مع بداية موسم اصطياد سمك الحَبَّار، تتحول سواحل تهامة والبحر الأحمر إلى مسرح حي لحركة الصيادين، حيث تبدأ رحلة البحث عن أحد أهم الثروات البحرية في اليمن، ومعها تتنوع الحكايات بين الرزق اليومي، والموروث المتوارث عبر الأجيال، وبين التحديات التي تواجه البحّارة ومجتمع الصيادين.
الحَبَّار حيوان بحري من الرَّخَويات الشائعة في المناطق الدافئة كالبحر الأحمر والبحر المتوسط، كما يوجد في المياه الضحلة والعميقة على حد سواء، ويستمد تسميته نظرا لوجود غدة بأحشائه تفرز سائلا أسود كالحبر يطلقه في سحابة يختفي وراءها عن نظر الأعداء.
يقول “باسل جابر”، وهو أحد الصيادين في تهامة: “من مطلع أغسطس يبدأ موسم اصطياد الحبار في تهامة وسواحل البحر الأحمر، أخرج من المنزل الصباح وأرجع بعد صلاة العصر، أ ستخدم (قارب) هواري للاصطياد، لديه شراع مصنوع من القماش، وأعود عادة بكمية من الحبار”.
مواضيع مقترحة
-
الصيادون اليمنيون بين جحيم الحرب وتطرف المناخ
-
موسم الجمبري.. فرصة الصيادين المحفوفة بالتحديات
-
الوَزِف.. السمك المجفف المُفضل بمائدة سكان تعز
أما الصياد “سليم أحمد”، فيرى أن الليل أكثر سخاء في منح الرزق، إذ يقول “أفضل صيد الحبار بعد صلاة المغرب، أحياناً أعود بلا صيد، وأحيانا أعود بصيد كثير، وهكذا”، لخص بكلماته حال البحّارة الذين يتأرجح رزقهم بين وفرة وغياب.
في سوق السمك بمدينة الحديدة، حيث يختلط صخب الباعة برائحة البحر، يقول التاجر “مروان حميدان”: “يدخل السوق يوميا من 3 إلى 4 أطنان من الحبار خلال الموسم، من أغسطس حتى أكتوبر، هذا الموسم ينعش السوق ويؤمن دخلا مهما لعشرات الأسر الساحلية”.
غذاء واقتصاد
يشرح الدكتور “يحيى فلوس”، أستاذ الأحياء البحرية والمصائد في كلية علوم البحار بجامعة الحديدة، أهمية هذه الثروة: “الحبار (المعروف محلياً باسم السمَع أو البنجيز) يُعد من الثروات البحرية المهمة في اليمن، حيث تلعب الصادرات دوراً حيوياً في الاقتصاد اليمني”.

كما أن الحبار، بحسب فلوس، من أهم الرخويات البحرية ذات القيمة الاقتصادية العالية في البحر الأحمر، فهو غني بالبروتين عالي الجودة، ويحتوي على فيتامين B12 المهم لصحة الأعصاب وتكوين خلايا الدم، إضافة إلى الحديد والبوتاسيوم، كما يحتوي على مواد طبيعية تعزز القدرات العقلية مثل الدوبامين.
ويضيف: “صادرات الحبار تسهم في دعم الاقتصاد اليمني، إذ يُصدَّر إلى عدة دول آسيوية وأوروبية، ويصل سعر الكيلوغرام الواحد إلى نحو 4 دولارات أمريكية، فيما ترتفع الأسعار أحيانًا بحسب الجودة ومناطق الاصطياد”.
أما “أحمد البهيشي”، الباحث في مجال المصائد السمكية، فيوضح أن الحبار يحتل مركزًا متقدمًا في قائمة الصادرات البحرية اليمنية، ويقول: “الحبار يأتي في المرتبة الأولى أو الثانية من حيث الأهمية التصديرية”.
ويضيف: “الكميات متوفرة بشكل جيد، والقيمة السعرية تصل إلى 20 دولاراً للكيلو، وهو ما يشكل مردوداً غير عادي، يمثل الحبار أهمية قصوى للشركات اليمنية التي تصدره بالأطنان إلى شرق آسيا وأوروبا، كما يشكل مورداً اقتصادياً مهماً للصياد نفسه”.
موروث ثقافي واجتماعي
يرى “عبدالله عايش”، معيد بكلية علوم البحار – جامعة الحديدة، أن اصطياد الحبار ليس مجرد مهنة تقليدية يقتات منها الصيادون، بل هو موروث ثقافي واجتماعي واقتصادي متكامل، ارتبط بذاكرة البحر ووجدان المجتمعات الساحلية عبر الأجيال.
ويشير عايش إلى أن البعد التراثي والثقافي للصيد جعله جزءاً من الهوية الساحلية وطقساً متوارثاً، فيما يحمل بعداً اجتماعياً يتمثل في التعاون العائلي؛ إذ يخرج الرجال للصيد بينما تنتظر الأسر حصيلة الرحلة وتستعد لاستقبالها.
أما من الناحية الاقتصادية، فيمثل الحبار مورداً أساسياً للرزق؛ إذ يُباع في الأسواق إما طازجاً أو محفوظاً بالثلج أو مملحاً أو مجففاً، وهو ما وفر على مدى سنوات مصدر دخل ثابتاً لكثير من الأسر الساحلية.

يؤكد عايش أن للصيد أيضاً بعداً مهنياً، حيث تنتقل الخبرة من الآباء إلى الأبناء، لتبقى هذه الحرفة حاضرة في وجدان المجتمع، بينما يتحول عند آخرين إلى هواية بحرية تضيف بعداً ترفيهياً للصيد، ولا يغيب البعد الغذائي للحبار، إذ يُعد جزءاً تقليدياً من النظام الغذائي في تهامة والمدن الساحلية، حيث تتنوع طرق إعداده بين الطهو المباشر أو الحفظ لوقت لاحق.
يضيف: “خبرات الصيادين لم تقتصر على معرفة مواسم الصيد وأوقاته، بل امتدت إلى طرق التصنيع التقليدية مثل التجفيف والتمليح والتثليج، وهو ما جعل من الحبار ركناً أساسياً في الموروث البحري وذاكرة المجتمعات الساحلية في اليمن”.
تحديات مناخية
يمتد قطاع صيد الأسماك في اليمن على مساحة 2,500 كيلومتر من الساحل، ويساهم بنحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي، ويوظف ما يقرب من 2% من القوى العاملة، وعلى الرغم من إمكاناته، فإن الصراع المطول والصدمات المناخية والبنية الأساسية القديمة أعاقت نمو القطاع، بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
الباحث “هزاع كداف” قال إن الحبار يعدّ من أكثر الكائنات عرضة للتأثر نظرًا لقصر دورة حياته وحساسيته للتغيرات البيئية، وأوضح أن أبرز العوامل التي تحدد مستقبل هذا الكائن البحري تتمثل في ارتفاع درجة حرارة مياه البحر، وتوفر الغذاء، ومستويات حموضة المياه إضافة إلى توفر المأوى أو المسكن، وكذلك تغيّر معدلات الملوحة.
ويضيف كداف أن كل نقطة من هذه التحديات تحتاج إلى تفسير علمي مستقل، إلا أنها مترابطة بشكل وثيق، ويقف وراءها العامل الأساسي المتمثل في التغير المناخي العالمي.
من جهته يقول عايش إن التغير المناخي وارتفاع حرارة المياه يؤثران على تكاثر الحبار ومواسم هجرته، فيما يؤدي التلوث البحري إلى نفوق جماعي لليرقات.
ويضيف: “التغيرات في التيارات البحرية والرياح تغيّر من توقيت مواسم الاصطياد ونجاحه، فضلاً عن الصيد العشوائي والمفرط، والصراعات البحرية والعسكرية التي قد تهجر الصيادين من مناطقهم”.
يساهم القطاع السمكي بنحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي ويوظف ما يقرب من 2% من القوى العاملة وعلى الرغم من إمكاناته فإن الصراع والصدمات المناخية أعاقت نموه.
رغم كل هذه التحديات، ما زال الصياد اليمني متمسكا بالبحر كمنفذ للأمل، يقول الباحث أحمد البهيشي: “رغم الظروف الصعبة، يظل الحبار بالنسبة للبحّارة مورد رزق رئيسي، ومصدرًا لتقليل البطالة والفقر وتنشيط الأسواق المحلية، كما يسهم في دعم الصناعات الغذائية، وتوفير النقد الأجنبي للبلاد”.
ويرى البهيشي أن تطوير هذا القطاع يحتاج إلى استراتيجيات مستدامة تشمل إنشاء مراكز بحثية متخصصة، وتدريب الصيادين على أساليب الصيد الحديثة، وتوسيع البنية التحتية لتصدير المنتجات البحرية اليمنية.
ويواجه الصيادون تحديات كبيرة منها التغيرات المناخية وتقلبات الطقس، التي أثرت على وفرة الأسماك في السنوات الأخيرة، مع نقص الأدوات والمعدات الحديثة للصيد، وارتفاع تكاليف الوقود والزيوت الخاصة بمراكب الصيد.

