لم تعد أسطح المنازل الريفية في اليمن تتزين بسنابل الذرة الرفيعة التي كانت رمزًا للوفرة والحياة الزراعية، إذ أصبحت تلك الصورة جزءًا من الماضي نتيجة تراجع المحاصيل الزراعية، مما دفع العديد من المزارعين للاعتماد على شراء الحبوب من الأسواق وسط تحديات متزايدة.
وعلى مر العقود يقطف المزارعون اليمنيون سنابل الذرة الرفيعة ويجففونها بعناية على أسطح المنازل تحت أشعة الشمس، ثم يستخرجون الحبوب بطرق تقليدية ليخزنوها في براميل أو مدافن مخصصة، معتمدين عليها كغذاء أساسي طوال العام.
بين الماضي والحاضر
بحسب كتاب الإحصاء الزراعي السنوي للعام 2018م فإن إنتاج اليمن من محاصيل الحبوب الغذائية تراجع إلى 344 ألفاً و648 طناً خلال العام 2018م مقارنة بـ700 ألفاً و962 طناً عام 2014م. كما تراجعت المساحة المزروعة بهذه المحاصيل إلى 505 آلاف هكتار بعد أن كانت 727 ألف هكتار خلال العام ذاته.
سعيد محمد، مزارع يمني سبعيني، يتحدث لمنصة “ريف اليمن” عن ذكرياته مع الزراعة في الماضي فيقول:” كان يأتي موسم الحصاد ولا ندري من أين نبدأ العمل، الخير في كل مكان، وكنا نضطر لاستئجار عمال لإنجاز المهام، أما الآن تغير كل شيء، المحصول شحيح والأمطار قليلة”.
مواضيع مقترحة
• الزراعة في حضرموت.. تدهور فاقمه تغير المناخ
• الفول السوداني.. انتعاشه في “سامع” تفتقد للتسويق
• زراعة البُن بديلاً للقات في قعطبة.. هل تنجح التجربة؟
يتذكر سعيد أنه كان يمتلك ما يزيد عن عشرة براميل في الطابق السفلي من منزله مخصصة لحفظ الحبوب، قائلاً:” كان ينتهي الموسم والبراميل ممتلئة بالحبوب، أما (قصب الذرة) المخصصة للماشية فتظل متوفرة طوال فترة الشتاء”.
لم تكن الحياة قاسية على سعيد وأمثاله من المزارعين في الماضي، لكن الحال تغير خلال السنوات الأخيرة بسبب قلة المحصول نتيجة ندرة الأمطار، وتغير المناخ، الأمر الذي دفع الكثير من المزارعين للتوجه نحو زراعة القات.
المزارع علي نصر، 54 عاماً، يؤكد أن العمل في الزراعة أصبح أقل جدوى. ويقول:”زرعنا الأرض عدة مرات هذا العام، لكن البذور لم تنبت بسبب انقطاع الأمطار، الأمر الذي كبدنا تكاليف مالية، وأثر على المحصول بشكل كبير”.
ويضيف نصر في حديثه لمنصة “ريف اليمن”: “نظرا لقلة المحصول وشحة المياه في السنوات الأخيرة اتجه المزارعون الى زراعة شجرة القات، وطغت هذه الشجرة على معظم الأراضي الزراعية التي كانت مخصصة لزراعة الحبوب؛ كونها تعود بمردود مالي جيد وسريع يساعد على توفير المتطلبات الأساسية”.
وفقاً لتقديرات وزارة الزراعة لعام 2004، كانت مساحة الأراضي المزروعة تبلغ نحو 1,188,888 هكتاراً، منها 685,491 هكتاراً مخصصة للحبوب. لكن السنوات الأخيرة شهدت تغيراً ملحوظاً مع توسع زراعة القات التي تغطي اليوم أكثر من 122 ألف هكتار.
وبحسب التقديرات ذاتها، فإن مساحة زراعة الحبوب البالغة حوالي 685,491 هكتاراً من الأرض، تُنتِج محصولاً يصل إلى 487,944 طنّاً سنويّاً في حين تغطي زراعة القات حوالي 122,844 هكتاراً وتُنتِج حوالي 118,207 أطنان سنويّاً.
أسباب وتحذيرات
وكانت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “الفاو” قد أصدرت تحذيراً بشأن انخفاض حاد متوقع في إنتاج الحبوب باليمن خلال العام الجاري. وأكدت المنظمة أن الإنتاج الكلي للحبوب سيصل إلى نحو 400 ألف طن، وهو ما يقل بشكل ملحوظ عن متوسط الإنتاج السنوي.
وأرجعت المنظمة الانخفاض إلى عدة عوامل متداخلة، أبرزها الظروف الجوية القاسية التي سادت خلال فترة الزراعة، خاصة في المحافظات الرئيسية المنتجة للحبوب مثل الحديدة وحجة وذمار. إذ أن الجفاف الشديد وقلة الأمطار أثر سلباً على نمو المحاصيل، وتسبب في خسائر فادحة للمزارعين.
ويرى فضل عبدالجليل، مستشار مكتب الزراعة في تعز، أن التراجع الكبير في الإنتاج الزراعي خلال السنوات الأخيرة يعود إلى عدة عوامل متداخلة. وأوضح أن الخبرة الزراعية التي كانت لدى الأجداد لم تُورّث للأبناء الذين أصبحوا يبحثون عن فرص العمل السريعة خارج نطاق الزراعة، مما أثر بشكل كبير على الأداء الزراعي التقليدي.
وأضاف عبدالجليل لمنصة ريف اليمن، أن توقف خدمات الإرشاد الزراعي لعب دوراً رئيسياً في تدهور الإنتاج؛ إذ لم يعد بالإمكان النزول الميداني إلى المديريات لتوعية المزارعين بالأساليب الحديثة في الزراعة.
وأشار إلى أن ارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج الزراعي، إلى جانب الإهمال الكبير للأراضي الزراعية، أسهم في انخفاض كميات المحاصيل بشكل ملحوظ.
وتحدث عبدالجليل عن التحديات التي يواجهها مكتب الزراعة، قائلاً: “نحن كمكتب زراعة من المفترض أن يكون عملنا في الميدان بجانب المزارعين والثروة الحيوانية، ولكننا نفتقر إلى الإمكانيات اللازمة. المكتب لا يستلم أي ميزانية تشغيلية، وتم نهب معداته، مما جعلنا عاجزين عن تقديم الدعم المطلوب للمزارعين”.
وأكد أن التغيرات المناخية تفاقم الوضع بشكل كبير، مشيراً إلى السيول الجارفة التي شهدتها بعض المديريات هذا العام، مثل مقبنة والمخا وجبل حبشي، والتي أدت إلى طمر الحقول وردم الآبار، في حين لم تقدم السلطات المحلية سوى جهود محدودة لتقييم الأضرار دون تقديم حلول عملية للمزارعين المتضررين.
آثار اقتصادية
يشير الصحفي الاقتصادي وفيق صالح إلى أن القطاع الزراعي في اليمن شهد تراجعاً كبيراً في السنوات الأخيرة، الأمر الذي أثر سلباً على الأمن الغذائي، وساهم في تفاقم الأزمة الاقتصادية. ويضيف :”هذا القطاع -الذي كان يشكل دعامة أساسية لاقتصاد البلاد قبل الحرب- يعاني الآن من انخفاض حاد في الإنتاج الزراعي، لا سيما في محاصيل الحبوب والخضروات والفواكه”..
وأوضح صالح خلال حديثه لمنصة “ريف اليمن”، أن “القطاع الزراعي كان يوفر فرص عمل لنحو 70% من سكان اليمن، معظمهم من الريف، مما جعله عنصراً أساسياً في تأمين الأمن الغذائي المحلي. ومع ذلك، أدى تراجع المساحات المزروعة إلى تعميق الفجوة الغذائية وزيادة مخاطر انعدام الأمن الغذائي”.
وعدّد جملة من الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع، أبرزها استمرار الحرب والأوضاع الأمنية المتدهورة، وزراعة الألغام في المناطق الزراعية مثل تهامة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الوقود والأسمدة والمستلزمات الزراعية. كما أشار إلى صعوبات التسويق، سواء على المستوى المحلي أو الخارجي، وغياب الاستقرار الأمني، مما أعاق تطور القطاع الزراعي وزاد من معاناة المزارعين.
وأكد أن إعادة إنعاش القطاع الزراعي يتطلب جهوداً كبيرة لتوفير الدعم للمزارعين، وتأمين مستلزمات الزراعة، وتعزيز التسويق الزراعي، بالإضافة إلى تحسين البنية التحتية الزراعية وإزالة المعوقات التي تهدد سبل عيش العاملين في هذا المجال الحيوي.