بابتسامة تخفي خلفها الكثير من الألم، يتحدث فائز الحسيني (40 عاماً) عن مسيرته الشاقة التي بدأها قبل عقدين من الزمن في مناشير الأحجار بمحافظة مأرب شرقي اليمن، من أجل تأمين لقمة العيش، في بلد يشهد أسوأ أزمة إنسانية.
ورث الحسني حرفته من والده، ويتقاضى منها قوت أسرته المكونة من ثمانية أطفال، ويقضي 12 ساعة يومياً في العمل بين حرارة الشمس وغبار الأحجار، مقابل 15 ألف ريال يمني، ما يعادل 7 دولارات، لكنه الخيار الوحيد المتاح أمامه رغم قساوته.
مشقة مضاعفة
“العمل شاق، وأقضي فيه ساعات طويلة، لكن مردوده زهيد، ونفتقد فيه لأبسط أدوات السلامة للحفاظ على أجسادنا وأعيننا من شظايا الأحجار المتطايرة”، يقول الحسني لمنصة ريف اليمن.
ويضيف: “أصبحت الأحجار كآلة حرب لنا؛ بين الحين والآخر يصاب أحد الزملاء، وسبق أن أصبت في عيني اليمنى بشظايا الأحجار.” ويتابع بصوت يملؤوه التعب: “إذا تركت هذه المهنة، ماذا سأفعل؟ لا توجد فرص أخرى، الحياة لم تمنحني حظًا آخر، ونتمنى أن يكون الغد أفضل”.
مواضيع مقترحة
استكشاف الهجرة للريف: فرص عمل وتكامل اجتماعي
البصل الحضرمي: جودة عالية وركيزة اقتصادية
كيف ترك اليمنيون بصماتهم بصناعة القهوة ؟
فائز واحد من عشرات عمال الأحجار في مدينة مأرب، يذهب صباح كل يوم إلى عمله لرص الأحجار الرخامية، مقسماً ساعات يومه إلى ثلاث فترات عمل مرهقة، وتبرز معاناة هؤلاء العمال كواحدة من أكثر المآسي قساوةً ومشقة؛ إذ إنهم يعملون وسط ظروف خطرة في مشهد يعكس صمودهم في وجه القهر والمعاناة.
وحول طبيعة العمل يقول الحسني إنه “يتوزع على مراحل، القطع من الجبال حتى مرحلة البناء”، ويضيف: “في البداية يتم قص الأحجار من الجبال باستخدام قصاصات حديثة كهربائية، ويتم نقلها بالقواطر والقلابات إلى المناشير، حيث يبدأ دور العامل في إدارتها وتقطيعها بسماكة 5 سم وأطوال متعددة”.
العمل شاق وأقضي فيه ساعات طويلة، لكن مردوده زهيد، ونفتقد فيه لأبسط أدوات السلامة للحفاظ على أجسادنا وأعيننا من شظايا الأحجار المتطايرة
ويتابع: “بعد ذلك يتم فرز الأنواع والألوان؛ الحمراء، البيضاء، والسوداء، ولكل نوع مميزات مختلفة؛ كمقاومة الملوحة والتكيف مع المناخ وغيرها، أما الأسود فالإقبال عليه ضئيل، ويستخدم غالباً في الأحواش وأحواض المطابخ”.
لا تقتصر المعاناة على فائز، فقصة “صادق الشراعي (35 عاماً)” لا تختلف كثيراً؛ حيث جاء إلى مأرب هرباً من الحرب قبل خمس سنوات، ليجد نفسه في دوامة الفقر والمعاناة.
استراتيجية واضحة
يعيش الشراعي مع أسرته المكونة من ستة أطفال في غرفتين شعبيتين، لا تحتوي على بلاط أو أبواب داخلية، ويقول لمنصة ريف اليمن: “بالكاد تحمينا هذه الغرفتين من الرؤية، لكنها لا تحمينا من البرد، ورغم ذلك أدفع 100 ألف ريال شهرياً كإيجار”، وهو مبلغ كبير جداً مقارنة بالدخل الذي لا يتجاوز 7 دولارات.

ويضيف: “إذا تركت العمل يوماً واحداً، أعود لأجد الفقر ينتظرني على الباب، مصاريف الأطفال والمدرسة والمنزل تغرقني في الديون، ولا توجد مساعدات من أي جهة، ومع ذلك، أرى من هو أسوأ مني، وأشعر أنني محظوظ لأن لدي سقفاً فقط”.
الخبير الاقتصادي “مصطفى نصر” يرى أن مهنة الأحجار تمثل سلسلة متكاملة من “المقلع إلى البناء”، وهي مهنة حرة تختلف فيها الأجور بحسب الزمن والمكان والطلب.
ويقول نصر في حديثه لـ “منصة ريف اليمن”: “هذه المهنة تختلف كلفة العامل فيها لاختلاف الزمن والمكان والطلب، والعامل الفني – معلم البناء – يحدد أجره وفق خبرته ولمسته الفنية، بينما يعاني المساعدون من انخفاض الأجور، وعدم كفايتها في ظل تدهور العملة وارتفاع الأسعار”.
ويضيف: “المساعدون هم الشريحة الأكثر تضرراً، لأن أجورهم اليومية لا تتناسب مع مستويات التضخم الحالية، صحيح أن الأجور ترتفع أحياناً، لكنها لا تواكب الانهيار الاقتصادي، وأصبح معظمهم غير قادرين على شراء احتياجاتهم الأساسية”.
دعوات لبرامج تأهيل وتدريب لمهن بديلة كحل عملي لمساعدة العمال في الحصول على عمل آمن وبأجور ملائمة
ويشير نصر إلى أن المشكلة ليست في مهنة الأحجار فقط، بل أن حتى فئات كانت تُعتبر متوسطة، كأعضاء هيئة التدريس في الجامعات، أصبحت اليوم دون خط الفقر.
ويختم حديثه: “يفترض أن يكون هناك التفات لهذه الشريحة، من خلال تنظيم عملها ووضع أسعار عادلة، وتوفير خدمات صحية، وضمانات معيشية في حال البطالة أو غياب العمل، وتبني استراتيجية واضحة لمعالجة التدهور في الأجور والمستوى المعيشي”.

أما أستاذ علم الاجتماع الدكتور “محمود البكاري”، فيرى أن النزوح أدى لتغيرات اجتماعية عميقة، قائلاً: “فقد الكثير من الناس أعمالهم الأصلية، واضطروا للعمل في مهن شاقة، بأجور زهيدة، وغير مناسبة لخبراتهم، وهذا الوضع خلق مشاكل اجتماعية كالتفكك الأسري، وانتشار عمالة الأطفال، والتسرب من التعليم”.
برامج تأهيل وتدريب
ويتابع: “ليس من السهل على الشخص تغيير مهنته الأساسية، لأنها ترتبط بالهوية والانتماء، وتغييرها يسبب معاناة نفسية واجتماعية تؤثر على الإنتاجية والاستقرار النفسي”، داعيا إلى عمل برامج تأهيل وتدريب لمهن بديلة، كحل عملي لمساعدة العمال في الحصول على عمل آمن وبأجور ملائمة.
“منصة ريف اليمن” التقت بـ”أحمد الطالعي”، أحد مالكي مناشير الأحجار في محافظة مأرب، والذي أرجع تدني الأجور إلى تدهور قيمة العملة المحلية والارتفاع المستمر في الأسعار، مؤكدًا أن هذه الظروف أرهقت القطاع بأكمله.
وقال الطالعي إن أوضاع مالكي المناشير لا تقل سوءًا عن أوضاع العمال، فالجميع يكافح من أجل تأمين لقمة العيش لأطفاله، في ظل الانهيار المتواصل للعملة الذي طال تأثيره الجميع دون استثناء.
وحول غياب أدوات السلامة المهنية، أوضح الطالعي أن العامل اليمني غالبًا ما يعتبرها من الكماليات، نظراً لانشغاله الذهني والجسدي بتأمين احتياجات أسرته اليومية، لافتا إلى أن ارتفاع درجات الحرارة يجعل ارتداء بدلات السلامة غير مقبول لدى كثير من العمال، لما تسببه من تعرق وضيق، ما يدفعهم لاعتبارها عبئًا إضافيًا يعيق أداءهم.