الزواج بمواسم الحصاد: تقليد متجذر في ريف اليمن

يعد عنصرًا جوهريًا يعكس الثقافة اليمنية القديمة وعلاقتها بالأرض والزراعة

الزواج بمواسم الحصاد: تقليد متجذر في ريف اليمن

يعد عنصرًا جوهريًا يعكس الثقافة اليمنية القديمة وعلاقتها بالأرض والزراعة

اعتادت معظم مناطق الريف اليمني إقامة حفلات الزفاف بالتزامن مع مواسم الحصاد، أو في أعقابها، مدفوعة بعدة عوامل يأتي في مقدمتها العامل الاقتصادي؛ إذ تعتمد غالبية الأسر الريفية على الزراعة كمصدر رئيس للدخل، إلى جانب تربية الماشية وبعض الأنشطة المرتبطة بالبيئة المحلية.

خلال السنوات الأخيرة، ومع تداعيات الحرب التي أثرت بشكل واسع على مختلف القطاعات، لاسيما الجانب الاقتصادي؛ باتت “الأعراس الموسمية” أكثر ارتباطًا بالاستقرار المالي الذي يوفره محصول الحصاد.

ارتباط اقتصادي وثقافي

ويُنظر إلى هذه الفترة على أنها التوقيت الأمثل لتحمُّل تكاليف الزواج، في ظل شحّ الموارد المالية على مدار العام، ما يجعل مردود المحصول الزراعي عاملًا حاسمًا في تحديد التوقيت.

ويؤكد “عبد الكريم محمد”، وهو مأذون شرعي هذه الظاهرة؛ إذ يقول لمنصة ريف اليمن: “من خلال عملي، لاحظت أن العديد من الأسر الريفية تفضِّل إقامة حفلات الزواج بناءً على المواسم الزراعية، خاصة في موسم الحصاد، أو بعد بداية موسم الأمطار”.

ويعزو عبدالكريم، السبب الرئيسي الذي يقف وراء ذلك، إلى الاستقرار المالي الذي توفره هذه الفترات؛ حيث يكون لدى الأسر وفرة اقتصادية تُعين على تغطية تكاليف الزفاف وتحمُّل نفقاته.

إلى جانب ذلك، يشير عبد الكريم إلى جزئية حساسة تتمثل في كون “كثير من الأسر الريفية تعتقد أن الزواج في هذه الفترات يضمن التوفيق والبركة في الحياة الزوجية، وهو ما يجعل هذه المواقيت أحد العوامل التي يحرص الناس على مراعاتها لضمان أن تكون بداية الحياة الزوجية في أفضل الظروف الممكنة”، حد قوله.


        مواضيع مقترحة


“عبد الواحد الزريقي” (34 عامًا)، الذي أقام زفافه في موسم الحصاد، يرى أن هذا التوقيت هو الأنسب اقتصاديًا واجتماعيًا، إذ يقول لمنصة ريف اليمن: “تعيَّن عليَّ إقامة زفافي في موسم الحصاد لأنه الوقت الأنسب من الناحية الاقتصادية والاجتماعية لأبناء الريف المعتمدين على الزراعة كمصدر دخل”.

ويضيف الزريقي بالقول: “بعد موسم الحصاد نكون قد جنينا المحاصيل، مما يوفر السيولة المالية اللازمة لتنظيم الزواج، والتكفل بنفقاته”. ويستطرد: “كما أن المطر يرمز إلى الحياة والنماء، ما يمنح هذه الفترة طابعًا رمزيًا مميزًا لبداية حياة جديدة”.

رغم هذا الانطباع المثالي والحيثيات المنطقية في تعليل العلاقة بين إقامة حفلات الزفاف والسيولة المالية التي يجنيها القرويون من عائدات محاصيلهم الزراعية عقب -أو خلال- مواسم الحصاد، لا يغفل البعض عن الإشارة إلى وجود ضغوط مضاعفة، خصوصًا على الفتيات الريفيات المقبلات على الزواج وأسرهن.

وتتمثل هذه الضغوط في الجمع بين الانشغال بالترتيب لإجراءات الزفاف، والانشغال بالأعباء الزراعية التي تترافق مع موسم الحصاد، أو ما يليه من مهام ما بعد جني المحصول.

الزواج بمواسم الحصاد: تقليد متجذر في ريف اليمن
ارتباط حفلات الزواج بالمواسم الزراعية ليس وليد الظروف الراهنة، بل هو تقليد متجذر في الثقافات، وله امتدادٌ ضاربٌ في عمق التاريخ (فؤاد)

تقول “ملوك عبد الوارث” (27 عامًا)، لمنصة ريف اليمن: “الزواج أثناء موسم الحصاد يحمل الكثير من التحديات بالنسبة لنا كفتيات ريفيات، وعلى الرغم من أن هذه المواسم توفر بعض الاستقرار المالي للأسر بفضل وفرة المحاصيل، إلا أنني أرى أن هذه العادة تضع ضغوطًا كبيرة على الفتيات، خاصةً أنهن يشاركن في عملية الحصاد”.

وتضيف: “نشارك في أعمال الحصاد إلى جانب الاستعداد للزفاف، مما يجعل الأسرة تركز أكثر على الإنتاج الزراعي بدلاً من التحضير الكافي لمراسم الزواج”، وبحسب ملوك فإن “هذا التوقيت قد يؤدي إلى تقليص الخيارات المتاحة للفتاة، ويُفرض عليها إتمام الزواج بسرعة دون استعداد كامل”.

جذور تاريخية

يرى الدكتور “هزاع الحمادي”، الباحث في التاريخ اليمني، أن ارتباط حفلات الزواج بالمواسم الزراعية ليس وليد الظروف الراهنة، بل هو تقليد متجذر في الثقافات، وله امتدادٌ ضاربٌ في عمق التاريخ لدى المجتمعات الزراعية منذ القِدم.

ويضيف الحمادي في تصريح لمنصة ريف اليمن: “في العديد من الثقافات حول العالم، يرتبط توقيت الزواج ارتباطًا وثيقًا بالمواسم الزراعية، ليس فقط الزواج، بل حتى العبادات والقرابين والنذور ومختلف الطقوس الدينية والاجتماعية؛ حيث تُعتبر هذه الفترات هي الأنسب بسبب الوفرة”.

ويردف: “في اليمن القديم، كان للزراعة دور محوري في بناء المجتمع وتحديد أبعاده الاقتصادية والاجتماعية، وكانت المواسم الزراعية تمثل أوقاتًا مهمة بالنسبة لليمنيين في مختلف الدول اليمنية القديمة.

ويشير إلى أن الأسر كانت تشهد زيادة في الموارد المالية نتيجة لمحاصيلها الزراعية، ومن هنا كانت العائلات في اليمن تختار توقيت الزواج خلال هذه الفترات لضمان قدرتها على تأمين كافة متطلبات العرس، ما يعكس التفاعل بين الدورة الزراعية والأنماط الاجتماعية”.

ووفقًا للحمادي؛ فإن الزواج في فترات الحصاد بالنسبة للمجتمعات الزراعية يُعد خطوة نحو الاستقرار والازدهار، حيث إن ارتباط الزواج بموسم الحصاد كان -ولايزال- يعني بداية حياة جديدة تتماشى مع دورة الأرض وخصوبتها.

الزواج بمواسم الحصاد: تقليد متجذر في ريف اليمن

لافتا إلى أن اقتران تقويم موسم الحصاد الزراعي بمواعيد إقامة حفلات الزواج، يعد عنصرًا جوهريًا يعكس الثقافة اليمنية القديمة، وعلاقتها العميقة بالأرض والزراعة كمصدر رئيسي للعيش.

ويعكس تقليد الأعراس الموسمية في الريف اليمني تداخلًا وثيقًا بين الثقافة الزراعية والأنماط والظروف الاجتماعية في فسيفساء الريف اليمني بمختلف بقاعه وشِعابه، وخلفيات فلكلوره الثقافي في الجبل والسهل، ويتجلى من خلاله الارتباط الخفي والظاهر للأرض في تشكيل تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الريفي في اليمن.

فضلًا عن الرمزية التي يكتنفها هذا التقليد الشائع كتجسيدٍ مجازي للخصوبة والاستقرار، وفاتحةٍ لبناء مستقبل جديد للأزواج في بيئة تعتمد على الزراعة كمحرك أساسي للاقتصاد والمعيشة، وهي بذلك تتجاوز كونها مجرد استجابة اقتصادية للواقع الريفي، بقدر ما تمثل إرثًا ثقافيًا متجذرًا يُبرِز العلاقة العميقة بين الإنسان والأرض، ويُعيد تعريف مفهوم البركة والوفرة والبدايات الواعدة.

شارك الموضوع عبر:
الكاتب

مواضيع مقترحة: