لم تمر ليلة الجمعة الماضية، 30 أغسطس 2024، مثل غيرها من الليالي على سكان مديرية وصاب السافل بمحافظة ذمار وسط اليمن، فقد شهدت المنطقة كارثة إنسانية، بسبب غزارة الأمطار وتدفّق السيول التي جرفت المنازل والمحلات التجارية، وأحدثت مأساة غير مسبوقة بالمنطقة.
تحوّلت الأمطار التي استمرت أربع ساعات متواصلة، إلى سيول جارفة، اجتاحت قرية الجُرف بعزلة بني موسى، وقرية الحَصب بعزلة وادي الخشب التابعة للمديرية، وخلفت وراءها ضحايا كٌثر، وأحدثت دمارًا واسعًا بالمنازل والأراضي وكل شيء كان في طريقها.
بصوت يملؤه الحُزن، تحدّث المواطن وليد طالب(45 عاما)، أحد الناجين من الكارثة لريف اليمن، قائلًا: “كنتُ في منزلي الساعة الثامنة مساءً، والمطر متواصل منذ الساعة الرابعة عصرا، وبعد تناول وجبة العشاء، حدث ما لا تُحمد عقباه، سيل قوي جَرف المنزل بكل مَن فيه”.
ويضيف لمنصة ريف اليمن: “شطرَ السيلُ منزلي شطرين، وبفضل الله ثم تدخّل الجيران نجونا، إذ قام الجيران بإنقاذنا بالحِبال للأعلى، نجوتُ انا وزوجتي وخالتي، بعد أن استمرينا عالقين لأكثر من ربع ساعة، داخل الجزء الذي ظلّ قائما من المنزل”.
مواضيع مقترحة
-
الفيضانات تعمّق جراح اليمنيين
-
سُكان المنازل القديمة.. معاناة صامتة بسبب الأمطار
-
قرى نقيل سُمارة بإب: معاناة غير مرئية بسبب السيول
لحظات قاسية
يقول وليد بحسرة: “لم يعد هناك شيء نعيش لأجله، فقدتُ سبعة من أفراد أسرتي: عبد الجبار 22 عاما، بندر 20 عاما، أمل 21 عاما، أريام 15 عاما، رِهام 5 أعوام، أشواق 20 عاما، يزن عامان، وخسرت منزلي ومحلّي التجاري وسيارتي ودراجتي النارية، وضاعت كثير من مدرجاتي الزراعية”.
يوضّح عبد الكريم عبد العلي(45 عاما)، وهو أحد الشخصيات الاجتماعية في العزلة، أن قرية الجُرف منخفضة بالنسبة لما حولها من الجبال العالية والشِّعاب، وتحيط بها الجبال مِن ثلاث جهات، ومع غزارة الأمطار نزلت سيول لا عهد لهم بمثلها”.
ويضيف لمنصة ريف اليمن: “مع كل موسم، تنزل الأمطار فتسقي المدرجات الزراعية، لكن هطول المطر بدأ هذه المرة مِن الساعة الرابعة عصرا، واستمرّ إلى وقت وقوع الحادث الساعة الثامنة مساء، فلم تتحمل بعض المدرجات الزراعية مقاومة كمية المياه، وانهار كم كبير من الصخور والسيول دفعة واحدة على منازل المواطنين، وحدثت الكارثة”.
ويشير إلى أن السيل نزل مباشرة على منزل المواطن وليد طالب، فجرفه مع محله التجاري، وهنجره الواقع تحت المنزل الذي يستخدمه معملا لحياكة المعاوز، وجرف مجلسا للمقيل يجتمع فيه الأهالي بشكل مستمر، ويلفت إلى أنه وقت السيل كان داخل الهنجر 18 شخصا، بينهم أناس من قرى مجاورة، كانوا منتظرين توقّف المطر ليعودوا إلى منازلهم، لكنهم لقوا مصرعهم جميعا.
وكانت الأمم المتحدة قد قدرت ضحايا السيول والفيضانات والصواعق الرعدية التي شهدتها البلد منذ بداية الموسم وحتى الـ19 من شهر أغسطس الجاري فقط، بـ98 حالة وفاة وأكثر من 600 إصابات، فيما طالت الأضرار منازل أكثر من 38 ألف و285 أسرة يمنية، وأثرت الكارثة على نحو ربع مليون يمني.صدمة مروعة
المواطن منصور أحمد، أيضا، ما زال يعيش حالة من الصدمة المروعة، بعد أن جرفت السيول أحلامه، وسلبته أعزّ ما يملك: ولديه عمادا ومالكا، تتلاطم مشاعره كالأمواج العاتية، بين ألم الفراق وذكرياتهم التي لا تفارق ذهنه، تفيض عيناه بالدموع، يتذكر ضحكات أبنائه ولعبهم في أروقة المنزل ونواحي القرية، كل زاوية من زوايا البيت تحكي قصة حب وعطف ورعاية، لكن تلك القصص أصبحت اليوم جراحًا مؤلمة.
بصوت متهدّج، يحكي أحمد ما حدث قائلًا: “كنتُ في قرية الجُرف السُفلى أثناء نزول الأمطار من بعد العصر، ولم أستطع العودة إلى قريتي الحَصب، بسبب غزارة الأمطار واستمرارها إلى الساعة الثامنة مساءً، ثم جاءنا نبأ بالفزعة لوليد طالب؛ لأن بيته جرفه السيل، ولم أعلم أن أبنائي سيكونون ضحايا آخرين لهذه الكارثة”.
ويضيف لمنصة ريف اليمن: “جرف السيل أيضا 18 شخصا كانوا داخل أحد الهناجر، لم نتمكن من إنقاذ الضحايا بسبب انقطاع الطريق. وصلت فرق من الهلال الأحمر فجرا مشيا على الأقدام، وساعدتنا في انتشال الضحايا من أماكن متفرّقة ومسافات بعيدة. منزلي تعرّض للخراب وممتلكاتي الزراعية تدمرت بشكل كبير”.
ويعبر بصوت يعتصره الألم: “لم نجد الضحايا بسهولة. جرفهم السيل مسافات بعيدة تقدر بالكيلوهات. ابني عماد وجدناه في منطقة باب الجُؤرية، وابني مالك وجدناه في منطقة الشّايلة، وبقية مَن جرفهم السيول عُثِر عليهم في مناطق متفرقة، وبعضهم جُرفوا حتى قرب مدينة الجراحي التابعة لمحافظة الحديدة”.
فرق إنقاذ مجتمعية
بسبب غياب فرق الإنقاذ الرسمية وطواقم الدفاع المدني لنحو 24 ساعة، شكّل الأهالي فرق إنقاذ مجتمعية في قرية الجُرف وقرية الحَصب، وذلك بغرض الوصول إلى جثث الضحايا والمفقودين، الجثث التي طمرتها السيول وجرفتها إلى مسافات بعيدة.
يقول منير علي (30 عاما) وهو مساعد طبيب: “إن الطريق إلى قرية الجُرف ظلّت مقطوعة، ولم تتمكن طواقم الدفاع المدني من الوصول إلى القرية، ولم يكن هناك إلا الجهود المجتمعية لانتشال الضحايا”.
وبعد يومين مِن الكارثة، تكلّلت الجهود المجتمعية ومعها فرق الإنقاذ بالعثور على ثلاثة مواطنين على قيد الحياة، بعد أن جرفتهم السيول لمسافة بعيدة، إلا أن عناية الله ولطفه كانت بهم أكبر، وكتب الله لهم عمرا جديدا. فبحسب شهود عيان، ظلّت مرام (11 عاما) محتضنة لأخيها الأصغر الذي انكسرت رجله في الظلام بسبب السيل، وظلّوا في هول الموقف لفترة طويلة يصرخون ويصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة، إلى أن وصل إليهم المنقذون من شباب المنطقة.
وحول عدد الضحايا، قال مدير مكتب حقوق الإنسان في المديرية محمد البريد: “إن الكارثة الإنسانية التي حلّت بقريتَي الجُرف والحَصب أدّت إلى وفاة 30 شخصا، وإصابة 8 آخرين، أُسعفوا إلى مستشفى الثورة في محافظة الحديدة.
وأوضح البريد في تصريح لمنصة ريف اليمن، أن هناك خسائر كبيرة في الممتلكات والمنازل تمثلت بعدد 4 سيارات و28 منزلا تدمرت كليًا وجزئيًا و2 محلات تجارية و2 درجات نارية، وخراب واسع للمدرجات الزراعية.
وتنصّ المادة (33) من الدستور اليمني، تكفل الدولة بالتضامن مع المجتمع تحمُّل الأعباء الناجمة عن الكوارث الطبيعية والمحن العامة، كما تؤكد المادة (35) من الدستور اليمني أنّ حمايةَ البيئة مسؤولية الدول والمجتمع، وهي واجب ديني ووطني على كل مواطن.
تذكّر هذه الكارثة القاسية بأن الإهمال المتواصل وعدم الالتزام بالبناء بعيدا عن المناطق الخطرة ومجاري السيول لها تكلفة باهظة في الأرواح والممتلكات، وبسببه تتصاعد صرخات الأمهات الثكلى، وتُكتب قصص المعاناة على جدران المنازل المهدمة.
رغم مرور أيام على الكارثة، لا يزال منصور وطالب وغيرهم كثير ممن فقدوا أهاليهم يُصارعون مشاعر الهلع والضعف، لكنّهم في الوقت نفسه يتشبثون بخيط الأمل، ويتمنون أن تتحوّل هذه الأحزان إلى قوة جديدة تعيد بناء ما تهدّم، وفي خضم العواصف يبقون رمزًا للصمود، يحملون شجاعة الآباء الذين يخوضون معاركهم متمنين أن تسطع شمس الأمل من جديد.