في منزل قديم تقضي “ياسمين الردفاني” ( 32عاما)، نحو ثلاث ساعات يوميا، لتقوم بإعداد الوجبات الرئيسية، وطهيها على الطريقة التقليدية في تنور الحطب المصنوع من الطين، بمنطقة ردفان بمحافظة لحج (جنوب اليمن)، وتدفع من صحتها في سبيل ذلك بسبب دخان الطبخ، ولا تمتلك بديل
تعتمد “ياسمين” على الحطب بشكل أساسي للطبخ ومعها كثير من النساء، منذ أن كانت طفلة في بيت والدها، وتحديدا منذ 20 عاما، حيث تسكن في قرية ريفية على بعد 15 كيلو عن السوق الرئيسي للمنطقة و(35 كيلو إلى سوق ردفان العام)، بالإضافة إلى الصعوبات الاقتصادية التي فاقمتها الحرب، كما تقول لمنصة ريف اليمن.
بلباسها التقليدي الخفيف تجلس “ياسمين” بجوار المصعدة (تنور طيني لطهي الطعام) لإعداد الطعام وسط دخان كثيف، يجعلها تشعر بالكحة الشديدة والسيلان من أنفها وعيناها، لكنها تضطر للمكوث حتى ينضج الطعام وتقول:”لا يمكنني الابتعاد عن المصعدة؛ لأني اقوم بإدخال الحطب باستمرار لإنضاج الطعام”.
نساء الريف في ردفان
المصير نفسه واجهته “أروى” (40 عاما) عندما كانت تجلس إلى جانب المصعدة، وهي حامل في شهورها الأولى، كانت تشعر بسعال مستمر، حتى أجهضت حملها، ولا تختلف معاناة ” هندية” عن رفيقاتها، حيث لا زلت تعاني من السل الرئوي الذي أصيبت به عندما قامت بإحراق أخشاب بنايات قديمة؛ لإعداد الطعام.
تقول ياسمين لمنصة ريف اليمن: “عندما حملت زادت المعاناة كثيرا مع المصعدة”، وتضيف”: أشعر بضيق تنفس أظن بأنها اللحظات الأخيرة من عمري، وأحيانا تصل المعاناة حد الإغماء مع السعال”، حيث وأن الأخير كان من نصيب طفلتها “سحر” منذُ الولادة.
ومثل “ياسمين” مئات النساء على مستوى المنطقة، وفي غالبية مناطق وقرى ريف اليمن، الذين يعتمدن على الحطب كوقود أساسي لطهي الطعام.
وبحسب منظمة الصحة العالمية ينتج عن اشعال الحطب جسيمات دقيقة تدخل إلى الرئتين، مما تسبب أمراض الجهاز التنفسي والقلب، ومنها ما يخترق الأغشية المخاطية بالجسم وتدخل إلى الدم مسببةً الإصابة بأمراض الدماغ والجلطات.
كما ينتج عن الاحتراق مادة الكربون، وهي أحد أكبر المساهمين في تغير المناخ بعد ثاني أكسيد الكربون، وفي الوقت نفسه تترسب جزيئات الدخان في طبقة الأوزون التي لا تزال تنبعث في البيئة ويستنشقها الآخرون، بعيداً عن أولئك الذين استعملوه بشكل مباشر.
تضيف “ياسمين” لمنصة ريف اليمن، إن “الطبيب أخبرها بأنها مصابة بمرض الانسداد الرئوي المزمن، منذ سنوات طويلة، حيث أن رئتيها تحولت إلى اللون الأسود؛ مما جعلها غير قادرة على تنقية الهواء بشكل جيد”.
“عندما علمت بمرضي حاولت أن أمنع بنتي الصغيرة من الطبخ على المصعدة، تقول ياسمين، لكن أولادها جميعهم يعانون من الربو أكثر الأوقات، وقد فقدت طفلتها “سحر” -4 أشهر، في 2021م، نتيجة شدة السعال- بسبب اختناق مفاجئ في إحدى الليالي الباردة؛ ويرجح أنها كانت مصابة بسبب تلوث المنزل بالدخان وقت إعداد الطعام”.
يشكل الدخان المتصاعد من الحطب المشتعل، عبئا ثقيلا على حياة اليمنيين إلى جانب نقص الأوكسجين الذي يعاني منه اليمن منذ زمن، والذي تسبب في ضيق التنفس وفقدان الوعي، ناهيك عن انحسار المساحات الخضراء، وتأكل الغطاء النباتي.
ونبهت منظمة الصحة الدولية في الآونة الأخيرة إلى أن المصادر الأكثر شيوعاً للهواء غير الصحي في اليمن، هي “دخان التبغ، وتلوث الهواء في الأماكن المغلقة من حرق الوقود الصلب، والهواء غير الصحي في مكان العمل، وتلوث الهواء من مصادر حركة المرور”.
في ريف ردفان، وهي لا تختلف كثيرا عن أرياف اليمن الأخرى، تعمل الفتيات على الموقد في سن مبكرة، إلى أن يصبحن نساء يتحملن مسؤولية أسرة وأطفال؛ مما تتفاقم المعاناة بشكل أكبر، وهذا يهدد صحتهن ويعرض حياتهن الاجتماعية والنفسية للخطر.
عبئ ثقيل
يس هذا فحسب، بل يقع على المرأة كذلك الذهاب للجبال لجمع الحطب والأخشاب وتولي أمر المنزل بأكمله من اعداد الطعام، وغسل الملابس، وجلب الماء، والاهتمام بالحيوانات؛ وهذا ما حرم الطفلة ” ولاء ” (12 عاما)، من الحصول على حقها في التعليم، كغيرها من الفتيات.
لم يكن الحرمان من التعليم مقابل تولي أمر المنزل حكرًا على “ولاء” رغم صغر سنها، فكثير هن الفتيات التي استطلع التقرير أراهن عن التعليم، واللاتي عبرن عن رغبتهم في التعليم، لكن الظروف في الريف حالت دون ذلك.
حاليا تعاني “ولاء” من تهيج العينين عند تعرضها لدخان الحطب، لكنها ما فكرت أن تطبخ على وقود نظيف، فهو من الأمنيات التي لم تتحقق لها، وتحلم أن يكون في المستقبل.
ويقدر عدد الوفيات لنفس السبب على مستوى العالم وفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية ب 4.2 مليون أثناء التعرض لتلوث الهواء الخارجي، بالإضافة إلى 3.8 مليون شخص أثناء التعرض للدخان المنزلي الناتج عن المواقد وأنواع الوقود القذرة، أبرزها دخان الحطب.
ويعتبر الدخان سبب رئيسي في أمراض الجهاز التنفسي ومضاعفات الولادة وأمراض القلب والوفيات المبكرة للأطفال، وفقًا لنتائج اللقاء السنوي الذي تقيمه جمعية علم الأشعة بأمريكا الشمالية سنة 2020 (RSNA).
وأظهرت النتائج أن من يستخدمون الحطب في الطبخ لديهم تركيز أعلى من المواد الملوثة والسامة في الرئة، مقارنةً بمن كانوا يستعملون الغاز في تحضير الطعام بشكل عام.
الأطفال في الريف ضحايا أيضا، حيث لا يستطيعون وقاية أنفسهم، فهم مجبرون على تنفس الهواء الملوث داخل المنزل، فإعداد الأكل على نار الحطب مرتبط بحياة الريف ارتباط العادات نفسها؛ مما جعل نصيب الأمراض التنفسية التي تصيب الأطفال أكثر من أي فئة بعد النساء؛ لكونهم يقضون وقتا أطول في المنزل، وأحيان يصابون بالمرض وهم في بطون أمهاتهم عبر الدم.
ويؤكد أخصائي الأطفال وحديثي الولادة، الدكتور أحمد الشحري تزايد الأمراض التنفسية عند الأطفال والرضع خلال السنوات السبع الأخيرة، موضحاً بأن ذلك جاء نتيجة لعدة عوامل، منها المناعة البيئية الطبيعية وتلوثاتها(..).
وأفاد الدكتور الشحري لمنصة ريف اليمن، أن الالتهابات الرئوية والمشاكل التنفسية تعتبر من الأمراض الشائعة عند حديثي الولادة، مبيناً بأن نقص الأوكسجين على الجنين داخل بطن أمه أو عند الولادة قد يتسبب في إصابته بشلل دماغي، وينصح بضرورة أن تكون الولادة تحت رعاية طبية كاملة.
وتقدّر منظمة الصحة العالمية في مصفوفة السياسات حول جودة الهواء في اليمن، الصادرة عام 2015م، أن تلوث الهواء الخارجي (في الأماكن المفتوحة) يسبب 1.100 حالة وفاة مبكرة سنوياً، ويتسبب تلوث الهواء الداخلي (في الأماكن المغلقة والمنازل) بوفاة ما يقدر بنحو 6,700 حالة من الوفيات المبكرة كل عام.
وطبقاً لتقديرات تقرير التقييم العالمي للعبء المرضي الناتج عن التدهور البيئي، للعام 2016م، فان اليمن تحتل المرتبة السادسة عربياً من حيث ارتفاع عدد الوفيات جراء الأضرار البيئية، وقد بلغ عدد الوفيات السنوية الناتجة عن التدهور البيئي أكثر من 200 ألف حالة؛ نتيجة التلوث البيئي والتغير المناخي وتلوث مياه الشرب.
تتحسر “سمراء عادل”، (30 عاما)، على ابنتها “رنين”(9 سنوات)، بسبب إخراجها من المدرسة بسبب الكحة المصاحبة لها في الفصل، حتى ظن الجميع بأنها مصابة بالسل، أما عن سبب كحة “رنين” تقول والدتها: “كانت تطبخ الأكل لإخوانها، وتشعل الحطب المحمل بالتراب؛ لكوني مريضة فعودتها على إشعال المصعدة عند عمر سبع سنوات”.
أما “أنهار محمد” (19 عاما) فتقول:” نحن ما أن نعرف أنفسنا إلا ونحن نجلب الماء، أو الحطب، نغسل ونطبخ ونشعل المصعد”، أما “بسمة عبدالله”(16 عاما) فتقول لمنصة ريف اليمن”: نذهب باليوم ثلاث مرات إلى البئر الذي يبعد (3 كيلو) عن المنزل لجلب الماء، حيث تتأخر في الصباح على البئر؛ بسبب الجفاف الأمر الذي جعلها تتسرب من المدرسة في صف ثالث ابتدائي”.
وعن حرمان نساء الريف من الحياة الكريمة، يرى الباحث الاقتصادي ” نبيل الشعبي” “إن نسبة الحرمان من سُبل الحياة الكريمة والعيش اللائق بالإنسان، ربما تصل في أوساط النساء الريفيات إلى ما يفوق 70%؛ وبالعودة إلى تقارير هيئات أممية نجد أن نسبة الفقر الغذائي في الأرياف اليمنية تجاوزت مستويات السيطرة عليها، ومثله توسع قاعدة العوز والفقر المدقع”.
أزمة غاز الطهي
تنصب دموع “آسيا” (62 عاما)، وهي تقوم بتكسير الحطب- تقطيعه إلى أجزاء صغيره- وتتذكر ابنتها التي فقدتها في الجبال؛ عندما ذهبت للتحطيب وتوفيت، أثر سقوطها من عالي شجرة “السمر” وسط الجبل.
بينما تعرضت “اشجان” امرأة أربعينية، إلى كسر في الرجل اليمنى، والكتف؛ اثناء تعرضها لحادث سقوط وهي تحطب؛ مما أجبرت على القعود على الفراش لفترة طويلة، وتسبب في عاهات في العظام تعانيها للحظة، ويشكل قطع المسافات التي تتجاوز أحيانا 8 كيلو متر، بحثا عن الحطب والماء معاناة إضافية إلى جانب مشقة الطهي على النار.
تتكرر هذه الحوادث كل يوم بين أوساط النساء في أرياف اليمن بشكل مخيف منذُ القدم، لكنها تفاقمت في السنوات الأخيرة بسبب أزمة غاز الطبخ المنزلي، حيث وصل سعر الغاز إلى (10الف ريال يمني) أي ما يعادل( 5 دولار).
وتبدأ معاناة المرأة من جمع الحطب وكلّ ما يمكن حرقه، وصولاً إلى عملية الإشعال وما يترتب عليها من استنشاق للأدخنة المنبعثة يومياً، حيث تستنشق النساء اللواتي يعشن في بيئات فقيرة غازات سامّة منبعثة من الأخشاب المعالجة كيميائياً والورق، فيمتن ببطء، بينما يقتلهن السقوط من الجبال مباشرة، وفي أحسن الأحوال يتسبب في إصابات بالغة، وأنّ النساء اللواتي يجمعن الحطب، غالباً ما يتعرضن لمشاكل صحية في الرقبة والعمود الفقري والجهاز التنفسي حتى من دون سقوط.
وتقترح ” فائزة علوي” رئيس مؤسسة نساء ردفان للتنمية والسلام تخفيف معاناة المرأة الريفية في ردفان مع الوقود الغير نظيف من خلال توفير الغاز النظيف في المناطق الريفية والنائية والقرى البعيدة، والتي أغلب سكانها من فقراء الدخل.
وتضيف لمنصة ريف اليمن” نحن في مؤسسة نساء ردفان للتنمية نسعى جاهدين إلى توفير الفرن الشمسي؛ لتخفيف معاناة النساء هنا من أثر الدخان السام الذي يعرض حياة الكثير إلى الخطر، ويتسبب في معاناة الكثير من النساء والأطفال.
تجربة “أمل” في بناء المصعدة بعيد عن المنزل ساعدت في حماية أطفالها وأسرتها من أثر الدخان المتصاعد، لكن العالم لم يُسلم من أثر الدخان المتسببة فيه، حسب تعبيرها.
وتضيف أمل، (32عاما)” لازم أن نتخلص من مشقة الريف وأعماله القاسية، تحطيب، وموقد، أمية، وحرمان من التعليم، جلب الماء، وفقر إلى متى يستمر بنا العناء، نريد مستقبل جديد لفتياتنا”.
ووفقًا لتقرير البنك الدولي عن الوصول إلى خدمات وقود الطهي في عام 2020. فإن العالم يتكبد خسائر قيمتها 2.4 تريليون دولار سنويًّا بسبب وقود الطهي غير النظيف، ويرتبط أكثر من نصف هذا المبلغ “1.4 تريليون دولار سنويًّا” بالآثار الصحية، كما يتكبد 0.2 تريليون دولار كآثار مناخية، و0.8 تريليون دولار كإنتاجية مفقودة من النساء.