تتخذ السيدة نورة ثابت (50 عاما) من الجبن البلدي وسيلة للعيش؛ إذ تكابد ظروف الحياة وتقطع مسافات بعيدة مشيا على الأقدام للوصول إلى أقرب سوق شعبي غربي تعز، من أجل بيعه لتأمين لقمة العيش لأفراد أسرتها المكونة من 9 أفراد.
تنحدر نورة من قرية القوز الأسفل غرب المحافظة، وتطوف الأسواق الشعبية في المناطق الريفية لبيع الجبن البلدي للمواطنين، واحياناً تضطر لقطع مسافات طويلة مرة أخرى لبيع ما تبقى، كي تعود لمنزلها وقد تمكنت من توفير الاحتياجات الضرورية.
وهذا حال عدد من النساء الريفيات في اليمن. ونورة هي واحدة من بين مئات النساء اللواتي أجبرتهنّ تداعيات الحرب على الخروج إلى أسواق العمل، خاصةً مجال الزراعة وصناعة الجبن والحرف اليدوية وغيرها من الأعمال والمهن التي كان بعضها حصرا على الرجال.
وبحسب المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، يعيش أكثر من 25.5 مليون يمني من أصل 30 مليونا إجمالي السكان، تحت خط الفقر، جراء تداعيات الحرب المستمرة منذ أكثر من سبع سنوات، مشيرة إلى أن السكان في اليمن هم بحاجة إلى دعمنا الآن أكثر من أي وقت مضى.
وجبة شهية ووسيلة للعيش
تقول نورة لمنصة ريف اليمن: “الجبن مصدر دخلي الوحيد للوقوف إلى جانب الأسرة، والوسيلة الوحيدة من أجل انتشالهم من الفقر والمجاعة التي يعيش فيها سكان أغلب المناطق الريفية بمحافظة تعز”.
وتوضح أنها بدأت العمل في عام 2014 عقب إصابة زوجها بمرض طرحه على الفراش يتكبد الألم والمعاناة، فهي كانت تعيش مع زوجها وأسرتها قبل الحرب بسنوات، بمحافظة الحديدة، وكانت حياتهم مستقرة.
تضيف نورة لمنصة ريف اليمن: “كان زوجي يعمل خبازاً بأحد المطاعم بمحافظة الحديدة، لكن إصابته بمرض القلب والتهاب الرئة أواخر عام 2013 أجبرنا على العودة إلى منزلنا في ريف تعز الغربي وشراء 10 أغنام، فتعلّمت صناعة وبيع الجبن البلدي”.
وتشرح طريقة تصنيع الجبن البلدي فتقول: “عملية إعداد الجبن تتم بعدة طرق تقليدية، ويستعمل حليب الأبقار أو الأغنام مكونا رئيسيا، ويُخزّن الجبن في صحون بلاستيكية خاصة لفترة من الزمن لتطور نكهته، ثم نضيف نكهة الدخان على قطع الجبن الجاهزة”.
ومن أبرز الصعوبات والتحديات التي واجهتها نورة في بيع الجبن البلدي، تراجع مستوى شراء الجبن البلدي من قبل المواطن الريفي بسبب ارتفاع الأسعار وتضخم الاقتصاد.
وذكرت نورة أنه قبل نشوب الحرب كان صانعو الجبن البلدي يحصلون على مردود مناسب من المال يغطي احتياجاتهم اليومية، لكن اليوم في زمن الحرب أصبح صانعو الجبن يواجهون صعوبة في البيع، بسبب تراجع إقبال المواطنين نتيجة الظروف المادية.
وأشارت إلى أن زراعة الألغام والعبوات الناسفة في المناطق الريفية التي فيها مراعي الأغنام، ضاعفت من صعوبة عملية إنتاج الجبن؛ لأن تلك الأماكن أصبحت محفوفة بالمخاطر.
نموذج للمرأة الريفية القوية
يعلق استاذ علم الاجتماع محمد التاج على حالة نورة قائلاً: ” السيدة نورة نموذجًا للمرأة الريفية القوية، التي تحارب الصعاب لضمان العيش الكريم لعائلتها رغم التحديات التي تواجهها”.مردفا أنها واحدة من النساء الريفيات اللاتي يعتمدن على إرادتهن وشجاعتهن في مواجهة الصعوبات، باحثات عن رزقهن اليومي بكل حماسة.
وقال لمنصة ريف اليمن إن ” الجبن البلدي يعتبر واحداً من أشهر أصناف الجبن في اليمن، ويحظى بشعبية كبيرة بين السكان المحليين والزوّار على حد سواء”، و”يظلّ الجبن البلدي رمزا للثقافة والتراث الغذائي في اليمن، وهو يستحق المزيد من الاهتمام والدعم لضمان استمرارية تقديره واستخدامه في المستقبل”.
تتذكر نورة الأيام قبل اندلاع الحرب حينما كانت تصنع الجبن البلدي وتقوم ببيعه بمبالغ مالية مجزية تكفي لسد احتياجات أسرتها اليومية؛ إذ إن الإقبال على شراء الجبن البلدي كان كل يوم في ازدياد من قبل المسافرين والمواطنين، لكنها اليوم تتحسر بعد تسع سنوات من الحرب كيف أصبح حالها وكيف أجبرتها الأوضاع المعيشية على الذهاب لمناطق بعيدة لشراء الجبن وبيعه.
وتقول: “إن الأغنام التي كانت تزوّدها في الحليب لصناعة الجبن ماتت بسبب الألغام والعبوات الناسفة التي خلفتها الحرب في جبل عقاب، وبقيت المناطق المجاورة لها”.
وتتابع: “قبل الحرب كنت أبيع في اليوم الواحدة ما يزيد على 24 قطعة جبن، لكنها حاليا بالكاد تتمكن من بيع نصف ما كانت تبيعه سابقًا، وتشكو نورة من حرمان أولادها التعليم، فتقول: “أولادي التسعة لم يكملوا المرحلة الاعدادية التعليمية بسبب عدم القدرة على توفير المستلزمات الدراسية، مما جعل الأطفال يعزفون عن التعليم ويلجؤون إلى المساعدة في رعي الأغنام وصناعة الجبن”.
لم تكن نورة وحدها تعيش معاناة الحياة القاسية التي أثقلت كاهلها، بل هناك عدد من النساء في المناطق الريفية بمحافظة تعز يقاسمن نورة ألمها ومعاناتها بكل تفاصيلها اليومية، كرعي الأغنام، وصناعة الجبن، وجلب المياه والحطب من أماكن بعيدة، والعمل في النشاط الزراعي والذي يعتبر المصدر الرئيسي لسكان المناطق الريفية.
رمز للكفاح
أما الباحث الاقتصادي فارس النجار، فيقول إن المرأة اليمنية تلعب دورًا حيويًا وأساسياً في تأمين الغذاء لكثير من الأسر، خاصة في المناطق الريفية، وذلك في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة والتحديات التي تواجه اليمن.
وتابع النجار لمنصة ريف اليمن: “تبرز المرأة عمودا فقريا في دعم العائلات في الأرياف لضمان توفير الاحتياجات الأساسية، وتلعب دورًا متزايد الأهمية في التكيف مع هذه الظروف الصعبة وضمان استدامة المعيشة للعائلات”، وذكر أن المرأة الريفية كانت تشكل نحو 30% من القوى العاملة في الزراعة قبل اندلاع الحرب، فيما ارتفعت نسبة النساء العاملات في الزراعة إلى ما يقارب 50%، في زمن الحرب نظراً لزيادة حاجة الأسر إلى مصادر دخل إضافية، نتيجة غياب الرجال بسبب النزاع.
وأشار الباحث الاقتصادي النجار إلى أن المرأة تقوم بأعمال متعددة تشمل زراعة المحاصيل، ورعاية الحيوانات، وإنتاج الألبان، وهو ما يُسهم بشكل كبير في توفير الغذاء للأسرة والمجتمع. بالإضافة إلى ذلك، تعمل النساء في جمع المياه والحطب، مما يدعم استمرارية الحياة اليومية في القرى والمناطق النائية.
ولفت إلى أن المرأة تظهر المرأة قدرة فائقة على التكيف والإبداع في مواجهة التحديات، فهي تُسهم في إدارة الموارد المحدودة بطرق مبتكرة وتشارك في الأسواق المحلية لبيع المنتجات الزراعية والحرفية، مما يعزّز من دخل الأسرة ويضمن استدامة المعيشة.
داعيا إلى تقدير جهود المرأة الريفية في اليمن، ودعمها وتوفير الفرص والإمكانيات لها لتعزيز دورها في المجتمع، وتمكينها بالتعليم والتدريب والدعم المالي، حتى يكون لها تأثير إيجابي أكبر على الأمن الغذائي والتنمية المستدامة في اليمن.