لطف الصَّرَاري
ظل الغناء محرّماً رسمياً في اليمن على مدى قرون. وفي عقد الستينيات من القرن العشرين، العقد الأول لـ “ثورة 26 سبتمبر”، كان بإمكان أي فنان أن يشتري عوده الخاص من قلب صنعاء… وقد شكّلت الفنون ملاذاً جاذباً للفارين من ويلات الحرب، وفعل مقاومة للدمار الذي تحدثه في الإنسان وسياق حياته الفردية والجمعية.
“سيلاه”، “رُحماك يا سايق المطر”، “لحن الحقول”…، هناك عشرات الأغاني في التراث الفني لليمن مكرّسة للمطر، ناهيك عن حضوره في المئات منها، ممتزجاً بالحُبّ والغزَل وعرق الفلاحين.
مثل غيره من تراث البلدان الأخرى، تشكّل العلاقة بين الرجل والمرأة ثيمة أساسية في ألوان الغناء اليمني المتصدّرة للمشهد الفني في عموم البلاد. لكن عاطفة الشعراء والمطربين ليست مبتورة عن بيئتها. ففي ذروة الحزن الذي تبدأ به أغنية “الوداع” لعلي بن علي الآنِسي (1933-1982)، تكون دموع الحبيبة شبيهةً بـ”مطر في الخدّ هَتّانة”، وفي نهاية الأغنية يكون وجهها “شَمسْ بعد المطر تِفرحْ بَها الأكوان”. المطر ومعالم الزراعة، والأرض بتضاريسها الجبلية والسهلية والساحلية، ثيمات حاضرة بقوة في قصائد الشاعر والمؤرخ الراحل مطهر الإرياني (1933- 2016). هذا الثنائي هو فقط نموذج لجيل من الأدباء والفنانين الذين استوعب مواهبهم الزمن الجمهوري بعد ثورة 26 أيلول/ سبتمبر 1962 في شمال اليمن. وفي جنوبه كان هناك جيل من أدباء وفناني الزمن الجمهوري الذي بدأ عقب ثورة 14 تشرين الأول/ أكتوبر 1963.
ملمح من فنون الغناء اليمني
عند الحديث عن موضوع عام يخص اليمن كله، غالباً ما يجد المرء نفسه أمام فخاخ اللاوعي الجمعي، وهي فخاخ نصبها تاريخ الجغرافيا السياسية للبلاد بشقيه الشطري والوحدوي. علاوة على ذلك، تنطوي الجغرافيا الطبيعية لليمن على تنوع تضاريسي ومناخي شديد التباين، من مرتفعات وهضاب جبلية إلى وديان وسهول وصحاري وسواحل. هذا التنوع عكس نفسه على تركيبة المجتمع وفنونه وعاداته وتقاليده. في ما يتعلق بالغناء، عبّر التنوع الطبيعي عن نفسه في إفراز أربعة ألوان غنائية رئيسية، إضافة إلى ألوان أخرى إما في طور التشكّل أو في طور العودة إلى السطح بعد طول انطمار.
قمْع الفنون من قبل السلطات الحاكمة التي غالباً ما كان دينية، وتحريضها للمجتمع المتديّن ضد الفنون، كانا ضمن الأسباب الرئيسية المعيقة لمسيرة فن الغناء اليمني. مع ذلك صمدت محتفظة بثلاثة ألوان: الصنعاني، الحضرمي، واللَّحْجي. اللون الرابع – العدني، تشكّل من هذه الألوان، مضافاً إليها سمات من الغناء العربي، خاصة المصري، بحكم الدور الذي لعبته عدن في احتضان الفنانين الفارين من الاستبداد والفقر.
في ظل الجمهورية، نشأ اللون التعزّي والتهامي، واستعاد اللون اليافعي حيويته، بينما شحذت الحرب الدائرة في البلاد منذ العام 2014 همم فنانين وفنانات من الشباب لتجديد أغاني جيل الثورتين. ظهر أيضاً باحثون في التراث الغنائي، وإن بعدد ضئيل وغير منظم، والتحق فنانون وفنانات من الشباب بمعاهد وكليات موسيقية خارج اليمن، وأدى كل هذا بدوره إلى تسليط الضوء أكثر على ألوان الغناء اليمنية. يبدو الأمر كما لو أن الفنون شكلت ملاذاً جاذباً للفارين من ويلات الحرب، وفعل مقاومة للدمار الذي تحدثه في الإنسان وسياق حياته الفردية والجمعية.
برزت أسئلة الهوية الجمعية التي اتّضح كم قُسرت على التجانس لمئات السنين، وما زال هناك من تعمى بصيرته عن رؤية التنوّع الهائل الذي تنطوي عليه الهوية اليمنية، لو تتبّعنا فقط خارطتها الغنائية والموسيقى التي احتفظت بها حناجر النساء والرجال في الأهازيج والمَغارِد ذات الأغراض المتعددة، ابتداءً بالحُب والغزل وليس انتهاءً بأعمال البناء والزراعة والحصاد. وأنّى لسلطات سياسية لا تقيم للفنون وزناً أن تتلمّس ملامح الهوية المتنوّعة للمجتمع من تنوّع فلكلوره الغنائي والموسيقي!
العود سلطان الطرب
تُظهر لوحة أثرية مكتشفة في إحدى خرائب اليمن القديم رسماً لآلة عود، وفي لوحة أخرى تظهر آلة هارْب. هل كان اليمنيون في ذلك الزمن “البدائي” يُنشدون أهازيجهم الدنيوية وابتهالاتهم للإله، ملحّنة على أنغام هاتين الآلتين؟ لا أحد يستطيع الجزم بدون بحث موسّع ودراسة معمّقة، وخبراء الآثار الذين نقّبوا لعشرات السنين في المدن والقرى الأثرية، لم يهتموا بتخصيص بحث أو أكثر لدراسة اللوحتين فنّياً قدر اهتمامهم بما تقوله اللُّقى عن التاريخ السياسي والديني قبل الإسلام!
خلال قرون العصر الإسلامي ابتكر فنان يمني مجهول آلة وترية أخرى هي “القَنْبوس”، وهي الآلة التي افتُتن بها وتعلم العزف عليها الباحث الفرنسي “جان لامبير”. كان النجّارون في صنعاء يصنعون منها تصاميم قابلة للطّي لكي يسهل إخفاؤها أثناء التنقّل من وإلى مكان الحفلات أو عند حدوث مداهمة من قبل السلطات للحفل. على مدى قرون، ظل الغناء محرّماً رسمياً، وفي عقد الستينيات من القرن العشرين، العقد الأول لثورة 26 سبتمبر، كان بإمكان أي فنان أن يشتري عوده الخاص من قلب صنعاء. الغالبية العظمى من الأغاني اليمنية أُنتجت بالعود والإيقاع/ الطبلة والصحن، باستثناء تلك التي أُنتجت في استديوهات عدن وبيروت. ومع تصاعد نزعة تحريم الغناء لدى فئة عريضة من علماء الدين الجمهوريين، بَهُت ذلك الزخم الفني، واقتصر توفّر الآلات الموسيقية للفنان على الأغاني التي تتبناها وزارة الثقافة.
غير أن عدداً كبيراً من أغاني جيل الثورة وما قبلها لقي من يهتم به ويجمعه عوضاً عن المؤسسة الرسمية. وفي أواخر العام 2021، بلغ عدد التسجيلات المؤرشفة في مكتبة “البيت اليمني للموسيقى” ما يقارب 60 ألف تسجيل. أكّد ذلك مدير البيت الفنان “فؤاد الشرجبي” في حديث سابق مع الكاتب، ويمكن للمرء أن يتصور كم بين هذا العدد من التسجيلات أغانٍ وأهازيج تتضمن ثيمة المطر في مجتمع يعتمد ثلثاه على الزراعة. أغانٍ مستلهمة من الموروث الموغل في القدم للفلاحين والفلاحات، ومن أقوال الحكماء الزراعيين وخبراء التقويم الزراعي الذين يتناقلون هذه المعرفة التقليدية بذاكرة شفهية مرنة. والمرونة هنا تراكمية بفعل سيرورة الزمن والتطوّر الاجتماعي، ولغوية بحكم اختلاف اللهجات في اليمن بين منطقة وأخرى واندثار الأبجدية القديمة التي كانت متداولة قبل اللغة العربية الفصحى.
أيّوب والمطر
“على المحبّين شِنّ يا مطر نيسان” “شِنْشِني شِنْشِني يا مطر رُشِّني”، هذان مطلعان لأغنيتين غزليتين للفنان “فيصل علوي” الذي رفد لونَي الغناء اللَّحْجي واليافعي بتفاصيل لحنية كبيرة ثبّتت ملامحه المميّزة خلال عقود النصف الثاني من القرن العشرين. محافظة لحج من المحافظات الزراعية التي تعتمد على المطر في الزراعة وتغذية آبار المياه. تضاريسها تجمع بين المرتفعات الجبلية والسهول الساحلية، وبذلك جمعت بين مناخين ومزاجين مهنييّن: الزراعة وصيد الأسماك، إضافة إلى أمزجة صنائع أخرى بالطبع. مناخها يقترب من مناخ تعز والحديدة وأبْيَن، وهي ملتقى عدة سيول تأتي من المحافظات الشمالية، سيّما محافظات إب، تعز والبيضاء، كما تصب في وديانها سيول محافظة الضالع المجاورة لها من جهة الشمال كذلك.
لطالما كان وادي تُبَن” وبساتين “الحُسيني” مصدر إلهام لشعراء الأغنية اللَحْجية وأبرزهم الشاعر “أحمد فضل العُبدُلي” (القُمِندان) و”محمد صالح حمدون”. لكن التراث الزراعي لم يحظ بشعراء غنائيين مكرّسين لحفظه في الذاكرة الفنية. ويمكن القول أن التراث الزراعي لليمن لم يحظ عموماً بشعراء وفنانين يثبّتونه في ذاكرة الفن الغنائي المحفوظ في تسجيلات مؤرشفة عدا ما قام بتوثيقه بعض المهتمّين. بالتأكيد هناك استثناءات تمثّلت بأغاني شارات بدء ونهاية لبرامج تلفزيونية وإذاعية، وهناك بالطبع، “أيوب طارش عبسي”، المعروف محلياً بألقاب متعددة من بينها فنان الأرض والحقول.
تغلب على معظم أغاني الفنان “أيوب طارش” ثيمات من قبيل “المطر”، “الهثِيم”، “الساقية”، “الأرض”، “الزّرْع”، “الحقول”…إلخ. تشكيلة طويلة من مفردات وجُمل شعرية أبدعها الشعراء الذين تعامل معهم، وفي طليعتهم “عبد الله عبد الوهاب نعمان” (الفُضول). عُنيت هذه المفردات والجُمل بالأرض بما هي وطن وإنسان، حقلٌ ومَسقى، وبالسماء بما هي مصدر العطاء والعون والحفظ الإلهي للأرض والإنسان وممتلكاته.
“شِنّي المطر يا سحابة فوق خُضر الحقول، قولي لمارب متى سدُّهْ يضمّ السيول”، “سِحْرِكْ يا أرضي فريد”، “لمْع البُروق على جبال الأحْيوق”، “شَنّ المطر على اليمن سَكّاب، يا بلدي الخضراء أنا المُغَرَّب”… يمكن لليمني، خاصة إذا كان مولوداً أو نشأ في محافظة زراعية، أن يتذكر مطالع أغانٍ أخرى ل”أيوب طارش” أو جُمَل منها تخص المطر والأرض والسيل. وعلى الرغم من أنه لم يتلقّ تعليماً موسيقياً متخصصاً – وهذا حال الغالبية العظمى من روّاد الأغنية اليمنية – فغالباً ما لحّن “أيوب” أغانيه بنفسه، وهو ملحّن النشيد الوطني الرسمي لليمن الموحّد: “ردّدي أيتها الدنيا نشيدي”. أما أغانيه الوطنية فلطالما صدحت من مكبرات الصوت الخاصة بحملات المتنافسين في الانتخابات قبل الحرب، ومن إذاعات أطراف النزاع بعد اشتعال فتيلها، دون أن يتمكّن طرف من احتكار هذه الأغاني لنفسه. ذلك أن معايير الفنان اتّسمت بحساسية شديدة تجاه ورود أسماء القادة أو أحزابهم في أغانيه، ولا بدّ أنه يشعر بالرضى الآن بينما يتقدّم به العمر، لكونه لم يضعف أمام إغراء أو حرَج.
الآنسي والسيل
كان الفنان “علي بن علي الآنسي” مهجوساً بالخروج من قالب النمط اللحني للون الصنعاني، خاصة ذلك النمط المتعلق باعتياد قدامى المطربين والمنشدين على أداء أكثر من قصيدة بلحن واحد. حاول ابتكار ألحان من كلّ ما تستطيع أذنه التقاطه من أصوات في محيطه، أخفق في كثير منها، لكنه نجح في تخليد روائع غنائية من قبيل “الحُبّ والبُنّ”، “يا شاري البرق من تهامة”، “سيلاه”… وغيرها. يقول كثيرون من المهتمين بفنّ الغناء الصنعاني إن هذه الأخيرة استلهم لحنها من طريقة المقرئ الراحل “محمد القَرِيطي” في تلاوة القرآن. هي طريقة ليست شجيّة بأي حال، لكن أذن الفنان الذي حاول ذات مرة استلهام لحن من صوت مضخة لنزع المياه في ريف صنعاء، التقطت نغمة طربية من صوت المقرئ غير الشجي.
أدّى الآنسي هذه الأغنية دويتو مع الفنانة “نجاح أحمد” التي كانت تستخدم اسماً فنياً مستعاراً تحت ضغط المنع العائلي للمرأة من الغناء. استهلت الفنانة “ثابتة” أغنية السيل بصوتها الحاد، وتعكس مفردات القصيدة التي كتبها الشاعر “عباس المطاع” ما يعنيه المطر لسكان جغرافيا جبلية يستصلحون كل مساحة ممكنة للزراعة، بما في ذلك منحدرات الجبال الشاهقة:
“بارق الصيف قد لاح.. وجاوبته السحايِبْ،
فسيري يا بِطاح وبشّري كل فلّاح…
يا يمن يا بلادي.. يُمَّ [يا أُمّ] السحاب المطيرِة
رعْدِش [رعدِك] اليوم حنّ.. والبارق ابْرَق بالافراح”.
قداسة الأرض ولعنة التفريط بها
لا يزال سكان المحافظات الشمالية الغربية من اليمن يسمّون الأرض “مال”، بينما تُشدِّد الحِكم المتوارثة على عدم التفريط بها أو هجرها أو حتى التقاعس عن العناية بها. في هذه الجغرافيا التي أطلق عليها العثمانيون اسم “اليمن الأعلى”، تتواتر أقوال حكيم شعبي لا يُعرف له أثر في تاريخ البلاد عدا أن اسمه “علي ابن/ وِلْد زايد”. وفي المناطق التي أطلق عليها العثمانيون أيضاً اسم “اليمن الأسفل”، تتواتر أقوال حكيم شعبي مماثل اسمه “الحُميد ابن منصور”، ويمتدّ نطاق تداول أقواله إلى عُمان، ويحدث أن تتداخل أقوال الحكيمين في التداول بما يعزز من فكرة كونهما شخصيتين وهميتين نظم المجتمع اليمني خلاصة خبرته شعراً على لسانيهما.
من أقوال “علي ابن زايد” في المطر: “إنْ الشفَق يِصبح احْمرْ.. فالسيل يِنزل غزارة، وإنْ الشفق يصبح أبيض.. فالشدّ ينزل سُمارة”، وسمارة جبل كبير شمال محافظة إبّ، وهو الفاصل بين “اليمن الأعلى” و”اليمن الأسفل”. أما أقواله في الأرض فتختزلها هذه المقولة: “لُعنت يا بايع المال.. كان ارْهنِهْ لا تِبيعِه، البيع مثل الذي مات.. والرهن مثل الوديعِة”. ومن أقوال توأمه “الحُميد”: “كريم يا بارق الصيف.. اخْتَفْتْ [خِفتُ] من حيث أماني.. وأمنت من حيث أنا خَيْف”، “رُحِمت يا كاسب الطين.. ولا رُحِم من يبيعِه”. تعكس هذه الأقوال ثقافة تقديس الأرض والاحتفاء اللائق بالمطر، ومن هذه الثقافة نهل الشعراء ومؤلفي الأغاني المعاصرة، ومع ذلك لا يزال الجزء الأكبر من هذه الثقافة غير مستثمَر فنّياً وأدبياً، وغير مدروس كما يليق بنباهة الإنسان الذي يعرف وجهة المطر من اتجاه البروق وحركة الطيور والأشجار البرية.