ديوان شيخ القرية.. سلطة اجتماعية تملأ غياب الدولة

تمثل الدواوين برلمانا مصغراً لتداول القضايا وحلها ومنتديات للتثقيف والتوعية

ديوان شيخ القرية.. سلطة اجتماعية تملأ غياب الدولة

تمثل الدواوين برلمانا مصغراً لتداول القضايا وحلها ومنتديات للتثقيف والتوعية

يتساءل كثير من غير اليمنيين عن سرّ تماسك الحياة في بلاد مدججة بالسلاح والعصبيات، وفي ظل وضع اللادولة التي يعيشها اليمن على مدى مراحل تاريخية طويلة ومتفرقة، لا سيما أن ما يربو على 75% من اليمنيين يعيشون في أرياف تغيب عنها حتى مظاهر الدولة الشكلية، بحسب تقديرات رسمية، وهنا يأتي دور مجلس الحكم والفصل في القرى أو ما يسمى بـ” ديوان شيخ القرية”.

والديوان بمنزلة البرلمان المحلي، تُناقش فيه قضايا الناس ومشكلاتهم، وتُقر القوانين التي تلبي احتياجاتهم، وهو الحكومة المنفذة للسياسات والقواعد المتفق عليها، والمحكمة الابتدائية التي تفصل في الخلافات، والملاذ الذي يلجأ له المظلومون والغرباء وذوو الحاجة، وهو بالنسبة للشيخ سلطة اجتماعية تمنحه نفوذا للضغط على السلطات للحصول على مطالب أو مناصب.

يرمز الديوان بما يؤديه من وظائف وما تُنجز داخله مِن مهام تتعلق بحياة السكان إلى حضور سلطة القبيلة، وذلك بسبب ضعف حضور الدولة ومؤسّساتها مثل القضاء والأمن ومحدودية التنمية وأحيانا لأهداف سياسية من قبيل كسب ولاء المشايخ مقابل منحُهم حرية أكبر لممارسة سلطتهم في المجتمعات المحلية.


    مواضيع مقترحة


ديوان شيخ القرية

يشكّل الديوان جزءا أساسيا من هيكل البناء المعماري التقليدي لا سيما في الريف؛ إذ لا يخلو منه منزل في الغالب، وتختلف مساحته بناء على عدة عوامل منها: المكانة الاجتماعية والاقتصادية لصاحب المنزل، على عكس الشيخ الذي تفرض عليه سلطته الاجتماعية أن يكون الديوان كبيرا يستوعب أكبر عدد من الناس، بما في ذلك القادمون من خارج المنطقة في المناسبات المختلفة.

ومما ينبغي أخذه في الحسبان قبل البناء، اختيار مكان الديوان، وعادة ما يكون في الدور الثاني، ويكون لديه مدخل مستقل عن الأسرة، ويضم ملحقات إضافية من حمام ومكان للخدمات.

مالك حبيب، باحث في التاريخ المعماري، يقول إن تخطيط المنازل القديمة، في إب مثلا، يضع الديوان في الدور الثاني، ويكون بابه عادة من الجهة الشرقية، ليسهّل عملية الدخول والخروج، وليحافظ على خصوصية البيت، ويؤكد أنه من النادر أن تجد دارا بلا ديوان.

وقد يكون هناك أكثر من ديوان في القرية اعتمادا على مساحتها وحجم السكان، فإذا كانت صغيرة، فهناك ديوان واحد، كما يقول الشيخ صالح الخولاني، بل قد يوجد أكثر من واحد أحيانا، وإذ كانت القرية كبيرة وعدد سكانها كبيرا، فإن عدد الدواوين يزيد تبعا لهذه المساحة.

وبحسب الشيخ الخولاني عادة ما يوجد ديوان كبير للشيخ يكون مفتوحا معظم الوقت، ويجتمع فيه أكبر عدد من الناس بصفة يومية لمناقشة وحلّ القضايا العامة والكبيرة، بينما تستوعب الدواوين الأخرى التابعة للعُقّال والوجهاء المشاكل الأسرية الصغيرة.

ديوان1
يشكّل الديوان جزءا أساسيا من هيكل البناء المعماري التقليدي لا سيما في الأرياف (فيسبوك)

اهتمام بالتفاصيل

من الداخل تختلف تفاصيل تصميم وزخرفة وتأثيث الديوان تبعا لإمكانيات ومكانة الشيخ العامة، لكن المشترك هو العناية الفائقة بالشكل الجمالي، ابتداء بالنقوش والزخارف الملوّنة في الجدران والسقوف، التي عادة ما تُستلهم من التراث والتقاليد المتوارثة، فضلا عن الأثاث المُختار بعناية أيضا، وبما يناسب المكان وراحة مرتاديه من المخزِنين الذين يقضون ساعات طويلة يوميا في تناول القات، وهذا بدوره يعزّز التواصل الاجتماعي والنقاشات لحدود قصوى حتى بلوغ “نشوة الكيف أو الساعة السليمانية”، وفيها يندمج المُخزّن مع أفكاره أو مع الذي بجواره حتى يقرر الانصراف.

تكاد تغيب مؤسسات الدولة في الأرياف رغم أنه يشكل ثلاثة أرباع سكان البلاد مقارنة بالمدن، وفي مقدمة هذه المؤسسات الشرطة والقضاء والأحوال المدنية، وإن وُجد بعضها فإن ذلك لا يتناسب مع مساحة الأرياف؛ إذ إن كثيرا من المراكز والقرى تفتقر لتلك المؤسسات، مما جعل سلطة المشايخ هي البديل المتاح التي تتخذ من الدواوين مقرا لها.

وبهذا المعنى تبدو الدواوين كأنها حكومات محلية يديرها المشايخ، ويمتثل لها المواطنون طواعية على أساس معادلة الحقوق والواجبات، وكلما كان الشيخ أكثر عدلا وانصافا، قلّت المشاكل وساد الوئام والاستقرار، والعكس صحيح. وهناك عدة عوامل وراء هذا الأمر، مثل الاستقلال السياسي والنزاهة والتقاليد الوراثية الجيدة والالتزام بالأعراف القبلية فيما يتعلق بالمساواة والمساءلة.

من جهة أخرى، تمثل هذه الدواوين برلمانا أو منتدى لتداول القضايا التي تهم الناس، وتمكّن كل شخص من التعبير عن وجهة نظره بشكل صريح ودون إكراه.

الشكل والوظيفة

ويرى د. ياسر الصلوي، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة تعز في حديث لمنصة ريف اليمن، أن النقاش لا يقتصر على شؤون القرية بل يتعدى ذلك إلى مناقشة القضايا الوطنية والعالمية، حيث يجد المواطنون الفرصة للتعبير عن آرائهم وأفكارهم وتصوراتهم فيما تخص قراهم ومصالحها وكذلك مناقشة قضايا مثل مهور الزواج ومنع إطلاق الرصاص في الأعراس وحشد الناس لإنجاز المشاريع من خلال أعمال وأنشطة طوعية أو توفير بعض الخدمات الصحية أو المياه أو الكهرباء أو غيرها وكذلك سن القواعد والسلوكيات الملزمة لأفراد هذه القرى والتي تُصبح سارية المفعول بمجرد الاتفاق عليها.

تؤدي الدواوين دور القضاء، ويعتبرها الشيخ الخولاني بمثابة “المحكمة الأولى التي يلجأ إليها المواطنون لعرض قضاياهم حول أي مشكلة تحصل في القرية ومناقشتها، وطلب رفع المظالم عنهم، ولا تتصدّر من ديوان الشيخ إلا القضايا المستعصية أو قضايا الدماء الكبرى، فتُرفع للجهات المختصة في الدولة”.

وقد يكون من أسباب ذلك، قلة المحاكم والنيابات في المناطق الريفية وافتقار القائمة منها للقضاة وأعضاء النيابة، بحسب دراسة “القصر والديوان- الدور السياسي للقبيلة في اليمن”.

وإلى جانب ذلك، يمتاز التحكيم القبلي بالسرعة في الفصل في المنازعات مقارنة بالقضاء الرسمي، فمثلا تحدّد القواعد المرجعية العُرفية المتوارثة من الأجداد، التي وقعّ عليها مشايخ جميع القبائل اليمنية عام ١٨٣٧، مدة إجراءات التقاضي بستة أيام لتسوية الخلاف في قضية الشجار، بواقع يومين للدعوى والإجابة، ومثلهما لإيصال الإثبات، واليوم الخامس للنطق بالحكم، والسادس للتنفيذ، وأيّ تمديد يعتبر استثناء، ويتحمّل نفقاته الطرف المتعنت، كما يوضح ذلك جمال الوقار، مسؤول قطاع التشريع والقضاء في “مجلس العُرف القبلي”.

ديوان
لعبت الدواوين القبلية دوراً بالغ الأهمية في تنمية الوعي الوطني خلال النصف الأول من القرن العشرين(فيسبوك)

ولمّا كانت كثير من القرى لا تتوفر فيها دور ضيافة للغريب لينزل فيها أو صالات للمناسبات أو مؤسسات مجتمع مدني للتنمية الثقافية، فإن الدواوين تكون بديلا عن كلّ ذلك، ويشير الباحث في التاريخ المعماري مالك حبيب، في حديث لمنصة ريف اليمن إلى أن الديوان “ارتبط بعادة الكرم التي يحرص الناس على التفاخر بها، وإكرام الضيف بتخصيص مكان له يدل على الكرم، والبيت الذي لا يملك ديوانا يدل على بخل أهله وبيت منقوص، والديوان المفتوح أمام الضيوف دليل عن كرم أهل البيت، فيقال للمدح: بيته مفتوح أمام السارح والراجع”.

بدوره يرى الخولاني أن الديوان ملتقى تجمّع أبناء القرية في الأعراس والمآتم، وذلك بحكم أن أغلبهم ليس لديهم مكان كبير يستوعب الضيوف، وأنه ملاذ الوافد للقرية وعابر السبيل وصاحب المظلمة والمسكين الذي يحتاج العون، وأنه مكان عام لأهل القرية جميعا، ويعتبر مثل السبيل مفتوحا طوال الوقت.

ويضيف في حديثه لمنصة ريف اليمن: “ديوان الشيخ ملتقى التثقيف والتوعية السياسية والاجتماعية والتربوية والتعليمية، ويُعتبر منصة لمن لديهم أفكار أو رؤى معينة لعرضها على الناس، وكذلك من يريد معرفة الأخبار العامة، بخلاف المواطن العادي الذي لا يهمه السياسة والأخبار”.

وتصف دراسة “الديوان والقصر” أن الديوان “كان يشكل منتدى للتداول، وقد لعبت الدواوين القبلية دوراً بالغ الأهمية في تنمية الوعي الوطني، ومناقشة القضايا العامة، خلال النصف الأول من القرن العشرين”.

وفي ظل ضعف انتشار أجهزة الدولة القضائية والأمنية، تُساهم الدواوين من وجهة نظر الصلوي “بشكل كبير في استدامة السلم والاستقرار الاجتماعي، خاصة إذا ما كان المشايخ على قدر عال من الوعي والنزاهة ويتحلون بالمصداقية في حل المشكلات”، وبالتالي “تنشأ هذه السلطة من حاجة اجتماعية يفرضها الواقع الاجتماعي، وليس لدى الناس إلا أن يتعاملوا معها لعدم وجود بدائل أخرى يمكن أن يلجؤوا إليها ومنها مؤسسات الدولة”، كما يضيف في حديثه لمنصة ريف اليمن.

نفوذ الشيخ

يكتسب الشيخ نفوذه من منصبه الاجتماعي الذي وصل إليه بالوراثة أو الاختيار الحر من أفراد القبيلة، مما يجعله صاحب القرار في المجتمعات القبليّة، إضافة إلى الدعم الذي قد يحصل عليه من الدولة في إطار تبادل المنافع والمصالح.

ومن منظور علم الاجتماع السياسي، يؤكد د. الصلوي أن “الشيخ ما يزال يحتل مكانة اجتماعية في أوساط المجتمع نظرا لطبيعة المجتمع اليمني وتكوينه، وبسبب ضعف الدولة وعدم تغلغلها للريف بمؤسساتها، سواء سابقا أو حاليا وعدم تفاعلها وتعاطيها مع قضايا المواطنين وفق النظام والقانون، مما يدفع بكثير من الأفراد والأسر والجماعات إلى الخيارات البديلة، ومنها اللجوء للمشايخ لحل الخلافات وتسوية المنازعات”.

وبالإضافة إلى ذلك، يشير الصلوي إلى أن “الدولة خلال العقود الماضية عملت على ربط المواطنين بالمشايخ باعتبارهم الوسطاء بين الأفراد والجهات الرسمية في الدولة في كثير من القضايا، ومنها الخلافات التي تنشأ بينهم، ولذلك يظل الشيخ يؤدي دورا حيويا ومهما بوصفه الوسيط الذي يربط بين الأفراد في القرى وبين مؤسسات الدولة، بمعنى أن علاقة الدولة بالمواطن لم تتأسس على علاقة مباشرة”.

ولدى سؤاله عن طبيعة النفوذ الذي يكتسبه الشيخ من ديوانه، أجاب أستاذ علم الاجتماع السياسي: “اجتماع الناس في ديوانه يُسهم في تعزيز حضوره ومكانته الاجتماعية وحتى السياسية، وكثير من المشايخ الذين تولوا مناصب معينة مارسوا ضغوطا اجتماعية وسياسية على السلطة للحصول على مطالب معينة، واتخذوا من هذه الدواوين مقرا لحشد الناس وإظهار قوتهم باعتبارهم مؤثرين”.

من جانبه، يقول الخولاني إن شيخ القرية يُعد مرجعية للجميع، وفيما يتعلق بالخلافات السياسية والحزبية لا يُظهر الشيخ انحيازه في ديوانه، كما لا ينبغي له استخدام قناعته الحزبية في حلّ القضايا؛ لأنّ هذا ينفّر الناس ويضطرهم للبحث عن بديل له، ويؤكّد أن “له حرية الانتماء السياسي، لكن فيما يتعلق بإدارة مصالح الناس يجب أن يكون متوازنا منحازا لمصالحهم”.

في دراسته “البنية القبلية في اليمن بين الاستمرار والتغيّر” يعتقد الدكتور فضل أبو غانم، وزير التربية والتعليم الأسبق، أن “المميزات الاقتصادية والسياسية التي كانت تُعطى لمشايخ القبائل في العهد الجمهوري قد زادت من سلطاتهم وهيبتهم في إدارة الحياة القبليّة وتمثيل الدولة في المناطق الريفية، ومن ثم توليهم البتّ في مختلف المشكلات والقضايا وفقا للنظم والقوانين العرفية القبليّة عن طريق هيئات التحكيم غير الرسمية التي تصدر أحكامها وقراراتها في القضايا الجنائية المختلفة”.

على مدى 35 عاما، يعمل الشيخ الخولاني في الإصلاح بين الناس في ديوانه بمديرية الطويلة بمحافظة المحويت، وقد شملت جهوده توقيع اتفاقيات بين الناس على نبذ العادات السيئة مثل إطلاق الرصاص في الأفراح لما يحصل فيها من أضرار وغيرها، ويؤكّد أن ٩٧% من مشاكل القرية تُحل عن طريق المشايخ والباقي تذهب للمحاكم والنيابات.

شارك الموضوع عبر:
الكاتب

مقالات مشابهة :