في عالم يضج بالأصوات، اختار خمسة إخوة من ذوي الإعاقة السمعية والنطقية بمحافظة ذمار، أن يعبّروا عن أنفسهم بلغة الإرادة، حيث تجاوز “نصر العلوي” وإخوانه محمد، علي، هارون، وأنس، حاجز الصمت ليصنعوا حضورهم كفاعلين في مجتمعهم الريفي الذي أصبح يرى فيهم اليوم قدوة ومثالاً للكفاح والعمل.
تحدي من رحم المعاناة
لم يمنعهم “صمم” الأذن من سماع نداء الحياة، ولم يسكتهم غياب الكلام عن التحدث بلغة الإصرار، نحت “العلوي” وإخوانه من أبناء مديرية وصاب، طريقا ملهمًا نحو الاندماج المجتمعي، فتحولوا من أشخاص ينظر إليهم بوصفهم “فئة تحتاج الدعم” إلى أرباب أسر فاعلين، يعيلون أسرهم، ويساهمون في بناء وطنهم بأيد ماهرة في مهنة البناء، وبعقولٍ استثنائية.
استلهم الإخوة نهجهم من والدهم “عبد الله طاهر”، الذي كرس حياته لكسر عزلة أبنائه المعاقين، وسعى بجهد شاق لتعليمهم ودمجهم في المجتمع. لم يكن الأمر سهلا، فقد حرمته ظروف الغربة وقلة الدخل من متابعة علاجاتهم في المدينة، إلا أنه لم يستسلم، فعاد إلى قريته وقرر مواجهة التحدي، واشتغل بالأعمال الشاقة ليوفر مصاريف العيش له ولأبنائه بما استطاع، وتعليمهم في المدرسة، وانخراطهم في المجتمع.
مواضيع مقترحة
ذوي الإعاقة في الأرياف.. الأكثر تهميشا بالمجتمع
جهود نسوية لمساعدة ذوي الإعاقة في الريف
تعز.. مكفوفو “قرية ضَيّة” محرمون من التعليم
يقول طاهر: “عندما علمت بإعاقة محمد، ابني البكر، حملته إلى المدينة لعرضه على الأطباء، لكنني لم أستطع تحمل تكاليف العلاج والبقاء في المدينة، فعدت إلى الريف وأسلمت أمري لله”، ومع توالي ولادة الأبناء المصابين بالإعاقة ذاتها، زادت مسؤوليته، فواصل الكفاح لتربيتهم وتوفير حياة كريمة لهم.
بجهود والدهم ومدير مدرسة “الثورة” في “المعشار” الأستاذ خالد الأزرق وكافة الكادر التعليمي استطاع طاهر أن يعلم أطفاله في المدرسة، وإشراكهم في المجتمع، وانخراطهم مع زملائهم وتعلم الكتابة والقراءة وفن الرسم في مرحلتهم المبكرة.
شق “العلوي” وإخوانه طريقا ملهمًا نحو الاندماج المجتمعي وتحولوا من أشخاص ينظر إليهم بوصفهم “فئة تحتاج الدعم” إلى أشخاص فاعلين
يروي الأزرق لمنصة ريف اليمن قصة الإخوة الخمسة قائلا: “عندما جاء والدهم لتسجيلهم، فتحنا لهم أبواب المدرسة كبيت ثان، ناقشنا كادر التعليم حول كيفية تقديم المناهج لهم، وكيف نساعدهم على استيعابها، وشجعنا الطلاب على تقبلهم ومشاركتهم في الأنشطة، وأن لا يشعروهم بالإعاقة”.
رحلة التعليم
ويضيف: “تميز الإخوة في الدراسة والرسم والرياضة، وشاركوا في الفعاليات الصباحية والأنشطة المختلفة، وتم التعامل معهم بروح الأبوة، اليوم يعد نصر من أمهر البنّائين في عزلة بني العزب”.
ويشيد طاهر بدور المجتمع المحيط، الذي لم يعزل أبناءه بل احتضنهم، قائلاً: “لم يشعروهم بالوحدة، بل كانوا جزءا من كل مناسبة، يشاركون بلغة الإشارة، وتُحترم آراؤهم، كنا دائما نشجعهم”، متذكِّراً صعوبة البداية التي تم تجاوزها بجهود المعلمين.
ووجه دعوة للمجتمع بأن يكونوا عونا وسنداً لهذه الفئة لتحقق أحلامها، داعيا الدولة لتوفير المدارس والمراكز الخاصة والإمكانيات المطلوبة ووسائل التعليم التي تتناسب مع إعاقتهم.

من جانبه وجه والد الإخوة الشكر لمدرسة “الثورة” وكافة المعلمين فيها الذين تحملوا العبء الكبير في تعليم أبنائه، وجيرانه والمجتمع الذي دعمهم ولم يشعرهم بالعزلة أو الوحدة والانطواء.
اليوم، يعمل الإخوة في مهن البناء وصناعة المعاوز، ويعيلون أسرهم ووالدهم، في مشهد يجسد الوفاء لوالدهم والاعتماد على الذات، تعلم نصر فنون البناء من والده، حتى أصبح معلما يطلب بالاسم ويحجز له العمل مسبقا لفنه وتميزه المتفرد.
بين طوب يرفعونه بحرفية، ورياضات ذهنية وجسدية يتبارون فيها، يثبت الإخوة أن الإعاقة ليست سوى إحدى محطات التحدي، لا نهاية للطموح، حولوا إعاقتهم إلى دافع للتفوق، فباتوا قدوة في تحمل المسؤولية، وكأنهم يقولون للعالم: “الكفاح لا يعرف صمتًا، والنجاح لا يحتاج إلى كلمات”.
يقول الدكتور “فاضل الشمساني”، أحد سكان بني العزب: “نصر معلم بارع، عمل معي خمس سنوات بإتقان وانضباط. لم أجد منه سوى التفاني في عمله، عمل معي منذ بدأت أجهز المنزل حتى نهايته على مدار خمس سنوات”.

أما “علي يوسف”، صاحب محل تجاري، فيصف نصر قائلاً: “ينطلق إلى عمله منذ الفجر، منضبطًا بوقته، ويعود قبل المغرب محمّلاً بجعالة لأطفاله، يزرع البسمة على وجوه أطفاله أثناء عودته من العمل وهو منهك، باذلا كل طاقته لكي يوفر مصاريف العيش ويرى الابتسامة على وجوه أطفاله الصغار”.
غياب الرعاية
رغم قصتهم الملهمة، لم يتلق الإخوة الخمسة أي دعم من صندوق رعاية وتأهيل المعاقين. يقول والدهم: “زارونا مرتين ووعدونا بالدعم، لكننا لم نحصل على شيء حتى اليوم”.
“قصة نصر وإخوته تمثل بقعة ضوء وتجسيدًا لإرادة فئة الصم، ودليلاً على أن الأسرة الداعمة تصنع الفارق”
ويؤكد الناشط الحقوقي “إبراهيم المنيفي” أن “الأسرة تعرضت لاستغلال بياناتها دون نتائج ملموسة، وهناك انتهاك متكرر لخصوصية ذوي الإعاقة، واستغلال لحاجة الناس وللأوضاع الاقتصادية، حيث يعمل البعض على تصوير ذوي الإعاقة والتسول باسمهم، أو يمتهن كرامتهم بالتصوير مقابل الفتات”.
ويضيف لمنصة ريف اليمن: “قصة نصر وإخوته تمثل بقعة ضوء، وتجسيدًا لإرادة فئة الصم، ودليلاً على أن الأسرة الداعمة تصنع الفارق، ففي حين تخفي بعض العائلات أبناءها المعاقين، برزت هذه الأسرة كمثال نادر للتكامل والتعاون، ويجب تسجيل الإخوة رسميًا في الصندوق ومنحهم حقوقهم”.
ويشير إلى أن معظم التحديات التي تواجه ذوي الإعاقة في الأرياف هي نفسها التي تواجههم في المدن، لكنها في الأرياف أكثر تأثيراً وأشد قسوة بسبب وعورة الطرق، وغياب الخدمات، والصورة النمطية التي تراهم كعبء، ويؤكد أن التعليم الريفي يفتقر للإعداد المناسب لاستيعابهم، والكوادر غالبًا غير مؤهلة.

وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن الحرب خلفت أعدادًا هائلة من النازحين والجرحى والمصابين بصدمات نفسية، من بينهم نسبة كبيرة من الأشخاص ذوي الإعاقة، سواء الجسدية أو العقلية، والذين يواجهون تحديات مركبة ومتشعبة.
وبحسب التقرير الصادر أواخر عام 2024، فإن عدد المعاقين يقدر بنحو 4.5 مليون معاق، وأن العوائق التي تحول دون إدماجهم في المجتمع كبيرة، وتفاقمت نتيجة لانهيار البنى التحتية، والصراع، والضغوط الاقتصادية، ونقص الخدمات، إلى جانب الوصمة والعزلة الاجتماعية التي تحاصر هذه الفئة من كل اتجاه.
ويقع على عاتق الدولة الدور الأساسي في رعاية وتأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة عموماً، وفي الأرياف خصوصاً، وسط مطالبات بالالتزام بالقانون رقم 61 لرعاية وتأهيل المعاقين، وسد الفجوة بين المدن والريف، وتمكينهم من الحصول على حقوقهم المتساوية مع كافة المواطنين.