منذ بدايات الإنتاج التلفزيوني مع تأسيس تلفزيون عدن عام 1964م، كان الريف أكثر البيئات حضورًا في الدراما المحلية، فالمخرجون وجدوا فيه بيئة تصوير طبيعية غنية بالتنوع الجغرافي والعادات والتقاليد، والمشاهدون وجدوا فيه انعكاسا لجزء من هويتهم وثقافتهم الشعبية، لكن ورغم هذا الحضور الكثيف، يظل السؤال مطروحًا: هل منحت الدراما اليمنية الريف حقه فعلاً، أم أنها اكتفت بتقديم صورة تجميلية سطحية؟
منذ الثمانينيات وحتى اليوم، شكل الريف خلفية أساسية لعشرات المسلسلات والأفلام اليمنية، فالكثير من الإنتاجات الرمضانية تُصور في القرى أو تستلهم شخصياتها من البيئة الريفية، نظرًا لما تحمله من رموز ودلالات اجتماعية عميقة.
غير أن هذا الحضور لا يعني بالضرورة أن الريف حُضِرَ في العمق، إذ غالبًا ما تم التركيز على الجانب الفولكلوري والمشاهد الكوميدية، بينما تم تجاهل القضايا الجوهرية التي يعيشها أبناء الريف مثل ضعف التعليم، الزواج المبكر، شح الخدمات الصحية، ونزوح الشباب نحو المدن.
مواضيع مقترحة
-
الريف اليمني.. الغائب الأكبر في أجندة الإعلام المحلي
-
التدريب المهني: خيار شباب الريف لمواجهة الأزمات
-
مواهب شابة تخلق دراما ريفية وتحصد شعبية
في الوقت الذي يرى بعض نقاد الدراما والممثلين اليمنيين أن الدراما أنصفت الريف ومنحته المساحة التي يستحقها، يرى آخرون أن الصورة المقدمة ما تزال سطحية وناقصة، وأن غالبية الإنتاجات اليمنية تعاملت مع الريف كـ”خلفية بصرية” أكثر من كونه “قضية إنسانية”، إذ تم التركيز على الجمال الطبيعي والعادات الشعبية دون تقديم معالجة درامية حقيقية لواقع التهميش التنموي والاجتماعي، يشير بعضهم إلى أن ضعف التمويل وغياب الإنتاج المستقل حال دون ظهور أعمال متخصصة في تناول القضايا الريفية بعمق، خاصة في ظل اعتماد أغلب الأعمال على ميزانيات محدودة وإنتاج موسمي مرتبط بشهر رمضان.
الريف كخلفية بصرية
الممثل مروان المخلافي يرى أن الدراما اليمنية «أعطت الريف حقه بشكل كبير»، مشيرًا إلى أن «منذ بدايات الدراما اليمنية وحتى اليوم، تدور نحو 70٪ من الأعمال حول الريف اليمني أو تُصور داخله». هذا الرأي يعكس قناعة شريحة من العاملين في المجال الفني بأن الريف لم يكن مهمشًا على الشاشة، بل كان حاضرًا بقوة كمكان وشخصيات وبيئة درامية.
ويضيف المخلافي لـ”منصة ريف اليمن”، أن الدراما المحلية «تناولت مختلف القضايا الريفية، وركّزت على العادات والتقاليد، وسعت لتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة من خلال المعالجة الدرامية لعدد من القضايا الاجتماعية»، وهو ما يبرز جانبًا من الدور التوعوي الذي حاولت بعض الأعمال الدرامية القيام به، إلى جانب وظيفتها الترفيهية.
من خلال مشاركاته المتعددة في مسلسلات يمنية، قدّم مروان شخصيات ريفية متنوعة، ويرى أن أداء مثل هذه الأدوار يتطلب فهمًا عميقًا للبيئة الريفية، موضحًا: «لكي تؤدي شخصية ريفية، يجب أن تكون إنسانًا بسيطًا جدًا؛ فهناك معانٍ وقيم وسلوكيات وعادات وتقاليد وأعراف نتمنى أن تُطبق في حياتنا اليومية».
ويؤكد المخلافي أن انتماءه، وعدد من زملائه الممثلين، إلى بيئات ريفية ساعدهم على تقديم هذه الشخصيات بصدق أكبر، قائلاً: «أنا والكثير من الممثلين اليمنيين جئنا من الريف، لذلك نجد أن تجسيد الشخصية الريفية أمر قريب جدًا من واقعنا الذي نشأنا فيه».
في المقابل، يقدم الممثل حسام الشراعي رؤية أكثر نقدًا وتحليلًا، إذ يرى أن الدراما اليمنية وإن استلهمت جو الريف، إلا أنها لم تنقل واقعه العميق ومشكلاته الحقيقية. ويقول لـ”منصة ريف اليمن”، :”الجمهور يفهم الجو والطبيعة والارتباط بالأرض، لكن لا يمكن للمشاهد أن يدرك الواقع الريفي من خلال عشرين مسلسل، لأن الريف اليمني واسع ومتنوع في اللهجة والعادات والجغرافيا.”
رغم هذا الارتباط، يرى الشراعي أن الشخصية الريفية في الدراما ليست مطابقة تمامًا للواقع، موضحًا أن:«المؤلف يركز على مناقشة أفكار عامة متعلقة بالريف والمدينة في آن واحد، ولا يمكن للمشاهد أن يفهم الواقع الريفي الحقيقي حتى لو شاهد عشرين مسلسلًا؛ لأن معظم الدراما موجهة لجمهور عام، وتتناول موضوعات واسعة لا تركز على تفاصيل الحياة الريفية اليومية».
ويضيف أن الأعمال الدرامية تكتفي غالباً بتقديم صورة عامة عن الريف دون الغوص في تفاصيل قضاياه اليومية: “الدراما تأخذ الجو العام للريف وتناقش فقط ما يقارب 15% من مشكلاته، أما 85% فهي أفكار عامة تهم الجمهور في كل المناطق، لتضمن متابعة أوسع.”
«الريف اليمني كبير وممتد ويختلف بين منطقة وأخرى من حيث اللهجة والعادات والتركيبة السكانية والجغرافيا، وهذا يجعل من الصعب أن يفهم الجمهور الصورة الكاملة للريف حتى لو تمت مناقشة قضاياه في عمل درامي واحد». يقول الشراعي.
الوافي:”الريف لم يأخذ حقه الكامل في الدراما حتى اليوم، وهناك قصور من الكتّاب في تناول مشاكل الريف وقضاياه، وكذلك قصور في طريقة المعالجة، وأحيانًا ركاكة في الكتابة نفسها.”
ويرى أن الإنصاف الكامل للريف يتطلب إنتاج أعمال درامية متخصصة بكل منطقة: “نحتاج إلى مسلسلات لكل ريف بعينه؛ فريف لحج لا يشبه ريف حجة، وريف المهرة لا يشبه ريف ذمار. بهذه الطريقة فقط يمكن القول إن الدراما أنصفت الريف، لكن هذا شبه مستحيل من الناحية الإنتاجية.”
أما عن القضايا الريفية التي يرى أنها تستحق مساحة أوسع على الشاشة، فيقول الشراعي:«مشكلة الطرق الوعرة، وضعف الخدمات الصحية، وتدهور التعليم، وغياب الكهرباء، إلى جانب التحول التكنولوجي الذي قد يسلب الريف طابعه الأصيل ويدفع سكانه إلى ترك الزراعة والاقتراب من نمط الحياة الحضرية».
من موقعه كمخرج درامي عايش تجربة نقل الريف إلى الشاشة، يرى المخرج سيف الوافي مخرج مسلسل الجمالية في موسمه الأخير أن اختيار بيئة العمل الدرامي لا يخضع لرغبة المخرج وحده، بل للنص بالدرجة الأولى، قائلاً لـ”منصة ريف اليمن”، :”النص هو من يحكم المخرج في اختيار المكان والبيئة، سواء كانت في الريف أو المدينة.”
يضيف الوافي أن الدراما اليمنية تناولت الريف بشكل متوسط من حيث الحضور والمعالجة، مشيرًا إلى أن الأعمال التي أخرجها ركزت على قضايا أساسية مثل التعليم، الزواج المبكر، غياب الخدمات، والنزوح الداخلي، في محاولة لتسليط الضوء على المشكلات الاجتماعية التي يعيشها الريف اليمني.
الدراما الموسمية تعيق التناول العميق
ويعزو الوافي محدودية التناول الدرامي لقضايا الريف إلى موسمية الإنتاج اليمني، قائلاً: الدراما اليمنية موسمية، من رمضان إلى رمضان، لذلك فإن قلة إنتاج المسلسلات تصعّب تناول القضايا الريفية بشكل مكثف. الريف اليمني غني بالقضايا، لكن كثيرًا منها لم يُسلّط عليه الضوء.”
ويؤكد أن الريف لم يأخذ حقه الكامل في الدراما حتى اليوم، مضيفًا: “هناك قصور من الكتّاب في تناول مشاكل الريف وقضاياه، وكذلك قصور في طريقة المعالجة، وأحيانًا ركاكة في الكتابة نفسها.”
ويرى أن الحل يبدأ من الكاتب الذي يجب أن يعيش تفاصيل الريف عن قرب ليكتب عنه بصدق: “على أي كاتب يتناول الحياة الريفية أن يكون مطلعًا على كل جوانب الريف، وأن يعيش فيه فترة زمنية حتى يتمكن من تقديم نص يعكس القضايا الحقيقية.”
في حديثه عن تأثير الدراما في المجتمع، يرى الوافي أن الدراما الرمضانية لا تؤدي دورها التوعوي المطلوب، بسبب كثافة الإنتاج في هذا الموسم وتشتيت انتباه الجمهور، موضحًا: “الدراما اليمنية الموسمية لا تجذب المجتمع كما تفعل الأعمال التي تُنتج خارج رمضان، لأن كثرة المسلسلات في الموسم الواحد تشتت المشاهد ولا تمنحه فرصة للتفاعل مع القضايا المطروحة.”
الريف كخلفية لا كقضية
رغم أن الريف اليمني يشكل المساحة الأكبر من جغرافيا البلاد ويحتضن غالبية سكانها، إلا أن حضوره في الدراما اليمنية ظل، بحسب الكاتب واليمني عبد الواسع الفاتكي “حضورًا هامشيًا وشكليًا لا يتجاوز كونه خلفية تصوير أو مشاهد مكملة للعمل الدرامي”.
يرى الفاتكي أن الريف في الدراما اليمنية لم يتحول بعد إلى موضوع رئيسي أو محور درامي قائم بذاته، بل يُستدعى فقط عند الحاجة إلى مكان طبيعي للتصوير، دون التعمق في بيئته الفكرية والاجتماعية والثقافية، على الرغم من ثرائها وتنوعها.
ويشير إلى أن معظم الأعمال الدرامية اليمنية “تركّز على قضايا المدينة وتغفل الريف وقضاياه الحيوية التي تمس حياة غالبية اليمنيين”، موضحًا أن ما يُقدَّم عن الريف غالبًا ما يتسم بالسطحية، من خلال مشاهد تُظهر الطبيعة الخلابة أو بعض العادات الاجتماعية البسيطة، مثل الثأر أو الزواج المبكر أو تعدد الزوجات.
هذه المعالجات، برأيه، “تغفل القضايا الأعمق والأكثر تأثيرًا في حياة الريفيين، كضعف الخدمات الأساسية، ورداءة البنية التحتية، وغياب الرعاية الصحية والتعليمية، إضافة إلى تهميش الاهتمامات الثقافية والفكرية لأبناء الريف”.
ويعزو الفاتكي هذا القصور إلى مركزية الإنتاج الدرامي، إذ تتركز مقرات المؤسسات الإعلامية والدرامية في المدن الكبرى، دون وجود فروع أو فرق إنتاج في الأرياف، مما يدفع المنتجين إلى تصوير أعمالهم في القرى القريبة من المدن فقط، لتوفر الخدمات والمواصلات، فيما يظل الريف البعيد غائبًا عن المشهد الدرامي تمامًا.
يخلص الكاتب إلى أن “الدراما اليمنية ما زالت قاصرة في تناول قضايا الريف ومشكلاته الجوهرية”، داعيًا إلى رؤية فنية وطنية شاملة تضع الريف في قلب العمل الدرامي، ليس فقط كديكور طبيعي أو مشهد مكمل، بل كبيئة اجتماعية وثقافية تعبّر عن واقع ملايين اليمنيين، وتسهم في نقل صوتهم إلى الداخل والخارج.
الشاعر والكاتب عبدالخالق سيف، الذي كتب العديد من النصوص وشارات المسلسلات اليمنية، يرى أن الدراما اليمنية منحت الريف اليمني مساحة واسعة من الحضور على الشاشة، معتبرًا أن “الدراما أعطت الريف حقه بنسبة 70%”، كما يقول في حديثه لمنصة ريف اليمن.
يضيف سيف لـ”منصة ريف اليمن”،: “المطلع على الإنتاجات الدرامية في اليمن يجد أن 70% من المسلسلات تم تصويرها في الريف، حتى مع التطور الحاصل في المجال الدرامي ظل الريف هو الواجهة الأولى للإنتاج، لما يمثله من بيئة طبيعية غنية وجماليات خاصة، وبأقل تكلفة إنتاجية.”
ويؤكد أن الدراما اليمنية نجحت في إبراز البيئة الريفية على مستوى الصورة والعادات والتقاليد واللغة المحلية، موضحًا: “الأعمال الدرامية تناولت الكثير من ملامح الريف؛ من اللهجة والأزياء إلى القضايا الاجتماعية، وأعطت الريف حقه من حيث الحضور الفني والثقافي، فصارت القرية تمثل مدينة إنتاج طبيعية.”
في ذات الوقت يرى سيف أن هذا الحضور الكثيف لا يعني اكتمال الصورة، إذ يقول: “الدراما اليمنية تطرح القضايا لكنها نادرًا ما تقدم حلولًا لها، ولهذا يمكن القول إنها نقلت الواقع الريفي كما هو، لكنها لم تسهم بعد في معالجته أو تغييره.”
ويشير إلى أن بعض القضايا الكبرى ما تزال بحاجة إلى تركيز أعمق، مثل زواج القاصرات، والثأر، والجهل، وعزوف المزارعين عن الزراعة رغم أن الريف يمثل “السلة الغذائية للبلاد”، على حد وصفه. ويقول إن تناول هذه القضايا بشكل مشتت في عمل واحد يُضعف المعالجة: “جمع كل القضايا في مسلسل واحد يجعل من الصعب إيصال الرسالة، فكل قضية تحتاج إلى عمل درامي مستقل يعالجها بعمق.”
أما عن أزمة الكتابة الدرامية، فيلفت سيف إلى أنها من أبرز التحديات التي تواجه الدراما اليمنية اليوم، قائلاً: “الدراما اليمنية تعاني من شحّ في الكُتاب، وغالبًا ما تُحصر الكتابة في منظور يخدم المخرج أو الوسيلة، دون الاعتماد على كاتب يملك رؤية حقيقية لمعالجة قضية بعينها.”، بين من يرى أن الريف حاضر بقوة في الدراما اليمنية، ومن يرى أنه مجرد ديكور بصري، يتفق الجميع على أن هذه البيئة الغنية لا تزال بحاجة إلى معالجة أكثر عمقًا وإنسانية.
* تم إنتاج هذه المادة من قبل منصة ريف اليمن ضمن مشروع سينما الأربعاء بالشراكة مع بيت الصحافة ومؤسسة أرنيادا للتنمية الثقافية.