الخميس, نوفمبر 13, 2025
.
منصة صحافية متخصصة بالريف في اليمن

هندسة المدرجات المستدامة

مالك حبيب
مالك حبيب - ريف اليمن

تُبرز آثار اليمنيين الأوائل منهجًا حضريًا–ريفيًا متكاملًا في مناطق المدرجات؛ حيث تَحوّل وعورة الجبال إلى منظومة إنتاجية مستدامة. يقوم هذا الإرث على حصاد الأمطار، وترشيد استخدامها، وتنظيم العمران بما يحمي الموارد ويعزّز العدالة والصمود. تمثل مدرجات السروات بمحافظة إب نموذجًا ناصعًا لهذا التخطيط المتين والمتوارث.

شيّد الأقدمون مدرجات حجرية على السفوح لتقليل سرعة الجريان واحتجاز التربة، فغدت الحقول خزانات مؤقتة لمياه السيول. شكّلت هذه المدرجات عمود الزراعة في المرتفعات، وحجر الزاوية للأمن المائي بتغذية الأحواض السطحية، وظهور العيون والغيول في أسافل الأحواض، حيث ازدهرت الزراعة المستقرة والمتواصلة.

امتدّت شبكات القنوات والمشارب والردّاد والسواقي لتحويل مياه الأمطار المصروفة من المدرجات والأودية نحو الحقول والخزانات. أتاحت هذه الشبكات التحكم بالتوزيع، وزادت تغذية الأحواض السطحية، وواءمت بين طبوغرافيا الجبال وحاجات الزراعة، عبر نظام يحاكي السدود التحويلية، ويستثمر كل قطرة في الوقت والمكان المناسبين.

أُنجزت منشآت مائية صغيرة مثل الكِرْوَف والبِرك والماجِل والأجلّة، إلى جانب حواجز السيول والسدود الصغيرة لالتقاط الجريان الموسمي، وملء الخزانات المحلية، ثم إعادته إلى قنوات الري بدل ضياعه نحو البحر. وعلى جانب المصادر الطبيعية، أدّى هذا الحصاد المنتظم إلى ظهور ينابيع وغيول اعتمد عليها الناس للشرب والري.

تراجع كثير من الينابيع لاحقًا بسبب الحفر العشوائي الذي قطع التغذية السطحية، فبرزت الآبار السطحية بديلًا في القيعان والمناطق السهلية. وساند ذلك تنظيمٌ اجتماعيّ دقيق لتوزيع المياه وصيانة المرافق، وتوجيه الاستيطان نحو ينابيع الجبال وتجنّب بطون الأودية، مع أحزمة شجرية لتثبيت التربة وزيادة تغلغل المياه.

الأمن الغذائي وتخطيط الأرض

اختارت القرى مواقع مرتفعة تعتلي التلال والآكام، وخصّصت الأراضي المنخفضة للزراعة، وتُركت مساحات للرعي وجمع الحطب، وحافظ هذا الفصل المكاني على الإنتاجية الزراعية بعيدًا عن تزاحم العمران، فاستُثمر كل شبر من الأرض، وترسّخت قاعدة الاكتفاء الذاتي عبر توزيع متوازن للوظائف المكانية.
حوّل السكان المنحدرات إلى مدرجات حجرية تمنع الانجراف، وتضاعف المساحات المزروعة في بيئة جبلية صعبة، وأدّت المدرجات دور حواجز مائية عملاقة تغذّي الأحواض السطحية فتظهر ينابيع وسط السهل والجبل، وزُرعت المدرجات بالتناوب الموسمي خريفًا وربيعًا، ما وفّر توازنًا غذائيًا مستمرًا على مدار العام.

لم تكن أنظمة الري لإرواء الحقول فحسب، بل لضمان عدالة التوزيع عبر نظام “الدُّوَل” الذي يمنح كل موضع حصته بحسب المساحة، وأُنشئت المشارب والسواقي والسدود التحويلية والحواجز، وأُعدّت أحواض وسدود صغيرة لتخزين الأمطار، فقلّ الاعتماد على الآبار الجوفية، وتكامل الأمن المائي والأمن الغذائي في منظومة ذاتية.

اعتمد التخطيط المتدرّج زراعة رأسية للحبوب في المدرجات العليا، والبقوليات في الوسطى، والخضروات والأعلاف في السفلى، مع أشجار مثمرة حول القرى كالبن والرمان والعنب، وعزّز هذا التنوع مرونة الإنتاج أمام تقلبات المناخ، ورسّخ دورة بيئية متوازنة تغذّيها الأسمدة العضوية والأغطية الشجرية الواقية.

راعت القرى المخاطر الطبيعية باختيار مواقع مرتفعة بعيدًا عن مجاري السيول، وتجنّب سفوح الانهيارات، والتوزّع المكاني الذي يحدّ من خسائر الزلازل، وخفّضت مواد البناء المحلية غير القابلة للاشتعال واسع الانتشار مخاطر الحرائق، وقلّل التباعد بين التجمعات سرعة انتشار الأوبئة وآثار الأخطار الصحية والصناعية.

وصعّب انتشار السكان على مساحات متفرقة السيطرة الغازية، وساعدت الحصون والمواقع المرتفعة على الدفاع والمراقبة، وسمح توزيع الماء والغذاء لكل تجمع بالقدرة على الصمود، حقق النظام مرونة تمنع الانهيار الشامل عند تعرّض منطقة لضربة، خلاف نماذج التمركز والشبكات المركزية الحديثة.

العدالة وتكافؤ الفرص

أسّس المجتمع لتوزيع عادل للمياه والأراضي عبر «الدّول» في الري، فحُفظت حصص المزارعين بلا احتكار. حتى في الجفاف؛ توزّع السكن طبيعيًا على المرتفعات الآمنة، وتقاربت حيازات الأرض وحقوق الوصول إلى الماء والزراعة، وانتفت فجوات القيمة المرتبطة بالمراكز والنفوذ لصالح قرب الموارد الحياتية.
ابتعد التخطيط عن مركزية العاصمة، واتجه إلى تنمية متوازية تتقارب فيها الطرق والخدمات، وتتوزع الإدارات والحصون والمدارس العلمية في الأقاليم. مكّن ذلك كل منطقة، صغيرة كانت أو بعيدة، من الإنتاج والتأثير دون الاعتماد على مركز واحد، وترسّخت فرص التعليم والاقتصاد بصورة عادلة ومتاحة.

أوجد نظام الأسواق المتنقلة عدالة اقتصادية ميدانية، إذ تناوبت الأسواق بين القرى أيامًا محددة، فقُرّبت الخدمات من الناس واستقام توازن الأسعار، وعزّزت “العُونة” روح العمل الجماعي في الزراعة والبناء وصيانة السواقي والمدرجات، بينما أُديرت الموارد العامة عرفيًا بما يضمن الانتفاع المشترك، ويغذّي قيم العدل والبركة.

يقدّم هذا الإرث نموذجًا يربط الماء بالغذاء والعدالة والسلامة ضمن عمران متناغم مع الجغرافيا. إن إعادة تأهيل المدرجات والمنشآت المائية وإحياء التنظيمات العرفية وتكاملها مع مسوحات مائية–طبوغرافية حديثة تمثل أولوية عاجلة. ندعو المعنيين من مهندسين، ومخططين، ومؤسسات محلية لدعم التنفيذ وتقديم ما يلزم لتحقيق استدامة عملية.

شارك الموضوع عبر: