الأحد, ديسمبر 7, 2025
.
منصة صحافية متخصصة بالريف في اليمن

المافي.. تنور الريف الأول رغم الحداثة

منذ القدم، ورغم تعاقب السنين وتغير مظاهر الحياة، ما يزال تنور الأرياف -أو كما يعرف محليا بـ”المافي”- حاضرا في البيوت الريفية اليمنية كأحد رموز الأصالة المتجذرة في الذاكرة الشعبية، إذ لا يمكن أن توجد بيت ريفي تخلو منه، ويعتبر من أساسيات المنازل الريفية اليمنية.

والمافي تنور طيني توقد ناره بالحطب، تتصاعد منه رائحة الخبز الطازج التي تعبق المكان وتوقظ الحنين، حاملة معها مذاقا أصيلا يختزل تاريخ الريف اليمني وعاداته اليومية البسيطة.

خلال العقدين الماضيين، انتشرت التناوير المعدنية بشكل واسع في الأرياف اليمنية لاعتمادها على الغاز وسرعتها في إنضاج المخبوزات، بالإضافة الى ارتفاع أسعار الحطب، الأمر الذي أدى إلى تراجع اعتماد بعض البيوت في الأرياف على المأفي، غير أنه لايزال حاضرا ولم يتم الاستغناء عنه، ويستخدم لصناعة العديد من المخبوزات ذات المذاق الاستثنائي، في إصرار ريفي على حفظ شيء من هوية الأرض، وتذكير للأجيال الجديدة بأن خبز المافي الطيني لا يجاريه فرن حديث.


      مواضيع مقترحة

تنور من الطين والحطب

يُصنع المافي من الطين، بأحجام متعددة، على أيدي مدّارين محترفين، وحين تشتريه الأُسر يضعونه بعناية في إحدى زوايا مطبخ البيت، أو ما يسمى في بعض أرياف تعز “المِنداد”، وهي غرفة جانبية أو على سطح البيت تحوي فتحة مستديرة أو فتحتين، يخرج منها الدخان المتصاعد، يوضع الحطب داخل المأفي، وحين تشتعل النار يبدأ الجدار الطيني في بث حرارة متوازنة تستمر طويلا، تجعل الخبز ينضج برائحة مميزة.

تعليقا على ذلك، تقول سالي النبهاني:”ما فيش (لايوجد)مثل خبز وفطير المأفي، طعمه هو الأجمل، حتى لو كثرت التناوير وتعددت أنواع الأفران، يبقى المأفي الريفي هو الأول وأكلاته هي الأفضل”.

وأوضحت النبهاني وهي إعلامية من مديرية المعافر خلال حديثها لـ”منصة ريف اليمن”، أن المافي في المناطق الريفية بشكل عام موجود في كل بيت، لأنهم يعتمدون عليه بشكل أساسي أكثر من التنورات الغازية، وغالبا ما يستخدمونه، وذلك لأنه قد تأتي أوقات ينعدم فيها الغاز أو ترتفع أسعاره، وأحيانا ينفد فجأة، وأيضا لأن المأفي متوفر دائما، وبالمقابل فإن أي شيء يطبخ داخله يكون حلو.

طعم مختلف ونكهة مميزة

وأضافت “:معظم أهالي الريف لا يستطيعون التخلّي عن المافي، وإن انكسر وانتهى، يحرصون على توفيره بصورة عاجلة، وأي طعام مطبوخ في المافي يكون له طعم مختلف ونكهة مميزة، ومذاقه يذكرك بالانتماء للبلاد، ومهما اغترب الشخص أو ابتعد، تظل نكهة طبخات المافي راسخة لأنه تربى عليها.

وذكرت النبهاني أن هناك وجبات كثيرة تقوم بتحضيرها عن طريق المافي: مثل الملوج، والخبز، والفطير بأنواعه المتعددة، وأيضا القُرم، وعند الانتهاء من خبز هذه الأشياء، يمكننا استغلال الفحم المتبقي بوضع أي شيء داخل المافي، مثل العدس أو الفاصوليا أو الحنيد على الجمر، وهذا يمنحها نكهة مميزة وطعمًا مختلفًا ولذيذًا.

يُجمع أهالي الأرياف على أن ما يخبز في المافي ألذ بكثير من الخبز المصنوع في التنور المعدني، فالعجين حين يلتصق بجدار الطين، يكتسب طعمًا مختلفًا، كما أن دخان الحطب يمنحه نكهة لا يمكن تكرارها في أفران الغاز أو التنور الحديدي.

الناشط الشبابي ماجد الشميري، قال إن أسرته في القرية اعتادت على إعداد المخبوزات في المافي بشكل أسبوعي، حتى أصبح جزءًا من العادات الغذائية الراسخة. مشيرًا إلى أن “موائد الأسر في الجمعة والمناسبات كالأعياد لا تكتمل أبدًا من دون وجود نوع من خبز المافي الذي يضفي على الأجواء نكهة خاصة لا يضاهيها شيء”.

ويضيف الشميري خلال حديثه لـ”منصة ريف اليمن”، أن مخبوزات المافي ليست مجرد طعام عادي، بل هي موروث اجتماعي وثقافي له مكانته في أريافنا، لما تحمله من دلالات على البساطة والدفء العائلي، وارتباط الناس بذاكرتهم القروية ومذاق الأرض الذي يظل حاضرًا في كل لقمة.

المافي في ذاكرة المغتربين

رغم أن المافي ما يزال حاضرًا في كثير من بيوت الريف، إلا أن ذكراه تمتد أبعد من حدود القرية، إذ يظل حاضرًا في وجدان المغتربين الذين تركوا قراهم وراءهم، فالمافي بالنسبة لهم، ليس مجرد تنور طيني، بل هو رائحة البيت الأول، وذاكرة الجدّات، ومذاق الطفولة الذي لا يغيب مهما ابتعدت المسافات.

يقول الباحث والكاتب نبيل البكيري، إنه لم يأكل فطير وخبز وكدِر المافي الطيني منذ عشر سنوات بسبب إقامته خارج اليمن، ويضيف:”نحاول تقليد كل ذلك في الأفران الكهربائية الحديثة، ولكنها تبقى صورة ونسخة مقلدة وغير حقيقية من خبز المافي الطيني الذي تربّينا عليه”.

ويصف البكري خلال حديثه لـ”منصة ريف اليمن”، خبز المافي بأنه “خبز صحي مخلوط بشيء من الذات والهوية والتراث الذي يشكل هوينتنا الثقافية”.

أما المواطن أنور مقبل، فيصف خبر المأفي بأنه الألذ على الإطلاق، ويقول:” أجمل الهدايا التي تصل من الريف هي المخبوزات التي يتم صناعتها بالمأفي الطيني، فنكهتها وطعمها لا يمكن أن توفره التناوير الغازية الحديثة”.

ويضيف خلال حديثه لـ “منصة ريف اليمن”، أن أسرته لاتزال تحافظ على الموروث القديم بإشعال المأفي كل صباح جمعة، ويتم صناعة الخبز الملوح كوجبة فطور، وعمل فطير من حبوب الذرة أو الغرب كوجبة للغذاء، لافتا أن أسرته تقدم له الهدايا الريفية المختلفة على رأسها الفطير والملوح”.

ورغم التطور يبقى المافي أكثر من مجرد تنور طيني يُخبز فيه العجين؛ بل هو ذاكرة حيّة تتوارثها الأجيال، وجمرٌ يشعل الحنين في القلب، ورمزٌ من رموز الريف الذي يعرف كيف يحفظ أصالته رغم تغيّر الأزمنة، وبظل شاهدًا على ارتباط الناس بجذورهم.

شارك الموضوع عبر: