تشهد مناطق واسعة في اليمن أمطارا غزيرة وسيولاً جارفة متواصلة منذ أسابيع، سبّبت سقوط مئات من السُكان، وأضرارا جسيمة للمنازل القديمة والمواقع التاريخية والمدرجات الزراعية وشبكات الطرق في مختلف مناطق البلاد، لا سيما تلك الواقعة في الأرياف.
ويشكو سكان القرى والمناطق الريفية اليمنية من تزايد المخاطر التي تهدّد منازلهم المبنية بالطين والحجارة؛ إذ تتعرّض هذه الأبنية للتآكل والانهيار بسبب تأثيرات الأمطار والسيول المستمرة منذ مطلع أغسطس الماضي، وتشير توقعات الأرصاد الجوية استمرارها حتى منتصف سبتمبر المقبل.
ويتحدّث السكان عن المعاناة بسبب الأمطار هذا العام، وقد تفاقمت بشكل لافت مقارنة بالسنوات السابقة، وهو ما يعزوه بعض الخبراء إلى تأثيرات التغيرات المناخية التي أصبحت أكثر وضوحًا في البلاد، ولا سيما في هطول الأمطار، فقد شهدت اليمن خلال يوليو ويونيو الماضيين انقطاعا للأمطار الموسمية تسببت بتلف المحاصيل.
مواضيع مقترحة
- قرى نقيل سُمارة بإب: معاناة غير مرئية بسبب السيول
- “الخشابي”.. قرية في إب يهدّد سكانها الموت بمنازلهم
- السيول والانهيارات تقتل المواطنين في المناطق الجبلية
خسائر كبيرة
مع فجر يوم الجمعة 23 أغسطس 2024م، بينما كان الظلام لا يزال يغمر سماء قرية شمسان في عزلة جبع بمحافظة المحويت، انهار سقف منزل المواطن حسن الدروبي على أسرته في لحظة مفجعة، ليخطف ستة أرواح من دون سابق إنذار، وهم حسن، وزوجته، وأربعة من أطفاله.
وبين أصوات الرياح العاصفة وهطول الأمطار الغزيرة، هرع السكان إلى منطقة الحادثة، لكنهم لم يتمكّنوا من فعل شيء سوى الوقوف بذهول وحزن أمام هذا المشهد الأليم.
لم تكن عائلة حسن هي الضحية الوحيدة، بل أسفرت السيول التي ضربت منطقة ملحان وامتدت لتضرب القرى المجاورة، عن وفاة أكثر من 50 مواطنا، بينهم نساء وأطفال، حيث جرفت السيول منازلهم وكأنها لم تكن، وفقاً لمصادر محلية.
وشهدت المديرية ذاتها تدمير 28 منزلاً بشكل كلي، وتصدع نحو 200 من المنازل التي يتم بناؤها في الغالب من الحجر والطين والأخشاب، كما تعرضت المنطقة لخسائر كبيرة في الممتلكات.
وفي الحديدة، بلغ عدد من قضوا إزاء السيول الجارفة في غالبية مديريات المحافظة وفقاً لتقارير وثقّت الضحايا، 67 حالة وفاة، وإصابة 12 آخرين، وتضرر 12 ألفاً و798 أسرة في القرى والمناطق التهامية، خاصة التي تقع بالقرب من الأودية التي فاضت بسيول الأمطار بشكل غير مسبوق منذ عدة عقود، فيما نزح نحو ألفين و222 حالة من قراها جراء تهدم منازلها بشكل كلي.
تتكرر مثل هذه المأساة كل عام في القرى القديمة التي تتعرض لخطر انهيار منازلها جراء استمرار هطول الأمطار، مما يدعو للقلق حول مصير آلاف الأسر التي تعيش في ظروف ريفية مشابهة. ويتحدث السكان عن تزايد كمية الأمطار هذا العام بشكل ملحوظ مقارنة بالسنوات السابقة، وهو ما يعزوه بعض الخبراء إلى تأثيرات التغيرات المناخية التي أصبحت أكثر وضوحاً في البلاد.
ويقول المواطن محمد حسن إن عددا من المنازل القديمة تأثر بشكل كبير بقرية الخشابي في مديرية بعدان بمحافظة إب، مؤكداً انهيار أجزاء منها، بسبب الحالة الماطرة، ويضيف لريف اليمن وهو أحد السكان: “نقف عاجزين أمام هذه الكوارث الطبيعية، منازلنا أصبحت في خطر”.
وتابع: “نخشى على ما تبقى من تراث أجدادنا وممتلكاتنا التي تأوينا، لا سيما في ظل هذه الأوضاع الاقتصادية الصعبة”، مشيراً إلى أن المنازل القديمة في القرية لم تُبنَ لتتحمل هذا القدر من الأمطار الشديدة.
الدميني محمد أشار بدوره إلى أن منازل قديمة في قرية الجمري بالمديرية نفسها تهدمت للسبب نفسه، وذلك في ظل انهيارات مماثلة في قرى مجاورة متعددة.
وتقول مصادر محلية إن أكثر من 10 آلاف منزل انهارت بشكل كلي وجزئي في قرى وبلدات مديريات محافظتي الحديدة الساحلية وريمة المجاورة ومديرية القفر بمحافظة إب، في حين يتجاوز عدد الذين لقوا حتفهم في مختلف مناطق البلاد الى أكثر من 120 شخصاً، وعدد المصابين الـ 600.
المواقع الأثرية في خطر
لم تكن المواقع والمنازل الأثرية في اليمن بعيدة عن هذه الكارثة، فقد تسبّبت الأمطار التي هطلت الأسبوع الماضي في انهيار أجزاء من قلعة زبيد التاريخية في محافظة الحديدة غرب اليمن.
وبحسب مصادر رسمية، انهار الجزء العلوي من واجهتها الشمالية وسقطت أجزاء من أسقف الثكنات الغربية التي تضم متحف الموروث الشعبي، وإلى جانب ذلك تضرّرت إحدى أبراج الجهة الشمالية من سور مدينة ثلا الأثرية التي تقع في محافظة عمران شمال صنعاء.
وبعد يومين انهارت نوبة اخرى في سور المدينة وهي نوبة “باب الهادي” في الجهة الجنوبية من السور، كما انهارت منازل أخرى في مدينة “حبابة” التاريخية في ذات المحافظة.
وفي محافظة البيضاء وسط البلاد، تعرّضت قلعة رداع التاريخية قلعة شمر يهرعش لانهيارات جزئية في أجزائها الغربية وبوابتها الرئيسية، مما أثار مخاوف من حدوث كارثة للمنازل المحيطة بها، وسط أحاديث عن القلعة مهددة بالانزلاق من جميع جوانبها.
هذه الانهيارات في المدن والأماكن التاريخية تأتي على الرغم من المناشدات الواسعة من السكان للجهات المعنية لترميمها من دون استجابة، ويتهم بعض ملاك هذه المباني الهيئة العامة بـالإهمال والتقصير.
ولأن منازل هذه المدن مدرجة ضمن التراث اليمني، لم يتمكن الأهالي من ترميمها، فقد أشار مَن يمتلكون بنايات فيها إلى أن السلطات منعتهم بحجة أنها تتطلب تدخلاً رسمياً، وهو ما أكّده المواطن صلاح الجلال في منشور على صفحته بفيسبوك.
وقال الجلال: “بعد أشهر من المتابعة لدى الجهات المعنية بان بيتنا الكائن في بستان السلطان (صنعاء القديمة) قد يسقط كونه من البيوت المهددة بالسقوط وقد تتأثر البيوت المجاورة أيضا”، ومع العلم أن البيوت في بستان السلطان تعتبر بيوت تاريخية لا يسمح بهدمها او تصليحها. للأسف ما حذرنا منه حصل سقط البيت وتضرر كل البيوت المجاورة له والحمدالله لم يصاب أحد”.
وتقول الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية في صنعاء إنها سجلت مئة بلاغ لمبانٍ تاريخية معرضة للسقوط في مدينة صنعاء القديمة، وناشدت الهيئة الجهات المحلية والدولية لتقديم المساعدات العاجلة لترميم وتأمين المباني التاريخية المتضرّرة في هذه الأماكن والمدن التراثية.
صنعاء القديم كانت حاضرة أيضا، حيث انهار اثنان من المباني الأثرية وتضرّرت منازل مجاورة، أحد هذه المنازل في حارة بستان السلطان، في حين انهارت أكثر من ثمانية منازل تاريخية في مدينتي جبلة وإب القديمة.
تأثر الزراعة والطرق
تزداد صعوبة الحياة في الريف مع كل موسم أمطار، حيث تفتقر عدد من المديريات للبنية التحتية التي تضمن سلامة السكان واستمرارية الحركة. هذه المشكلة ليست جديدة، ولكنها تتفاقم مع مرور الوقت، مما يستدعي تدخلاً عاجلاً من قبل الجهات المعنية.
ومن أبرز أشكال التأثيرات التي يحدثها هطول الأمطار وتدفق السيول على السكان: جرف المزارع والطرقات الرئيسية والفرعية، والانزلاقات الصخرية، وانهيار المدرجات الزراعية، وفقدان الممتلكات مثل المواشي والمركبات والثمار، مع مصادر الكسب.
وفي بعض الأرياف يلجأ السكان للتنقّل سيرا على الأقدام واستخدام الحمير والجمال، بسبب الانزلاقات الصخرية والترابية التي تؤدي إلى قطع الطرق الرئيسية لمناطقهم مثلما حدث في بلد شار بمديرية العُدين غرب إب، ويتطلب العمل لإزالة ذلك أيام وقد يمتد لأسابيع.
وفي وجه آخر من المأساة، يجد سكان قرية قَذَام في مديرية النادرة جنوب شرق المحافظة نفسها أنفسهم محاصرين بسبب قطع الطريق الوحيد الذي يربطهم بمدينة النادرة مع كل موسم أمطار. ويعيش نحو 2000 شخص في هذه القرية الريفية وضعاً أشبه بالحصار، وتكون الحركة مستحيلة لساعات وأحياناً لأيام، وتتطلب إنهاء معاناتهم بناء جسر يربطهم بمركز المدينة.
وبحسب ما ذكرته السلطات المحلية، هناك أكثر من 1400 طريق رئيسي وفرعي، جرفتها سيول الأمطار في محافظتي الحديدة وريمة في أسبوعين، أغلب هذه الممرات في الأرياف. وتصدرت محافظات الحديدة، مأرب، حجة، ريمة، المحويت، تعز، أكثر مناطق البلاد تأثراً من هذه الفيضانات التي لا تزال مستمرة وتهدّد حياتهم، وفق جهات محلية ومنظمات إغاثية.
يشير المزارع نبيل حسان في حديث لريف اليمن إلى أن سيول الأمطار المتدفّقة من جبال ريمة جرفت مزرعتهم في مديرية السخنة شمال شرق الحديدة، وحرمتهم مِن جني محصولها الذي كان مقرّرا نهاية الشهر الجاري، منوّها إلى أن الفيضانات أيضاً طمرت وجرفت مزارع أخرى بالمنطقة.
وقال حسان إن أرضه كانت مزروعة بالفلفل، وقد قدّر قيمة ما خسره بـمليون ريال، وأنه كان يبذل جهودا منذ أكثر من شهرين للحصول على تلك المبالغ لتسديد ما عليه من تكاليف وتغطية ما تبقى لنفقات أسرته.
فارس علي، وهو سائق شاحنة يعمل في نقل الخضروات مِن الحديدة إلى صنعاء، أكّد عدم قدرتهم في الأيام الماضية من الوصول إلى بعض المزارع، خصوصا البعيدة منها، وذلك بسبب استمرار هطول الأمطار وتدفق السيول وجرف الطرقات، مشيرا إلى أن ذلك زاد من قيمتها في السوق المحلي.
وعلى الرغم من تأثر المجتمع الريفي بالمنخفض الجوي بشكل كبير، وفقدانهم ممتلكاتهم ومصادر أرزاقهم، لا تصل المساعدات التي يُعلن عنها بين الحين والآخر من منظمات إغاثية وجمعيات إلى أغلب مناطقهم المتضررة وذات الخسائر الكبيرة.
وفي ظلّ هذه المعاناة المتفاقمة، يشدّد السكان على ضرورة وضع خطط طارئة من الجهات المختصة لعمليات إغاثية تشمل جميع المتضرّرين في الأرياف، مع تشكيل فرق عمل محلية لتقديم الإرشادات للسكان.
وتقول الأمم المتحدة إن الفيضانات الكارثية التي ضربت اليمن تسببت بمصرع 98 شخصا وإصابة 600 آخرين، وأثرت على أكثر من 294 ألف شخص في البلاد منذ مطلع العام 2024، وإن أكثر من 38 ألف أسرة أصبحت بلا مأوى، فيما أشارت مسؤولة أممية إلى تأثر نحو 695 ألف أسرة بشكل مباشر.