لا تُذكر القهوة إلا ويرافقها اسم اليمن، البلد الذي ارتبط منذ قرون بزراعة البن وتصديره إلى العالم؛ حيث أصبح “موكا اليمن” رمزًا للجودة الفائقة، والمذاق المميز الذي تفوقت به القهوة اليمنية على مختلف الأصناف العالمية، وأضحت علامة تجارية عالمية بجذور تاريخية يمينة.
وتعود زراعة البن في اليمن إلى قرون طويلة، حيث تشير الوثائق التاريخية إلى أن اليمنيين هم أول من قام بزراعة البن وتصديره إلى العالم، ويرتبط اسمه عالميًا بميناء المخا؛ الذي كان المرفأ الأول لشحنات البن اليمني إلى أوروبا والشرق الأوسط منذ القرن الخامس عشر؛ ليصبح لاحقًا الميناء الأشهر الذي استمد منه البن اسمه العالمي “موكا كافيه”.
موكا اليمن إرث عريق
ارتباط اسم ميناء المخا -الذي لايزال إلى يومنا مرفأ هاما على الساحل الغربي للبلاد- بالبن خلال القرون الماضية أصبح يمثل دلالة تاريخية على جودة وتميز مذاق البن القادم من الأراضي اليمنية، متفوقا على أي قهوة أخرى في العالم.
ويؤكد المؤرخ في التراث اليمني “عبد الجبار باجل” أن اليمنيين عرفوا زراعة البن في القرن الخامس الميلادي، فيما كان أبو بكر الرازي من أوائل العلماء الذين ذكروا القهوة اليمنية في كتاباته في القرن التاسع الميلادي.
مواضيع ذات صلة
قهوة القشر.. المزاج الخاص باليمنيين
معرض صنعاء للقهوة: احتفاء بثروة اليمن المهملة
القهوة اليمنية: “بُن طالوق” بتعز جودة بلا إهتمام
ويقول باجل لمنصة ريف اليمن، إن اليمنيين وجدوا في هذه الثمرة ضالتهم في الكسب والتربُّح؛ فراحوا يتوسعون في زراعته وتصديره بمرور السنين والأيام؛ حتى أصبح البن اليمني علامة بارزة للجودة العالية.
ويلفت إلى أن البن اليمني أصبح المشروب الأرقى الذي تفضله أرقى العائلات الحاكمة، سواء في أوروبا أو الهند، وغيرها من دول العالم، وذلك بعد أن ذاع صيته، وزادت شهرته ليصل الطلب عليه من مختلف بلدان العالم إلى مستويات قياسية.
وما يعزز من تأكيدات الباحث باجل ما توصلت إليه بعثة استطلاعية تابعة لمنظمة الغذاء العالمي عام 1924م بعد دراستها لأشجار البن في أثيوبيا التي قيل عنها من قِبَل البعض بأنها المنشأ الأول للبن؛ حيث أكدت في نتيجة دراستها العلمية بأن البن انتقل من اليمن إلى أثيوبيا، وأنهم لم يقوموا بزراعته إلا بعد قرون طويلة من زراعته في اليمن.
شهرة عالمية وسعر خيالي
لا يُعد البن اليمني مجرد مشروب، بل هو منتج فاخر يباع بأسعار خيالية في الأسواق العالمية؛ حيث يصل سعر الكيلوغرام الواحد منه إلى 80 دولارًا، كما يقول تجار البن المحليون، وهو سعر يفوق بكثير أسعار البن القادم من البرازيل وأفريقيا، وغيرها من البلدان المنتِجة.
ويرجع هذا السعر المرتفع إلى الجودة الفريدة التي يتمتع بها البن اليمني، ومذاقه المميز؛ ما يجعل هذا المنتج كنزا وطنيا، وثروة قومية؛ بفضل الظروف المناخية المثالية، والتربة الخصبة، وطرق المعالجة الطبيعية التي تمنحه نكهته المميزة.

وتنتشر زراعة البن في مناطق مختلفة من اليمن، ويزرع بصورة رئيسية على ارتفاع فوق الألف متر عن سطح البحر، وفي الأودية التي تنحدر من المرتفعات الغربية والوسطى والجنوبية، وفي المدرجات الجبلية، خصوصاً في سلسلة الجبال الغربية المطلة على تهامة.
ويعد المناخ الدافئ الرطب، مع توفر القدر الكافي من المياه، مثالياً لنمو البن، ونظراً لافتقار معظم البيئات التي تُزرع فيها شجرة البن في اليمن فإن المزارع اليمني استطاع – مع مرور السنين – أن يكوَّن خبرة كبيرة في التعامل مع شجرة البن ورعايتها ضمن أجواء تضمن لها أفضل شروط الإنتاج، واعتمد في سبيل ذلك تقنيات معتبرة في زراعة هذه الشجرة.
وتظهر براعة المزارع اليمني بصورة جلية في المدرجات الجبلية المكشوفة، وعلى ارتفاع يصل إلى 1700 متر فوق سطح البحر؛ حيث تحولت هذه المدرجات -كما في جبل بُرَع بالحديدة- ما يشبه الحدائق المعلقة، واستطاع ببراعته أن يؤمِّن البيئة المثالية لنمو شجرة البن وإنتاجه.
ومن الطرق التي اتبعها المزارع اليمني؛ العناية بالتربة الزراعية، وغرس الأشجار الحراجية التي تتسم بفاعلية في توفير أجواء رطبة وتجنيب أشجار البن التأثيرات السلبية للبرد القارس؛ وأهما شجرة «الطَّنِب» التي تعد أيضاً مصدراً للأخشاب الجيدة.
ومع ذلك، تعرضت شجرة البن خلال العقود الماضية للتهميش، وانحسرت مساحات زراعتها في موطنها الأصلي إلى مستويات مخيفة، وحلّت محلها أشجار القات؛ لتفقد البلد أحد أهم محاصيلها الاستراتيجية، ورافدا مهما من روافد الاقتصاد الوطني.
إرث يقاوم التحديات
يرجع تميُّز البن اليمني إلى عدة عوامل؛ أبرزها البيئة الجبلية التي توفر تربة غنية بالعناصر المغذية، إلى جانب أساليب التجفيف الطبيعية التي تعتمد على أشعة الشمس؛ ما يمنح حبات البن نكهتها المركزة. كما أن عملية الغسيل والتخمير والتجفيف التقليدية تساهم في الحفاظ على الزيوت العطرية الطبيعية داخل الحبوب، ما يخلق توازنًا مثاليًا بين المرارة والحموضة والنكهة الغنية.
ويشير الباحث “أحمد السامدي” إلى أن البن شهد تطورا كبيرا في القدم؛ حيث وصل حجم الصادرات من البن اليمني خلال تلك الفترة إلى ذروتها، وحققت أرقاما قياسية، لافتا إلى أن البن يعد مصدرا من مصادر الدخل القومي، ويلعب دورا هاما في الاقتصاد وفي الثقافة اليمنية الأصيلة؛ فتُقدَّم القهوة في المناسبات والحفلات والأعياد.

ويرى المزارع “عبدالله الضاوي”، أن سر تميز البن اليمني يرجع إلى مناخ اليمن المعتدل، وإلى الجبال والوديان؛ حيث تعتبر مناسِبة وملائمة لزراعة البن، ورغم مكانته العالمية؛ يواجه البن اليمني تحديات كبرى أدت إلى انخفاض إنتاجه، وتراجع صادراته.
وبحسب الضاوي، وهو صاحب مزرعة لأشجار البن في منطقة بني مطر، فقد أدى الفقر المائي الذي تعانيه اليمن إلى قيام المزارعين باقتلاع بعض أشجار البن وزراعة شجرة القات بدلا عنها؛ أملاً في الحصول على عائد اقتصادي أكبر من زراعتهم لمحصول البن؛ الأمر الذي أفقد البلاد مصدرا هاما من مصادر الدخل القومي.
كما أن الغش، وما يمارسه بعض التجار من خلال استيراد أنواع مختلفة من البن الرديء، وتسويقه في الداخل على أنه بن يمني، أضرّ كثيرا بالمزارعين، وألقى بظلاله السلبية على مستوى زراعة أشجار البن، بحسب الضاوي. لافتا إلى أن الصعوبات باتت محدقة بزراعة البن اليمني من كل صوب وحدب.
ورغم هذه العقبات، لا يزال العديد من المزارعين متمسكين بزراعة البن، مدفوعين بشغفهم للحفاظ على هذا الإرث التاريخي. ويؤكد الضاوي أن الكثير من المزارعين لايزالون يحرصون على إنتاج البن اليمني الأصيل لإدراكهم بتميُّز وتفرُّد هذه الثمرة، وجودتها العالية.
ويُعد البن اليمني ثروة قومية لا تقل أهمية عن النفط والغاز، لذا تتطلب حمايته جهودًا حكومية ودولية لدعم المزارعين وتشجيعهم على التوسع في زراعته، كما أن تطوير سياسات زراعية تحمي البن اليمني من الاندثار سيكون له انعكاسات إيجابية على الاقتصاد اليمني من خلال تعزيز الصادرات، وتحقيق الأمن الغذائي.