مرضى التوحّد في ريف اليمن.. معاناة صامتة خلف الجدران

مرضى التوحّد في ريف اليمن.. معاناة صامتة خلف الجدران

بعد مرور خمس سنوات على وفاة الشابة سهير فؤاد التي قضت حياتها حبيسة جدران منزلها في ريف محافظة لحج جنوب اليمن، اكتشفت شقيقتها سميرة، أثناء مشاهدتها محتوى توعويا على الإنترنت، أن أختها كانت مصابة باضطراب طيف التوحّد، هذا التشخيص لم يكن معروفًا لدى العائلة التي حبست ابنتها خوفا من العار.

سهير، التي رحلت عن عمر يناهز 26 عامًا، لم تتلقَّ تشخيصًا طبيًا أو دعمًا متخصصًا خلال حياتها، فقد كانت تُخفى عن أعين المجتمع خوفًا من وصمة العار. هذا السلوك، الذي يبرره كثير بالخوف من استغلال أو تنمر المجتمع، يعكس ظاهرة أوسع تعاني منها كثير من الأسر الريفية في اليمن.

وتُعتبر اضطرابات التوحد مجهولة لدى شريحة كبيرة من السكان في مجتمعات ريفية كاليمن، ونتيجة لذلك، يُترك المصابون دون تشخيص أو دعم مناسب، وتُعزل كثير من الفتيات داخل المنازل لمنع تعرضهن للمضايقات أو سوء الفهم.


مواضع مقترحة

ذوي الإعاقة في الأرياف.. الأكثر تهميشا بالمجتمع
جمعيات الادخار.. وسيلة النساء لتحقيق الأحلام
المحويت.. كنز اليمن المدفون كما لم تعرفها من قبل

تقول سميرة: “ظلّت شقيقتي سجينة في غرفة صغيرة لسنوات طويلة؛ لأنّها كانت تعاني من الصمم وحركات لاإرادية وتأخر في الاستيعاب. كان المجتمع يصفها بالمخبولة، وهو ما دفع عائلتنا إلى حبسها، حتى توفيت أثناء جائحة كورونا عام 2020”.

مثل سهير، عانت خلود (اسم مستعار) من محافظة أبين من الإهمال والحرمان. خلود وشقيقها مصابان بالشلل الدماغي الجزئي والصمم، لكن شقيقها حصل على دعم الأسرة، بينما بقيت خلود حبيسة في المنزل.

يوضح وائل مراد أن شقيق خلود حظي بتشجيع العائلة، فقد تلقى تعليمه بمدرسة متخصّصة في مدينة عدن، وكان والده يسافر به على متن سيارته بشكل يومي حتى تمكن من إتمام تعليمه الدراسي، أما خلود فظلت معزولة، ولم يحاول أحد تعليمها أو مساعدتها على الاندماج، وكل سلوكياتها حاليًا تفيد بأنها متوحّدة.

وأضاف: “تجاوز شقيق خلود مرحلة العجز وتخرج من الجامعة، بينما تفاقمت حالة شقيقته، وعند سؤال والدتها عن سبب حرمانها بررت ذلك بالخوف عليها من الاستغلال، وهو واقع تواجهه معظم الفتيات المصابات بالتوحد في اليمن”.

وفي الوقت الذي تعرّف فيه منظمة الصحة العالمية مرض التوحد بأنه مجموعة من الاضطرابات المعقدة لنمو الدماغ، تشير جمعية الأطباء النفسيين الأمريكية إلى أن التوحد اضطراب تطوري متعدد الجوانب، يتضمن قصورا في التواصل واللغة والسلوكيات النمطية المتكررة، على أن تظهر هذه الخصائص قبل بلوغ الطفل عامه الثالث.

ولا توجد إحصائية دقيقة بعدد المصابين بهذا المرض في اليمن، بسبب ندرة الدراسات العلمية والتشخيص المتأخر وتداعيات الحرب وتأثيراتها السلبية على تقديم الخدمات الصحية والتعليمية للأطفال المصابين بالتوحد.

أطفال يمنيون مصابون بطيف التوحد داخل جمعية أطفال عدن للتوحد (صفحة الجمعية على فيسبوك)

غياب الدعم والتأهيل

ويعاني الأطفال المصابون بالتوحّد في اليمن من غياب الدعم والتأهيل، خاصة في المناطق الريفية، وتشير مريم صحران، رئيسة قسم التدخل المبكر بجمعية أطفال عدن للتوحد، إلى أن الحرب زادت الوضع سوءًا، مع انهيار القطاع الصحي وتراجع الخدمات الأساسية.

وتوضح صحران لمنصة ريف أن المصابين بطيف التوحد يواجهون صعوبات في التواصل الاجتماعي، مثل فهم الإشارات غير اللفظية وبناء العلاقات، كما يُظهرون أنماطًا وسلوكيات متكررة واهتمامات محدودة، وتشير إلى أن الجمعية تقدم خدمات لـ316 حالة، تشكل الإناث أقل من 20% منها.

مشيرة إلى أن العوامل الوراثية والبيئية لها دور في الإصابة بالتوحد، ولا يوجد علاج شافٍ، ولكن يمكن تحسين جودة الحياة بالرعاية المناسبة، وهو ما تقدمه الجمعية برسوم رمزية.

يتزايد انتشار حالات طيف التوحد بين أطفال الريف اليمني، لا سيما الأطفال الذين ولدوا إبان اندلاع الحرب عام 2015؛ إذ لا تتوفر لهم أي مراكز للرعاية والتأهيل. ويواجه أهالي المصابين تحديات كبيرة بسبب انهيار القطاع الصحي بالإضافة إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.

وتؤكد أم جمعة، وهي أم لثلاثة أطفال مصابين بالتوحد، أنها اضطرت إلى التوقف عن اصطحابهم إلى جمعية أطفال عدن بسبب التكاليف المالية المرتفعة. وتقول: “نسافر من لحج إلى عدن، وننفق تقريبا 300 دولار شهريًا على الدراسة والتنقل والمعيشة، وهو مبلغ لا نستطيع توفيره، خاصة في ظل عدم وجود فاعل خير يكفل الحالات”.

في السياق نفسه، تؤكد أفراح رضوان مديرة مدرسة متخصّصة للأطفال ذوي طيف التوحد أن نقص التمويل يؤثر على قدرة المرافق المختصة بأطفال التوحد على شراء المعدات اللازمة، وتوفير غرف تدريب، وتعيين مدربين رياضيين، وضعف البنية التحتية التي تحد من وصوله إلى الريف اليمني.

نشاط ترفيهي لأطفال مصابون بطيف التوحد في محافظة عدن. أكتوبر / 2023م

وتقول رضوان لمنصة ريف اليمن: “تسعى مدرسة بن جريبة لتقديم أفضل رعاية وتعليم لهذه الفئة من الأطفال، ومن ضمنهم أطفال يسكنون الأرياف”، مشيرة إلى أن برنامج المدرسة يركز على تطوير جميع جوانب حياة الطفل، بدءًا من المهارات الحياتية الأساسية، ووصولًا إلى المهارات الاجتماعية والتواصلية، بالاعتماد على أساليب تعليمية متنوعة.

ضعف الوعي يفاقم المعاناة

وأوضحت أن الظروف الاقتصادية الصعبة تؤثر على توفير الموارد الأساسية والقرطاسية والألعاب، وأن البعد الجغرافي عن الأرياف يحرم كثيرين منهم من التعليم. وتضيف: “ضعف الوعي يجعل أهالي الريف يترددون في البحث عن العلاج أو المتابعة، وهو ما يؤدي إلى تفاقم الحالات”.

في محاولة لفهم الوضع، يعمل طلاب من كلية الطب بجامعة عدن على دراسة تشمل عدة محافظات لرصد حالات الشلل الدماغي المرتبط بالتوحد. وتقول نهلة معمر، طالبة طب ومشاركة في الدراسة، إنهم يرصدون الحالات التي تصل إلى مستشفى الصداقة والجمعيات والمراكز المختلفة قدر الإمكان.

ورصدت الدراسة حتى تاريخ نشر هذا التقرير نحو 232 حالة في مستشفى الصداقة بعدن، و55 حالة في مركز الملك سلمان، و30 حالة في مركز الفردوس، و63 حالة في مركز الحق في الحياة للتأهيل، وفق نهلة.

وتؤكد لمنصة ريف اليمن أن ضعف الوعي يجعل الأهالي لا يبحثون عن سبل للعلاج، لا سيما في الريف اليمني، وتقول: “بعض الحالات تسقط من بين أيدينا بسبب عدم انتظام أهالي الريف بالمتابعة. ونحن -طلاب الطب- ما زلنا نطمح بالوصول إلى جهة تتبنى جهودنا وتعمل على تمويلها، لأن كل ما نبذله بإمكانيات ذاتية لا تكفي لمستوى ما ينبغي تقديمه”.

وفق إحصائيات عالمية تعاني طفلة واحدة من من بين كل أربعة أطفال ذكور من طيف التوحد. ويُصيب مرض اضطرابات طيف التوحد الملايين حول العالم؛ إذ تشير أرقام الأمم المتحدة، إلى أن حوالي 1% من سكان العالم مصابون بالتوحد، أي ما يقارب 70 مليون شخص.

ورغم تقدم العالم في دعم الأطفال ذوي طيف التوحد، يعيش أطفال الريف اليمني عزلة اجتماعية، وبعدًا عن أبسط الخدمات الصحية والنفسية، ما يجعلهم بحاجة للرعاية والتأهيل هم وأسرهم التي تعاني بصمت.

شارك الموضوع عبر:
الكاتب

مواضيع مقترحة: