تستيقظ السيدة ذكرى محمد، البالغة من العمر 32 عاماً، مع أول خيوط الفجر يومياً لجمع وترتيب نبات الكراث، ثم تتوجه بها إلى السوق لبيعها للمواطنين، وتقضي يومها في العمل الدؤوب حتى تعود إلى منزلها في ساعات العصر، منهيةً يوماً شاقاً مليئاً بالجهد، قليل الأرباح.
والكراث نبات عشبي ينتمي إلى الفصيلة الثومية، ويُعتبر من الخضروات الغنية بالفيتامينات مثل A وB وC وD، بالإضافة إلى أملاح الكالسيوم والبوتاسيوم والمغنيسيوم والحديد والفوسفور، ويقبل عليه المواطنون اليمنيون في مختلف المحافظات، ويستخدم مع وجبة الغداء بشكل رئيسي لدى معظم الأسر.
بائعات الكراث ومقاومة التمييز
تقول ذكرى، وهي واحدة من بين مئات النساء المهمشات اللاتي يعملن في بيع الكراث لتأمين لقمة العيش: “بدأت في هذه المهنة منذ أن كنت في الثالثة عشرة من عمري، إذ كنت أذهب مع والدي للمزرعة لحصد الكراث صباحا، ونقلها للسوق وبيعها من الظهر حتى وقت العصر أو عندما تنفد الكمية”.
وتضيف ذكرى في حديثها لمنصة “ريف اليمن”: “حاليا الأمر تغير، فأنا أستيقظ مبكراً، وأتجه نحو السوق بدلا من المزرعة، وأصبحنا نشتري من تجار الجملة، ومن ثم نقوم ببيعها بين حرارة الشمس، بدءاً من الصباح وحتى أذان العصر أو عندما نستكمل الكمية”.
ويُقدر عاملون في الاتحاد الوطني لتنمية الفئات الأشد فقرا (المهمشين) عدد النساء اللواتي يعملن في بيع الكراث لتأمين لقمة العيش وإعالة أسرهن، بنحو 1280 امرأة، يتوزعن على محافظات عدة، مع الإشارة إلى أن هذه الأرقام تخمينية، ومبنية على استنتاج تقديري، بسبب غياب المعلومة الصحيحة.
مواضيع مقترحة
الكراث.. رفيق المائدة الرمضانية في اليمن
المهمشون في اليمن: مساكن هشة بمواجهة مناخ متقلب
إصلاح الأحذية.. ملاذ الفقراء ومعيشة للمهمشين
ورغم الجهد والتعب الذي تبذله ذكرى، إلا أن العائد المالي الذي تكسبه بسيط خلافا عن السابق، إذ تقول: “كان العمل في بيع الكراث قبل الحرب فيه فوائد نوعا ما، رغم أن الأسعار كانت أقل، أما الآن فالأسعار أكثر والفائدة قليلة”، وهذا نتيجة انهيار العملة الوطنية.
وحول تداعيات الحرب على مهنة بيع الكراث تقول السيدة ذكرى: “قبل الحرب كان العمل في بيع الكراث مربحاً، لكن بعد اندلاعها تغيرت الأمور، سابقا كان المواطنون يمنحوننا الأرض ونحن نقوم بزراعتها، أم الآن فهم من يقومون بزراعتها إما بشجرة القات، أو الكراث ووقت الحصاد يقومون ببيع المحصول علينا بالجملة ونحن نقوم ببيعه في الأسواق وندفع أجور الأماكن التي نجلس فيها، وما تبقى نقوم بصرفه على أطفالنا”.
ويوضح عبدالجليل محمد ( 48 عاماً): “كنا نؤجر للمهمشين الأراضي الزراعية وهم يقومون بزراعة الكراث فيها وبيعها في القرى والأسواق لأننا لا نستطيع أن نعمل في هذه المهنة”. ويضيف محمد لمنصة “ريف اليمن”: “لدينا قطعة أرض تقع على مجرى المياه بمديرية المسراخ جنوب تعز، كانت مؤجرة على المهمشين مدة 20 عاما، وكانوا يقومون بزراعتها، لكن مؤخرا تم أخذها منهم من أجل زراعتها بشجرة القات بحثاً عن الربح والدخل السريع”.
والمهمشون فئة اجتماعية تعاني من التهميش والحرمان من حقوقها الأساسية منذ عقود، ويعود ذلك إلى أسباب تاريخية واجتماعية مثل العبودية والتمييز العنصري. وتُقَدر نسبتهم بنحو 12 في المئة من إجمالي سكان اليمن، أي ما يعادل 3 ملايين ونصف، حسب آخر تعداد سكاني في عام 2004، ويتواجدون في مختلف مناطق البلاد، ويتركزون في المناطق الوسطى والجنوبية، القريبة من سواحل البحر العربي والبحر الأحمر.
نظرة دونية
وتواجه السيدة ذكرى ومعها العديد من رفيقاتها تحديات كبيرة بسبب النظرة المجتمعية الدونية تجاههن، وتقول: “نعاني من التمييز بسبب لون بشرتنا، لكننا لا نعبأ بذلك لأننا نبحث عن لقمة العيش بطرق مشروعة”.
وتُعبر الناشطة الحقوقية ريمان حميد عن أسفها لهذه النظرة، مؤكدة أن الفقر وارتفاع نسبة الأمية دفع العديد من النساء المهمشات للعمل في بيع الكراث في الأسواق البعيدة كوسيلة لكسب الرزق.
وأوضحت حميد لمنصة “ريف اليمن”، أن “هذه النظرة سببها تدني الوعي لدى الكثير، بالإضافة للموروث الاجتماعي الممارس ضد النساء المهمشات منذ زمن طويل على الرغم من أن بيع الكراث ليس عيبًا”، مؤكدة أن النساء لديهن طموح لتحسين وضعهن الاقتصادي وتحسن مستوي الدخل إذا أتيحت لهن الفرص في مختلف المجالات”.
يوفقها الرأي الصحفي المهتم بشؤون المهمشين إياد البريهي إذ يقول: “هناك تمييز على المهمشات العاملات في بيع الكراث، ويرجع السبب إلى تهاون الجهات الحكومية في تطبيق القوانين التي تناهض التمييز وعدم تطبيق المساواة على الجميع”.
وأضاف البريهي لمنصة ريف اليمن: “توجد انطباعات مغلوطة وعدم وعي مجتمعي، فهم يتعاملون مع المهمشين باعتبارهم ناقصين” حسب تعبيره، لافتا إلى أن دعم محصول الكراث مغيب تماما عن مشهد الدعم الذي تقدمه بعض المنظمات للمزارعين كونه محصولاً هامشياً في ظل غياب دور وزارة الزراعة.
ويلفت شكيب قائد، (35 عاما) إلى أن مهنة بيع وزراعة الكراث تخصصت في الغالب للمهمشين، ويوضح: “يقوم الرجال باستئجار الأراضي وزراعتها، بينما تتولى النساء حصاد الكراث وتجهيزه وبيعه، وهذه المهنة أصبحت جزءاً من ثقافة النساء المهمشات منذ أجيال”.
ويضيف قائد لمنصة ريف اليمن: “رغم محدودية فوائدها، لكنها مصدر رزق للمئات من الأسر التي تعتمد عليها لتوفر الاحتياجات الأساسية، والعديد من النساء يقمن بهذه المهنة منذ عقود، ويتواجدن في معظم الأسواق، خاصة في المحافظات الشمالية”.
ابتسامة رغم الألم
ومن دون توقف يكافح هؤلاء النسوة في محاولة للخروج من دائرة الفقر وللتخفيف من المعاناة، كما يسهمن في تعليم أولادهن وبناء مسكن متواضع، ورسم ابتسامة رغم الألم وسط مجتمع لا يزال ينظر لهن نظرة دونية، مكبلة بقيود الموروث الاجتماعي.
ويقول صالح عبده صالح الأمين العام للاتحاد الوطني لتنمية الفئات الأشد فقرا (المهمشين) فرع تعز: “رغم الجهود التي تبذلها النساء في بيع الكراث فإنهن لا يحصلن على المال الكافي، وما يكسبنه خلال اليوم كاملا لا يكفي لتوفير احتياجات الأسرة بشكل كامل”.
ويضيف لمنصة ريف اليمن: “تقوم النساء بهذه المهنة منذ زمن، حتى أني عندما كنت صغيراً كنت أرى النساء المهمشات يقمن ببيع الكراث في سوق حبل رأس (بمحافظة الحديدة)، وهي مهنة يتم توارثها رغم محدودية دخلها؛ لكن الحاجة والظروف تجعلهن يعملن لساعات طويلة”.
ويلفت صالح إلى أن بائعات الكراث -ورغم محدودية ما يكسبنه- فإنهن يجبرن على دفع مبلغ من 200 الى 500 ريال لعاقل السوق مقابل المكان الذي يجلسن عليه، دون أن يحصلن على أي خدمة مقابل التحصيل المالي اليومي.
وكانت دراسة مسحية لمجتمع المهمشين في اليمن، أعدّتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، وشملت 9200 أسرة (51406 أشخاص)، كشفت عن ارتفاع مستويات الفقر مع انخفاض الإلمام بالقراءة والكتابة والالتحاق بالمدارس. وتشير الدراسة إلى أن الظروف المعيشية للأسرة سيئة للغاية، وتواجه صعوبة في الحصول على الخدمات الاجتماعية الأساسية.