب مرضى السكر، أو من يحتاجون إلى نظام غذائي منخفض الدهون، من خلال استخدام دقيق الحبوب الكاملة دون إضافات صناعية، كما أن إضافة العسل والحلبة للعصيدة يجعلها وجبة داعمة للمناعة، ومناسبة للأشخاص الذين يحتاجون إلى نظام غذائي متوازن.

تكمن أهمية وجبة العصيدة وزيادة الطلب عليها في زيادة الحاجة إلى المحاصيل المحلية، مثل: القمح، الذرة، الدخن، الحنطة، الذرة الصفراء، مما يحفز المزارعين على زراعتها بكميات أكبر، وهذا من شأنه تقليل تكلفة اليمن من الاستيراد الخارجي، لاسيما للقمح الأسترالي التي تَقدَّر واردات اليمن السنوية منه حوالي 3.5 مليون طن، بقيمة مليار و2 مليون دولار، حسب تقارير سابقة.

وفي هذا الصدد تلفت أم ليان إلى أنه “يجب أن نأخذ بعين الاعتبار التنوع المناخي والزراعي لليمن؛ مما يجعل محاصيلنا المحلية أكثر جودة وذات مذاق متميز على المستورَد”.

تتابع: “مشاريع الوجبات الشعبية -مثل العصيدة- تساهم في زيادة الطلب على الحبوب المحلية؛ مما يعزز اقتصاد المزارعين، ويوفر فرص عمل في القطاع الزراعي”، داعيةً المزارعين إلى الاستفادة من تقنيات الزراعة المستدامة لتحسين إنتاجيتهم وزيادتها.

العصيدة وتعزيز الزراعة

وتعتبر العصيدة ذات المكونات البسيطة المتوفرة في كل المنازل، من أهم الوجبات التي تشجع على استهلاك المنتجات المحلية، وتقلل هدر الغذاء. ولكونها وجبة مغذية ومشبعة، فإنها تلعب دورًا في مكافحة الجوع وسوء التغذية، خاصة في المناطق الريفية. تقول أم ليان.

رغم التحديات التي تواجه المشاريع الصغيرة يبقى الأمل كبيرًا في أن تتوسع لتصل إلى نطاق أوسع

لا تقتصر أهمية العصيدة على كونها وجبة تقليدية، بل تمتد لتكون رمزًا للتراث اليمني الريفي، ومصدرًا لدعم الاقتصاد المحلي من خلال تشجيع الزراعة والاستهلاك المستدام.

“نهى المجيدي” (33 عاما)، قالت إن “العصيدة هي الوجبة المفضلة للفقراء، ولأن القدرة الشرائية في تعز متدنية، لاسيما بعد أن أصبح الريال اليمني في أدني مستوياته منذ نشوب الصراع، نجد العصيدة حاضرة في موائدنا”.

وتؤكد نهى أن العصيدة وجبة لذيذة ومشبعة ومكوناتها البسيطة في متناول الجميع، معبرةً عن سعادتها بوجود مشاريع منزلية تحضر العصيدة بطريقة مميزة ليتسنى للموظفات مثلاً تناول الوجبة، أو النساء اللاتي لا يستطعن إعدادها، فهي -كما تفيد المجيدي- رمز من رموز المطبخ اليمني الشهير بوجباته المتميزة. كما تطمح أم ليان إلى افتتاح مطعم خاص بها، يجمع بين الأصالة والتجديد، ويقدم الوجبات الريفية بطرق مبتكرة تلبي أذواق الجميع.

ورغم التحديات التي تواجه المشاريع الصغيرة، يبقى الأمل كبيرًا في أن تتوسع هذه المشاريع لتصل إلى نطاق أوسع، وتعزز مكانة الأكلات الشعبية في السوق المحلي، بل وحتى خارج اليمن. وتظل العصيدة أكثر من مجرد وجبة، فهي تراث يتجدد، ومصدر رزق، وداعم قوي للزراعة المستدامة في البلاد التي تعاني من أزمة إنسانية هي الأسوأ في العالم؛ كما تفيد تقارير دولية.

شارك الموضوع عبر:
الكاتب

مواضيع مقترحة: