جرِّب أن ترفع كوبك إلى شفتيك، وستشعر بهمسة خفية تقول: هذه من أرض اليمن، حيث وُلِدت القهوة، كل رشفة هي حكاية ضاربة في جذور الزمن، تحكي عن أرض احتضنت الحبات الأولى للبن وصدر القهوة اليمنية بنكهة فريدة.
ومؤخرا قدمت اليمن ملف “البن اليمني” لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، لإدراجه على قائمة التراث العالمي غير المادي، حيث تُعد القهوة اليمنية الأقدم على مستوى العالم، حيث كانت اليمن اول من عمل على تسويق القهوة إلى العالم.
لكن هل اليمن الموطن القهوة الأول في العالم؟ أم تتقاسم الاكتشاف مع أرض الحبشة، وهذا السؤول كان مثار دراسات وأراء متعددة وجدل المهتمين بالقهوة على مستوى العالم، ومازالت شجرة البن في اليمن لم تحظى باهتمام بحثي علمي لإثبات ذلك.
مواضيع ذات صلة
كيف ترك اليمنيون بصماتهم بصناعة القهوة في الولايات المتحدة؟
رئيس نادي البُن: اليمن مهد القهوة الأول تذوقاً وزراعة
البُن اليمني: ثروة مهدورة ومزارعين فقراء
اكتشاف القهوة
تقول الأساطير إن ماعزًا كانت السبب في اكتشاف القهوة، حيث تروي القصص الإثيوبية الشعبية أن راعي غنم إثيوبيًا يدعى خالدي اكتشف حبوب البن الحمراء في القرن التاسع الميلادي، بعد أن رأى ماعزه نشيطًا، وهذه إحدى أبرز الروايات التي تسرد عن تأريخ اكتشاف القهوة.
لكن ظلت هذه النبتة طي الكتمان دون اكتشاف حقيقي يُظهرها للعالم، حتى وجدها الصوفي اليمني علي بن عمر الشاذلي، الذي اكتشفها كمنشط وقام بتحويلها إلى مشروب، وأدخلها في جلسات العبادة بعد ملاحظته للطيور ونشاطها بعد أن تتناول حبات البن.
في كتابه “حبوب البن الساحرة: التاريخ المختصر للقهوة”، يبيِّن الاسكتلندي “غوردون كير” أن أول دليل مكتوب أشار إلى القهوة كان عام 1454م، وأن أحد تلامذة الصوفي الكبير، الذي استوطن مدينة المخا، أبو الحسن الشاذلي اليمني (1196-1258م)، عثر على القهوة في وصاب (وسط اليمن) شبه الجزيرة العربية.
ورأت دراسة بعنوان “لمحة عن صناعة القهوة اليمنية 2024، “أن هذه الروايتان هما الأشهر التي ترد عن تأريخ القهوة”، وتضيف “لكن بعض الباحثين الغربيين حين يتناولون تأريخ القهوة يتجاهلون الرواية التي تنسب إلى اليمن، ويشيرون إلى أسطورة أثيوبيا رغم ضعفها والتشكيك بها”.
لكن يجمع المهتمين بتاريخ القهوة أن اليمن هو من أعطاها هويتها كمشروب اجتماعي، ويعود ذلك إلى موقعها التجاري على طريق البحر الأحمر، الذي جعلها مركزًا رئيسيًا لتطوير القهوة ونشرها، حيث كانت تُزرع على نطاق واسع، وتُصدر إلى كل العالم.
هل اليمن موطن القهوة الأول؟
وضعت هذا التساؤل دراسة للباحث محمد الحكيمي، حلم أخضر للدراسات، والتي أفادت أنه “أن القهوة اليمنية لم تحظى بالدراسة والاهتمام مثلما حظيت في الحبشة، رغم وجود أدلة طبيعة كافية لدراسة أصالة القهوة في اليمن”.
ورأى بعض المؤرخين أن شجرة البن نبتة أصيلة في اليمن، ومهنهم الرحالة الفرنسي جان دي لاروك -زار اليمن عام 1709- قال “أهل اليمن والمشرق (العربي) جميعاً، مقتنعون أن شجرة البن لا تنمو إلا في أرضهم” وهو ما يتفق مع نتائج بعثة منظمة الأغذية والزراعة (FAO) التي لم تجد أدلة كافية تثبت أصالة البن في الحبشة.
وأشارت دراسة يمنية للباحث سامي الشهاب -نشرتها مجلة جامعة أروى العلمية 2020- أن شجرة البن تنتمي إلى البيئتين اليمنية والإثيوبية، حيث كانتا نطاقًا جغرافيًا واحدًا قبل الفصل القاري بين البرين العربي والأفريقي.
وأدى الفصل القاري بين الجزيرة العربية وأفريقيا إلى تطابق كبير في التركيب الجيولوجي والظروف المناخية بين اليمن وإثيوبيا، مما يدعم التشابه في النباتات والمحاصيل بين الجانبين. وفق الدراسة.
وتم العثور على دليل يوثق وجود شجرة البن البرية في اليمن تحديدا في محمية عُتمة ذمار (جنوب صنعاء)، وفق الدراسة التي أوصت، بإجراء بحوث معمقة حول الأصول البرية لشجرة مع التركيز على المحميات الطبيعية والمناطق المرتفعة.
وهذا يعزز فرضية أن اليمن أحد المواطن الأصلية لنمو شجرة البن منذ القدم. وخلصت دراسة حلم أخضر |بناءً على هذه المعطيات العلمية والتاريخية يمكن الاستنتاج بأن موطن أصلي للبن البري في اليمن، ومن منظور آخر عُرفت القهوة كشجرة أصلية في المدرجات الجبلية اليمنية”.
جودة القهوة اليمنية
كان ميناء المخا غربي اليمن العصب التجاري الذي ربط القهوة بالعالم. في القرن الخامس عشر، تحول ميناؤها إلى مركز عالمي؛ حيث كانت السفن تغادر محملة بحبوب البن إلى أوروبا وآسيا وأفريقيا. لم تكتفِ المخا بالتصدير، بل طورت طرقًا مبتكرة لتحميص البن وتجفيفه؛ مما جعلها محطة لا غنى عنها في رحلته.
القهوة اليمنية
"والريح تغزل من زهور "البن" أغنية العتابِ" وفق شاعر اليمن عبد الله البردوني، وهو يشير إلى زراعة القهوة اليمنية التي...
Read moreكما يصف الرحالة الفرنسي جان دي لاروك: “القهوة في اليمن تنمو بجودة لا مثيل لها، ومن المخا انطلقت إلى كل الأمم”. ويؤكد أن “احتكار اليمن لتجارة البن جعل المخا رمزًا عالميًا، حتى أصبح اسم موكا مرادفًا للقهوة الفاخرة”.
هذا الاحتكار جعل اليمن يسيطر على السوق العالمي لفترة طويلة، ليترك المخا بصمة ثقافية كبيرة لا تزال حية في مصطلح “موكا”، الذي يُطلق على مشروب القهوة الممزوج بالشوكولاتة، حيث تنمو شجرة البن بمدرجات في مناطق جبلية وتمنحها التربة البركانية، والارتفاعات العالية التي تصل إلى 2400 متر، نكهة غنية تمزج بين الحموضة الخفيفة والحلاوة العميقة.
يُجَفَّف البن اليمني تحت الشمس بطرق تقليدية، ويُحمص يدويًا بعناية، مما يحافظ على خصائصه الأصيلة التي جذبت العالم. يقول “محمد فارع”، أحد المهتمين بصناعة القهوة: “اسم موكا لم يأتِ من المخا فقط، بل من بن الحمادي بنكهة الكاكاو، الذي صار أساس مشروب الموكا العالمي”.
وأعتبر خبير القهوة كينيث ديفيدز رئيس تحرير موقع Coffee Review – المتخصص في تقييم القهوة عالمياً- “ان القهوة اليمنية أصبحت نادرة، لكن جودتها لا تزال لا تُضاهى”. وخلص في مقال بالقول “أن إمكانات اليمن كمصدر للقهوة الفاخرة بأسلوبها المعاصر المميز لم تُستغل بعد”.
من جانبه وصف “جيمس هوفمان” في كتابه عالم القهوة: “البن اليمني صغير الحجم لكنه غني جدًا بالنكهة، مما يجعله من الأفضل عالميًا”. ورغم هذا الإرث التاريخي والجودة المشهود لها عالمياً إلا أن زراعة القهوة اليمنية لم تحضى اهتمام كافي منذ عقود طويلة.

تحديات وطموح
اليوم، يواجه البن اليمني تحديات كبيرة تهدد استمراريته، خاصة مع وجود منافس شرس له كشجرة القات، لكن الجهود المبذولة تؤكد عزم اليمنيين على الحفاظ على هذا الإرث.
الحرب التي بدأت عام 2015 دمرت العديد من المزارع وأعاقت النقل، مما قلص الإنتاج من مستويات مرتفعة في الماضي إلى نحو 25 ألف طن سنويًا في السنوات الأخيرة، بينما تسبب الجفاف في شح المياه اللازمة للزراعة. ومع ذلك، يقول “صالح محمود”، مزارع من تعز: “النزاع أتلف مزارعنا، لكننا نحاول الاستمرار رغم كل شيء”.
يقول “علي صادق”، أحد المزارعين: “قمت بقلع أكثر من 200 شجرة قات واستبدالها بالبن بعدما اشتريت المزرعة من أحد الغارسين للقات، لأنني أرى في البن تاريخًا عريقًا يمثل اليمن، بينما القات شجرة دخيلة علينا طغت على التراث”.
يظهر جليًا أن التنافس مع زراعة القات، التي تستحوذ على مساحات واسعة، وتستهلك ثلث المياه الجوفية، يزداد يومًا بعد يوم، مما يشكل ضغطًا على زراعة البن. لكن رغم ذلك، شهدت الصادرات ارتفاعًا ملحوظًا بنسبة 400% منذ 2019، لتصل إلى حوالي 5 آلاف طن، مما يعكس الطلب العالمي المتزايد.
للتغلب على هذه التحديات، وضعت اليمن خطة طموحة منذ 2019 لزيادة الإنتاج إلى 50 ألف طن، ورفع الصادرات لتحقيق عائدات تصل إلى 600 مليون دولار بحلول 2025، عبر زراعة ملايين الشتلات، وتوسيع المساحات المزروعة إلى أكثر من 43 ألف هكتار، من خلال تشجيع المزارعين على زراعة البن، وإمدادهم بالأدوات والإصلاحات المطلوبة.
في مناطق مثل يافع، يبني المزارعون سدودًا لحصاد مياه الأمطار لمواجهة الجفاف، بينما تشجع حملات محلية على استبدال القات بالبن، مستفيدة من قيمته العالية في الأسواق الدولية. مشاركة اليمن في معارض عالمية عززت حضوره؛ حيث جذبت جودته المستثمرين، مما يبشر بمستقبل واعد إذا استمر الدعم والاستقرار.
القهوة اليمنية ليست مجرد مشروب، بل شاهداً على تاريخ وثقافة شعب. من جبال اليمن انطلقت، لتصبح جزءًا من حياة البشرية. يقول “مايكل سينغ”، مدير معهد دول الخليج في واشنطن: “لا تدعوا أحدًا يقول إن القهوة بدأت في إثيوبيا، فالمخا هي الأصل”.