يعتبر سد مأرب العظيم أعظم بناء معماري وهندسي في جنوب غربي الجزيرة العربية قديماً، ويوصف بأنّه معجزة تاريخية ويعد من أقدم السدود المائيّة في العالم؛ حيث يعود تاريخ إنشاؤه إلى بديات الألفيّةِ الأولى قبل الميلاد.
وتعرض سد مأرب للخراب والإهمال خلال مراحل متعددة من الصراعات بين الدول اليمنية القديمة، وتوضح الدراسات التاريخية أن السد تعرض للتدمير عدة مرات بسبب تراكم ترسبات الطمي في حوضه.
ويمثل السد أحد أهم وأقدم منظومات الري المتطورة والعجائب الهندسية لحضارة سبأ، وحِيكت في بنائه الأساطير، فضخامة حجارته جعلت الناس يتناقلون أن من بناه هم عمالقة من قوم عاد، وهناك مرويات في كتب التأريخ كثيرة عنه، وذكر أيضاً في القران الكريم في سورة “سبأ”.
مأرب.. الجوهرة السياحية العتيقة المهملة في اليمن
موقع سد مأرب القديم
يقع سد مأرب العظيم في وادي ذنة (وادي سبأ) بين جبلي البلق الشمالي والجنوبي، بالقرب من سد مأرب الجديد. يعد هذا السد من أبرز الرموز التاريخية للحضارة السبئية، إذ عاصر نشوء وتطور تلك الحضارة وشهد ذروة ازدهارها.
ويقع على بعد نحو ثمانية كيلومترات إلى الغرب من مدينة مأرب القديمة، اشتهر كأهم منشأة ارتبطت بحضارة سبأ، وكان بمثابة معجزة هندسية أبدعها الإنسان اليمني القديم، إلا أنه لا يزال بعيدًا عن التنقيب الأثري العلمي المتكامل للكشف عن صورته العلمية الكاملة، المرتبطة بتطور وتوسيع الأراضي الزراعية وإدارتها.
وتؤلف سلسلة جبال البلق الحاجز الأخير للمرتفعات الشرقية قبل أن تلتقي بالصحراء التي تعرف باسم “جزر اليمن الشرقي” وتمتد بين محافظتي مأرب وشبوة، حيث تصب فيه معظم أودية الشرق.
ويقول الباحثون إن وادي ذنه يضيق بين مأزمي جبلي البلق الشمالي والبلق الأوسط حيث يكون موقعا طبيعيا يصلح لإقامة سد، كما تتسع منطقة التجمع في أعلى المضيق بحيث تبدو وكأنها حوض مثالي لاحتواء المياه.
بناء سد مأرب
ويعدّ سد مأرب من عجائب الزمن القديم؛ حيث يعود تاريخ بناؤه إلى القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، ويقال بأنه تم بناء السد وتشييده في زمن الملكة بلقيس ملكة سبأ.
تعددت الفرضيات حول من قام بناء سد مأرب، لكن أغلب تلك الفرضيات تقول بأن من قام ببناء السد هو سبأ بن يشجب، وجعل منه مصباً لسبعين نهراً، لكن سبأ قد توفي قبل تشييد السد، فأتم ملوك حمير التشييد.
تشير النقوش المسندية المتوفرة إلى أن بناء السد يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، لكن هذه النقوش غير كافية لتحديد بداية بناء السد بدقة.
المؤشرات العلمية السطحية تدل على أن السد استمر في أداء وظائفه على مدى عصور تاريخية طويلة، وشهد تعاقب العديد من الملوك على إدارته، مما يتطلب ترميمًا متكررًا له، حيث كان كل ملك يضع نقشًا باسمه على جدار السد يوثق إنجازاته.
720 متراً طول السد العظيم
بقايا سد مأرب العظيم توضح أن السيول المتدفقة من المرتفعات الجبلية الكبيرة المتجهة إلى مداخل وادي سبأ كانت تتجمع وتحجز بالسد، وتشير الترسبات الباقية بالقرب من المصرف الجنوبي، أن ارتفاع السد القديم كان يبلغ 35 مترًا، وطوله 720 مترًا، بينما كان سمكه عند القاعدة 60 مترًا.
وكانت أساسات السد مبنية من الأحجار الضخمة، وفوقها جدار ترابي مملط بالحجارة والحصى من الجانبين، وكان سطح الجدار الخارجي مغطى بأحجار بركانية، لا يزال جزء صغير من جسم السد القديم قائمًا بالقرب من المصرف الشمالي، حيث كان يقع المصرفان اللذان يخرج منهما الماء إلى شبكات القنوات، وما زالت بعض أجزاء جدران الصدفين قائمة، كما وصفها الهمداني قبل أكثر من ألف عام.
وتمثل عبقرية نظام الري القديم في سد مأرب قدرته على تجميع المياه من مساقط مرتفعات عديدة وحجزها لرفع منسوب المياه بهدف ري مساحات كبيرة من أرض الجنتين المذكورة في القرآن الكريم، وذلك وفق نظام هندسي دقيق متصل بالصدفين الشمالي والجنوبي.
وأشارت الدراسات العلمية وأعمال التنقيب الأثري الجزئية التي قامت بها البعثة الأثرية الألمانية في عامي 1988 و1989م إلى أن ما توصل إليه اليمنيون القدماء من إبداع هندسي في بناء سد مأرب العظيم كان نتيجة سلسلة من التجارب السابقة التي تعود إلى بداية الألف الثانية قبل الميلاد، في محاولة لاكتشاف أقدم السدود في مناطق مثل أعروش خولان الطيال والسدود القديمة شرق سد مأرب.
عظمة هندسية
كانت جنوب شبة الجزيرة العربية، اليمن حالياً، منطقةً وفيرة المياه والأمطار، وهذا ما استدعى بناء السد في تلك الفترة بغرض إدارة مياه الأمطار، وحفظها ليتمّ استخدامها في أوقات الحاجة إليها؛ حيث كانت المياه المحفوظة في السد تفي حاجة الناس في السقاية والريّ طوال السنة.
وكان السد مصدر حياة، منذ القرن الثامن قبل الميلاد وحتى القرن الخامس أو السادس الميلادي، في مأرب حاليا، والتي كانت أكبر مدينة في جنوب شبه الجزيرة العربية القديمة، وكان يخزن الأمطار الموسمية من المرتفعات المجاورة.
وكانت بدايات إنشاء السد تتمثل في حجز أجزاء من وادي ذنة بين جبلي البلق الشمالي والأوسط؛ عبر بناء عتبات مرصوفة من الأحجار والطين على شكل جدران طولية لكسر حدة السيل والتخفيف من قوته، وعُثر على نوع من أسلوب العمارة البدائي هذا في الجنوب الغربي من الوادي.
وعقب اكتمال بناء السد، جرى التحكم في نزول المياه بواسطة قنوات تصريفية في الشمال والجنوب تسير بالمياه إلى قنوات فرعية عبر الحقول، عبر نظام ري معقد يغطي ما يصل إلى 25000 فدان (10000 هكتار) من الأراضي الزراعية، وكان يوفر غذاء نحو 50 ألف شخص.
بني السد من حجارةٍ تم اقتطاعها من صخور الجبال، واستخدم الجبس لربط تلك القطع الصخرية ببعضها البعض، وتمّ استخدام قضبانٍ على شكلٍ أسطواني مصنوعة من الرصاص والنحاس، تمّ وضعها في ثقوب الصخور حيث تصبح كالمسمار ويتم دمجها بصخرة تتطابق معها، وذلك لضمان مقاومة السد لخطر الزلازل والسيول العنيفة، ومقاومته لكل هذه العوامل.
سدود أخرى في مأرب
لم يكن سد مأرب العظيم بل كان بجانبه عدد من السدود، ففي يناير/ كانون أول 2006، اكتشف فريق علماء آثار ألمان بقايا سد تحت أنقاض سد مأرب، وما يعرف بالسد التحويلي المنشأة أ، قامت البعثة الأثرية الالمانية بأعمال التنقيب الأثري في موقع السد التحويلي.
وأشارت نتائج دراسة البعثة الألمانية، إلى أن بناء هذا السد يرجع إلى بداية الألف الثانية قبل الميلاد، يقع السد شرق سد مأرب في وسط وادي ذنة، وكان أحد المحاولات التي سبقت بناء السد العظيم.
بُني السد بالحجارة الضخمة، حيث يصل طول الحجر الواحد إلى مترين، وتم ربط الأحجار بمادة الرصاص لمقاومة صدمات السيول. ومع ذلك، لم تنجح هذه المحاولة بسبب تراكم الطمي والرسوبيات. كان طول السد يبلغ 55 مترًا وعرضه 30 مترًا.
بالإضافة إلى “سد الجفينة”، سد قديم مرتبط بمنظومة سد مأرب العظيم، ويعود تاريخه إلى منتصف الألف الثانية قبل الميلاد. يُعتبر سدًا تحويليًا لما يفيض من مياه السد العظيم، وشُيد بهدف ري مساحة الأراضي الزائدة للجنة اليسرى.
يتصل بالسد أربع قنوات لتوزيع المياه مبنية بأحجار مهندمة، ويرتبط بها عدد من الجدران السائدة التي يصل ارتفاع بعضها إلى 10 أمتار، وطول بعضها إلى 300 متر. تعرض السد لتصدعات وأعيد بناؤه وترميمه في فترات زمنية لاحقة.
ويوجد أيضاً، البئر السبئية في الجهة اليمنى من الطريق المؤدي إلى سد مأرب العظيم، على مسافة 6 كيلومترات غرب مدينة مأرب القديمة، تقع البئر فوق تل ترابي يرتفع عن الحقول المجاورة، وأعلى التل يوجد باب البئر السبئية الذي يبلغ عمقها 35 مترًا.
تتميز البئر بشكلها المربع، حيث أن كل ضلع من أضلاع البئر مكون من حجر واحد فقط، وهو أسلوب غير مألوف بين أنماط الآبار القديمة المعروفة. لم تُعرف قيمة البئر الأثرية إلا بعد نهاية التنقيب في معبد بران “عرش بلقيس” والكشف عن البئر المقدسة في المعبد، حيث يتطابق نمط بنائها الفريد مع نمط بناء البئر السبئية.
هذه المعالم الأثرية المتنوعة تعكس مدى تطور الحضارة السبئية وعبقرية الإنسان اليمني القديم في هندسة المياه والري، وهي بحاجة إلى مزيد من الدراسات العلمية للكشف عن مزيد من الأسرار والتفاصيل التاريخية التي تثري الفهم الحالي لتلك الحضارة العريقة.
انهيار سد مأرب العظيم
وأُجريت للسد ترميمات متكررة وتعرض لانهيارات عديدة، وتهدم بسبب التقادم وأُعيد إصلاحه أكثر من 8 مرات، وإن حادثة التهدم الشهيرة كانت بين القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد. بحسب دراسة لمركز العرب للدراسات الثقافية.
ووفق الدراسة، فإن الانهيار يعود أيضا إلى الصراعات الداخلية في المملكة خلال الحقبة الحميرية إلى أن تشتّتت الدولة وهاجر اليمنيون، خاصة بعد الاحتلال الحبشي لليمن. وتزايد تدهور السد بعد غزو مملكة حمير لمملكة سبأ في القرن الثالث الميلادي.
وعلى مدار قرن من الزمن احتاج للصيانة في فترات متعددة، وتشير إحدى النقوش إلى أن عملية الترميم وإصلاح السد كانت تحتاج 20 ألف رجل وأكثر من 14 ألف جمل. وتشير الرواية في القرآن الكريم، أنه في منتصف القرن السادس، كان انهيار السد الأخير، كعقاب من الله لقوم سبأ، ووصفت بالقران بأرض الجنتين.
حاليا.. ولم يتبق من آثار سد مأرب القديم سوى بعض المعالم لجدار السد أو السد نفسه ومباني المصرفين الكبيرين اللذين كانت تخرج منهما المياه من جانبي السد الشمالي والجنوبي، إضافة إلى القناتين الرئيستين اللتين تربطان المصرفين بوادي عبيدة في مأرب وهي أرض زراعية.
وفي مايو/ آيار 2015 تعرض بقايا السد القديم لغارات جوية في حرب اليمن، وقالت منظمة الامم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) أن أضرار لحقت بسد مأرب إثر غارة جوية ليلة 31 مايو الماضي، وتعرضت النقوش السبئية القديمة على جدران السد قد تأثرت بسبب القصف.
المصدر: منصة ريف اليمن