منذ أكثر من خمس سنوات يكابد خالد مأساة إصابته باضطراب نفسي شديد، بدأت أعراضه تظهر عليه بشكل لافت بعد مرور عامين من توقف راتبه الحكومي الذي كان يتعمد عليه في تأمين الغذاء لأفراد عائلته.
ينحدر خالد (اسم مستعار) من ريف محافظة إب (وسط اليمن)، وأجبرته الظروف المعيشية القاسية على بيع كافة المدخرات قبل أن يضطر للخروج إلى سوق العمل حيث كان يذهب ويعود إلى بيته دون الحصول على فرصة للعمل فهو لا يمتلك أي مهنة وذلك بدوره انعكس سلباً على صحته العقلية والدخول في موجة اضطراب نفسي “.
وأدت الحرب وانعكاساتها السلبية على مختلف جوانب الحياة في اليمن إلى تزايد المرضى النفسيين في البلاد خاصةً في المناطق الريفية النائية، نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية في بلداٍ صُنفت ضمن أسوأ الأماكن للعيش في العالم.
ووفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية الذي أصدرته في أغسطس/ آب 2022 فإن “واحداً من كل أربعة أشخاص في اليمن يعانون من مشاكل عقلية ونفسية واجتماعية بسبب النزاع المسلح والنزوح القسري والبطالة ونقص الغذاء، وغيرها من الظروف القاسية”.
صدمات معيشية متتالية
يقول أحد أقرباء خالد لـ” منصة ريف اليمن:” بعد معاناة متواصلة ساءت حالته الصحية حيث بدأت تظهر عليه الشكوك معتقدا أن هناك أشخاصًا يراقبون تحركاته ويتجسسون عليه بعدها أقدم على طلاق زوجته وكان يقوم بتعنيف أطفاله قبل مغادرتهم للعيش في منزل جدهم في قرية أخرى.
ثم يضيف: “في السابق كان يستيقظ في الصباح الباكر للذهاب إلى المدرسة، متأنقاً ورائحة العطر تفوح منه إلى مسافات بعيدة، أما اليوم فقط أصبحت ثيابه رثه لا يكاد أحدا يصدق بأن ذلك كان في السابق معلما تخرج على يده العديد من الأجيال “.
وتقول الدكتورة منيرة النمر رئيسة قسم الطب النفسي في مستشفى الرسالة في العاصمة صنعاء إن ” الأسباب الرئيسة وراء تزايد الأمراض النفسية بشكل لافت في المناطق الريفية النائية هي كثيرة أبرزها التعرض للصدمات المتتالية التي يتعرضون لها نتيجة تدهور أوضاعهم المعيشية بفعل الحرب “.
وأضافت النمر لـ منصة ريف اليمن: أنه “خلال السنوات الماضية تزايدت حالات الإصابة بالأمراض النفسية مثل: الاكتئاب، والقلق وكلها بسبب تراكم الصدمات والظروف حيث أن أي ضغوطات لفترة طويلة سوف تؤدي إلى الإصابة بالأمراض النفسية”.
غياب الخدمات الصحية
وفي الوقت الذي يزداد فيه أعداد المرضى النفسيين تفتقر اليمن إلى وجود المشافي المتخصصة بالصحة النفسية وغياب الأطباء المتخصصين بالعلاج النفسي، وغياب الأدوية في السوق المحلي خصوصاً عقب اندلاع الحرب التي تعصف بالبلاد أكثر من ثماني سنوات.
ومع غياب المرافق والخدمات الصحية وتدهور الأوضاع المعيشية يواجه عدد كبير من الأشخاص الذين يعانون من الأمراض النفسية صعوبات وتحديات كبيرة في عدد من المرضى لا يستطيعون مواصلة جلسات العلاج نتيجة تكاليف الجلسات الباهظة النفسية في المستشفيات الخاصة وذلك ينعكس سلباً في تدهور حالتهم النفسية بشكل مضاعف.
تجدر الإشارة إلى غياب الاهتمام بالصحة النفسية إذ بلغ عدد الأطباء النفسيين في 2020 بحسب وزارة الصحة 59 طبيباً، ما يعني توافر طبيب نفسي واحد لكل نصف مليون شخص. أمّا متوسط عدد العاملين الصحيين المتخصّصين في الصحة النفسية (أطباء وممرضين ومعالجين) فتُقدّر بحوالي 300 أي بمعدل متخصّص واحد لكل مائة ألف نسمة.
وفي عام 2020، كشفت دراسات وجود سرير نفسي واحد لكل 200 ألف يمني، وطبيب نفسي واحد لكل 500 ألف شخص. وأوردت دراسة أجرتها مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري غير الحكومية حول تقدير انتشار الاضطرابات النفسية أن “الشبان من الفئة العمرية بين 16 و30 سنة يشكلون نسبة 80 في المائة من إجمالي الحالات التي تعاني من أمراض عقلية ونفسية”.
وتقف أسرة الشاب خليل (إسم مستعار) عاجزة عن نقلة للعلاج بأحد المشافي المتخصصة بالصحة النفسية بسبب ظروفهم المعيشية القاسية فرب الأسرة يعمل موظفاً حكومياً وراتبه الحكومي منقطع منذ سنوات حيث بالكاد يتمكن من تأمين متطلبات الحياة اليومية لأفراد العائلة”.
يقول أحد أقربائه لمنصة ريف اليمن :”عقب تخرجه من الثانوية العامة تعرض للضرب والتعنيف بشكل مستمر من قبل ولده حيث كان يقوم بطرده من البيت ويطلب منه الخروج للبحث عن عمل ويمنعه من تناول الطعام والشراب حتى تعرض للإصابة باضطراب نفسي انعكس سلباً على حياته و حرمه من مواصلة تعليمه الجامعي.
وصمة مجتمعية
سمير( اسم مستعار) تعرض هو الآخر للإصابة بمرض نفسي عقب رسوبه في امتحان الشهادة الثانوية في عام 2020 فهو يعاني من الاكتئاب لكن أسرته ترفض الإفصاح عن إصابته ويرفضون نقله إلى للعلاج بأحد المراكز الصحية المتخصصة بالأمراض النفسية”.
ويقول أحد أقربائه لـ”منصة ريف اليمن :” قبل رسوبه كان سمير شابا مبتهجا ويتمتع بعلاقة شعبية واسعة مع العديد من ابناء القرية التي يعيش فيها مع أسرته في إحدى قرى ريف محافظة إب ( وسط اليمن) لكن حياته انقلبت رأسا على عقب فهو أصبح يقضي معظم أوقاته منعزلا عن الناس ويرفض الخروج والاختلاط مع أفراد المجتمع كما كان سابقًا”.
وبهذا الصدد تقول الدكتورة منيرة النمر :”إن خوف الأهالي وعدم إفصاحهم عن تعرض شخص قريب لهم للإصابة بمرض نفسي خشية النظرة المجتمعية، هي وصمة اجتماعية منتشرة في العديد من البلدان في العالم، فهي متواجدة حتى في الدول المتقدمة “.
وتضيف النمر قائلة :” البعض يُفضل القول للمريض أن فيه سحر، أو جن، أو أي مرض اخر دون القول أنه يعاني من مرض نفسي فهم يعتبرون ذلك عيبا فمن سوف يتزوج به، أو يتزوج بها فهو أو هي عند المجتمع يعتبر مجنونًا وكل ذلك بسبب الوصمة المجتمعية الخاطئة”.
وخلال الفترة الأخيرة زادت هذه الوصمة المجتمعية واستفحلت بشكل غير مسبوق نتيجة غياب الوعي المجتمعي بالأمراض النفسية على الرغم أن المرض النفسي يعتبر مرضا عضويا مثل أي مرض آخر كلها بسبب هرمونات نواقل عصبية في الدماغ، ومع غياب الوعي غابت النظرة الواعية للأمراض النفسية وأصبح المرض عيبا والذهاب إلى الطبيب النفسي مشكلة وكل ذلك نتيجة الوصمة المجتمعية القائمة حالياً في المجتمع”، بحسب النمر.
وتختم رئيسة قسم الطب النفسي في مستشفى الرسالة منيرة النمر حديثها بالتشديد على ضرورة العمل لتخفيف الوصمة المجتمعية ونشر الوعي وكل ذلك لا يتحقق إلا بتكاتف الجميع عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام بمختلف أنواعه واستخدم كافة الطرق والأساليب”.