تواجه حرفة صناعة الأواني الفخارية كسادا كبيرا، وعزوفا ملحوظا من المواطنين، وذلك بسبب انتشار الأواني البلاستيكية والمعدنية، ما جعل المجتمع أمام تحدّ للحفاظ على هذه الصناعات التي تعتبر جزءا من الهوية الحرفية والثقافية.
ويصارع تجار الفخار من أجل بقاء حرفهم في ظل تغيير الثقافات القديمة وحلول ثقافة الاستهلاك السريع، إضافة إلى تحديات اقتصادية فرضتها الحرب، ولا تكاد تمر وسط سوق الشنيني التاريخي وسط مدينة تعز، حيث تباع تلك الأواني من دون أن تتزاحم عليك الأصوات التي تناديك للشراء.
صناعة الأواني الفخارية
وتعد صناعة الفخار في اليمن عريقة، وتمتد إلى آلاف السنين ومازال اليمنيون يحتفظون بهذه الصنعة في الأرياف اليمنية، ويعود تاريخ بدايتها الى 2600 قبل الميلاد، وفق اكتشافات البعثة الإيطالية في المناطق الوسطى بقيادة المستشرق دميغريه.
وتشتهر مناطق تهامة بصناعتها وخاصة “حيس” و”زبيد” و”الجراحي” و”بيت الفقيه”، تليها عتمة ووصابين وريمة ومنطقة الحجرية بتعز، والعديد من مناطق صنعاء وحضرموت وغيرها حيث حافظت هذه المناطق على صناعة الفخار بأنماطها التقليدية وألوانها المتعددة والزاهية.
يقول تاجر الأواني الفخارية الحاج محمد السمّان (61 عاما): “إن الناس قبل سنوات مضت، كانوا يُقبلون على شراء هذه الأواني بشكل كبير، ولا سيما في موسم الأعراس، أما حاليا فلا يأتون إلا نادرا”، وذلك نتيجة غياب ثقافة هذه الأواني عن هذا الجيل، فضلا عن تدهور الأوضاع الاقتصادية.
يعمل السمّان في متجره الخاص، لبيع الأواني الفخارية في سوق الشنيني منذ 50 عاما، لكنه حاليا يشكو من قلة إقبال المواطنين على الشراء، كما يعاني أيضا من التغيرات الاقتصادية التي تشهدها البلد بفعل الحرب؛ إذ يستورد الأواني من صنعاء وإب بالطبعة القديمة من العملة، ويبيعها بالطبعة الجديدة، والفارق بين الطبعتين سبّب رفع أسعارها، وجعل الإقبال عليها ضعيفا، حسب قوله.
وعن أسعار تلك الأواني قال السمّان إن سعر الحرضة (إناء للطعام مصنوع من التراب) يصل إلى 2500 ريال، وسعر القصيص (الجرة الكبيرة) ثمانية آلاف ريال، بينما سعر الكوز الخاص بماء الشرب يصل ثلاثة آلاف ريال، أما سعر المَلَحة فيصل إلى 8 آلاف ريال، وهي (أداة مدورة توضع على النار لصناعة اللوح، وهو نوع من الخبز الرقيق).
ويتذكر السمّان أيام مشاركته في معرض للأواني الفخارية أُقيم في منطقة الحوبان شرق المدينة، عام 2006، وكان هناك إقبال على الشراء، ويشير إلى أنه نال شهادة مشاركة لا يزال يحتفظ بها معلقة على جدران محله، ويتطلّع السمان للمشاركة في أي معرض جديد يسلط الضوء على الأواني الفخارية ويعيد لها ألقها.
جزء من هوية المجتمع
الباحث المتخصّص في التراث محمد سبأ قال: “إن الأهمية الثقافية للأواني الفخارية تكمن في أنها تمثل جزءا من الهوية اليمنية، ونموذجا من الصناعات الحرفية التي تعتمد على الخامات المتوفرة في البيئة المحلية، ناهيك عن أنها رخيصة وصحية مقارنة بالمنتجات المستوردة”.
ويضيف سبأ لمنصة ريف اليمن: “من المعروف أن لكل بلد مشغولات فخارية تميزه عن غيره، تتناسب مع البيئة والمنفعة التي تقدمها، وأغلب هذه الفخاريات مصنوعة من الطين المحروق الذي توارثت الأجيال خبرة صناعتها جيلا عن جيل، وهو ما يجعلنا بحسب رأي الباحث أمام تحد للحفاظ على هذه الصناعات باعتبارها جزءا من هويتنا الحرفية والثقافية”، ويشير إلى أن بعض البلدان تمنع الاستيراد من أجل الحفاظ على مكانة الصناعات التقليدية.
ومن بين المناطق التي اشتهرت قديما بصناعة الأواني الفخارية “دمنة سامع” الواقعة جنوب محافظة تعز، لكنها اليوم لم تعد كذلك، بسبب غزو الأواني البلاستيكية والمعدنية للأسواق وبأسعار أقل من الفخارية.
يقول المواطن نوح السامعي من أهالي دمنة سامع: “إن الذين احترفوا صناعة الأواني هم من السكان الذين لم يحظوا بأراضي زراعية تسد حاجاتهم طوال العام، فاتجهوا لممارسة صنع الأواني الفخارية مصدر دخل لأسرهم، وكان هناك تنافس وتميز بين الصُناع”.
ويضيف السامعي لمنصة ريف اليمن: “كان لهذه الأواني رواج كبير، وفي الثمانينات بدأ التراجع بسبب وجود أدوات منزلية حديثة، خصوصا مع اغتراب الناس إلى دول الخليج، وبقى قليل من المواطنين يمارسون هذه الحرفة، وكان عددهم يتراجع من عام إلى آخر، حتى باتت المهنة حاليا خاصة بالنساء”.
فوائد صحية
سام البحيري شاب يعيش في محافظة تعز، ولا تزال عائلته تستخدم الأواني الفخارية في الطعام والشراب منذ سنوات، يقول سام لمنصة ريف اليمن: “نحن نستخدم الأواني الفخارية منذ كنا في القرية وعندما انتقلنا إلى تعز أخذنا الأواني الفخارية معنا”.
تستخدم عائلة سام الكوز والجرة والزير، والمدرة، والأكواب الفخارية وغيرها من الأواني. يقول سام لريف اليمن: “دائما نشرب من الكوز ونضع بداخله قرنفلا، فيجعل مذاق الماء رائعا، كما أن الكوز يعمل على تنقية الماء من الشوائب، لأنه مصنوع من الفخار، تلتصق الشوائب على جدار الكوز بعكس الأواني البلاستيكية، وتكون برودة الماء طبيعية بعكس التبريد بالأجهزة الحديثة”.
الكاتب محمد المياحي قال لمنصة ريف اليمن: “هناك بحوث علمية تؤكد أن الفخار أقرب للإنسان”، لكن الأمر بحسب المياحي مقرون بالقناعة النفسية، ويضيف: “لو كان لدى المرء يقين بحجر لشفاه”، فيتولد شعور من الإحساس باللذة والرواء عندما يشرب من الكوز، “هناك بعد حميمي، وهناك بُعد شفائي”.
أما التاجر السمّان فيرى أن الأواني الفخارية لها مميزات صحية بعكس المواد البلاستيكية والمعدنية الحديثة التي تسبب سموما للإنسان، كما أن لها قدرة على حفظ الحرارة في الطعام لساعات متواصلة، ويعتقد أن استخدام الأواني الفخارية هو السبب في الصحة التي كان يتمتع بها الناس في الأجيال السابقة، فقد عاش والده الحاج محمد حمود السمان 110 عاما.
الدكتور ياسر الصلوي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة تعز، قال: “إن صناعة الفخار جزء لا يتجزأ من التراث الثقافي الشعبي، إلا أنها تواجه تراجعًا بسبب العوامل الاقتصادية؛ إذ يفضل المواطنون شراء الأواني الرخيصة، لافتا أن إنتاج الأواني الفخارية يتطلب جهدًا كبيرًا، مما يجعلها مكلفة”.
وعن أسباب تراجع هذه الصناعة، قال الصلوي: “تتداخل عدة عوامل في هذا التراجع، منها تغير الثقافة اليمنية عبر الزمن، مما أدى إلى عدم إدراك الناس للقيمة الصحية للأواني الفخارية، بالإضافة إلى غياب الوعي الصحي، أما من الناحية الاجتماعية، فهناك نوع من التفاخر باقتناء الأدوات الحديثة، لا سيما الأواني التي تُستخدم لتقديم الطعام، مما يعكس نوعًا من التباهي الاجتماعي. كما أن المجتمع اليمني يميل إلى استهلاك كل ما هو جديد في مجال أواني الطهي وغيرها”.
ويشير إلى أن عدم وجود دعم واهتمام من الدولة لتشجيع هذه الصناعة ترك الحرفيين يواجهون تحديات كبيرة أمام انتشار الأدوات الحديثة، كما أن محدودية الإنتاج وعدم الترويج للأواني الفخارية وفوائدها الصحية والاقتصادية، التي تشمل توفير فرص عمل، يزيد من صعوبة الوضع، ويشدّد على أهمية وضع استراتيجية وطنية لدعم التراث بالتعاون مع وزارة الصناعة ووزارة الثقافة والمنظمات ذات الصلة.