في ظل صيف لاهب وغياب شبه تام للأمطار، يقترب اليمن أكثر من حافة الجفاف؛ إذ تعتمد البلاد بشكل شبه كلي على مياه الأمطار كمصدر رئيسي للمياه. ومع تفاقم الأزمة، تتعالى التحذيرات من كارثة وشيكة تهدد الإنسان والزراعة والحياة الريفية برُمَّتها.
وفي القرى اليمنية، يواجه السكان أزمة خانقة في الحصول على المياه، وسط تراجع حاد في هطول الأمطار الموسمية، واستنزاف غير منظم للموارد المائية؛ بفعل الحفر العشوائي للآبار، والاستخدام المفرط للمياه دون رقابة أو وعي.
المزارع “عارف الجحمة” يصف مأساة نقص الأمطار بالقول: “قطرة ماء اليوم تساوي جرامات من الذهب، بل إن كنوز الدنيا لا تعني شيئًا إذا شحّت الأرض، وغِيْضَ الماء، وأقلعت السماء”.
يتحدث الجحمة الذي ينحدر من محافظة إب وهو يرى أرضه تذبل بصمت، ويشاهد المزارعين من حوله يروون شجرة القات في عزّ الصيف، غير مدركين أن كل جالون مهدور قد يكون آخر ما تبقّى من بئر على وشك النضوب، لافتا إلى أن السبب يعود إلى جهل المزارعين بأن الاستخدام العشوائي للمياه قد يحكم عليهم وعلى مزروعاتهم بموت بطيء.
مواضيع مقترحة
-
الزراعة في اليمن: تحديات المناخ والحلول الممكنة
-
اليمن تواجه موجة جفاف تفاقم تحديات الأمن الغذائي
-
اليمن تتحمل عبئاً أكبر.. ما مستقبل الموارد المائية؟
ويواجه القطاع الزراعي في اليمن تحديات متزايدة، أبرزها التأثيرات المناخية التي تؤثر سلبًا على الإنتاجية الزراعية، وتتركز هذه التأثيرات على قطاعات الزراعة والمياه، لا سيما في المحافظات الجبلية. وبحسب تقرير الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) الصادر في ديسمبر 2023، فإن اليمن ضمن أكثر دول العالم هشاشة مناخية، رغم كونها من أقل الدول إسهاماً في الانبعاثات.
البحث عن قطرة ماء
لم تقف الأزمة عند حدود الحقول؛ ففي البيوت أيضا تبدو المياه أثمن من أي شيء آخر، فعائلة السيدة “آسيا علي (60 عاما)”، واحدة من بين السكان الذين يواجهون صعوبة في الحصول المياه، كحال المئات من سكان القرى الريفية الذين يعانون من شح الماء.
يواجه سكان الريف أزمة خانقة في الحصول على المياه، وسط تراجع حاد في هطول الأمطار الموسمية واستنزاف غير منظم للموارد المائية
تتحسر آسيا المنحدرة من منطقة السياني، على استخدامها للماء بشكل عشوائي في السابق، فهي حسب قولها كانت لا تدرك قيمة قطرة الماء وأهميتها، وتضيف في حديثها لمنصة ريف اليمن: “شح المياه تسبب في حدوث العديد من المشاكل بين نساء القرية؛ بسبب التزاحم أمام طوابير الماء”.
وتقول: “مع كل قطرة ماء أهدرتها يئن قلبي حزنًا وأسفًا لأني كنت أستخدم الماء بشكل مفرط في الغسل والري، بل إن أصحاب البيت جميعهم كانوا يستحمون كل يوم، والآن نبحث عن قطرة ماء تروي ظمأنا”، مؤكدة أن “غياب التوعية سبب رئيسي في إهدار المياه من قبل ربات البيوت”.
تعكس قصة آسيا وعارف، واقعًا مريرًا يواجهه العديد من المزارعين والأسر في المناطق الريفية؛ حيث تتزايد التحديات المرتبطة بشح المياه وارتفاع تكلفتها؛ مما يدفع الأفراد إلى مواجهة عواقب الاستهلاك المفرط الذي كانوا يمارسونه في السابق.
الحفر العشوائي
ويؤكد المهندس الزراعي “محمد القيسي” أن “أخطر ما نواجهه في قضية الاستنزاف العشوائي للمياه هو غياب التوعية لربات البيوت والمزارعين وفئة الشباب بأهمية الحفاظ على المياه واستخدامها بشكل يحفظ ديمومتها وعدم نضوبها”.
وأوضح القيسي لمنصة ريف اليمن أن “التوسع العشوائي في حفر الآبار دون أي رقابة حكومية تُذكر، أدى إلى حفر ما يقارب 100 ألف بئر، أغلبها حُفرت بشكل عشوائي، كما تشير الدراسات والأرقام، وهذا كله أدى إلى استنزاف الطبقات المائية بمعدلات تفوق بكثير قدرتها الطبيعية على التجدد”.
وأضاف أن “الجهات المعنية تغيب بشكل كامل في هذه القضية التي تُعدّ أهم قضية اجتماعية وبيئية وإنسانية؛ لأن الماء هو عصب الحياة، وبنفاذه تموت الأرض ومن عليها”.
“حبيب السيد (40 عاما)”، الذي يقطن إحدى قرى شرعب بمحافظة تعز، حيث اعتاد أهالي القرى على بناء سدود صغيرة خاصة لتجميع مياه الأمطار خلال فصل الصيف واستخدامها على مدار العام، إلا أن الكثير من السدود جفّت، بسبب شُح مياه الأمطار، والاستنزاف الخاطئ والعشوائي للمياه.
يستهلك القطاع الزراعي الجزء الأكبر من المياه بسبب الاعتماد على طرق الري التقليدية، التي تتسبب في هدّر نحو 40% من المياه المستخدمة
يمتلك حبيب سداً صغيراً لتجميع مياه الأمطار، لكن هذا السد لم يعد يفي باحتياجاتهم اليومية من الماء، بسبب شح الأمطار، ويصف الوضع لمنصة ريف اليمن قائلاً: “هذا العام قاسٍ بحرارته، وقاتل لكل شيء حي من الزرع إلى المواشي والأغنام التي لم تعد تجد ما تقتاته، تغيب عنا التوعية بأهمية استخدام المياه بشكل يحميها من النضوب”.
تشير تقارير إلى أن القطاع الزراعي في اليمن يتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية الاستهلاك المفرط للمياه، يعود ذلك بشكل خاص إلى الاعتماد الواسع على طرق الري التقليدية، كـالغمر والري السطحي، التي تتسبب في هدر ما يصل إلى 40% من المياه المستخدمة.
إلى جانب طرق الري غير الفعالة، تبرز زراعة القات كمشكلة رئيسية، حيث يستهلك إنتاجه حوالي 30% من المياه الجوفية، بينما لا يُخصص سوى 7% فقط للاستخدامات المنزلية، ويعد القات كابوسًا مخيفًا يهدد الأرض والإنسان بتلاشي الحياة وانعدامها.

تأمين مستقبل مائي
ويرى المهندس القيسي أن الحل لأزمة المياه في اليمن لا يكمن فقط في تغيير أساليب الري -مثل التحول إلى الري بالتنقيط والرش التي يمكن أن تقلل من الاستهلاك بل يتجاوز ذلك إلى ضرورة تبني إدارة متكاملة للموارد المائية، تشمل قطاعات الزراعة والصناعة والاستخدامات المنزلية.
وأكد على حتمية وضع استراتيجية وطنية شاملة تنظم عمليات حفر الآبار، وتُحفز على تبني التقنيات الحديثة، وتلزم المصانع بمعالجة وإعادة تدوير المياه، فأزمة المياه في اليمن ليست مجرد أزمة موارد طبيعية، بل هي في جوهرها أزمة إدارة وغياب للرؤية المستقبلية.
الحل لأزمة المياه في اليمن يحتاج إستراتيجة و إدارة متكاملة للموارد المائية وتشمل قطاعات الزراعة والصناعة والاستخدامات المنزلية
وينبه القيسي بأن بقاء الوضع على ما هو عليه يعني فقدان الأمل في تأمين مستقبل مائي آمن للأجيال القادمة، ومؤكدًا على أن ما نحتاجه ليس فقط الحلول التقنية، بل الإرادة السياسية الحقيقية، والمسؤولية المجتمعية الواعية، والرؤية الاستراتيجية طويلة المدى لمواجهة هذا التحدي.
وفي مقال له على موقع الجزيرة نُشر أواخر 2022، يرى نيكو جعفرنيا، الباحث الإقليمي في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن “في اليمن تحذيراً واضحاً لبقية دول العالم، فتغير المناخ يُفاقم الصراعات، وإذا تُرك دون معالجة، فإنه يُهدد بتفاقم الحروب القائمة وخلق حروب جديدة، سواء في اليمن أو في أي جزء آخر من العالم”.
وحذر من أن الشعب اليمني تحديداً يواجه مخاطر جسيمة في ظل غياب حلول مستدامة وطويلة الأمد للتخفيف من آثار تغير المناخ، والتدمير البيئي الناجم عن أنشطة الإنسان، لافتا إلى أنه وفي ظل غياب البنية الأساسية اللازمة لالتقاط مياه الأمطار وتوجيهها نحو أحواض المياه في البلاد، تتضاءل مستويات المياه في طبقات المياه الجوفية في اليمن بشكل خطير.