ريف اليمن: منيرة الطيار | أشجان بجاش
في أوائل يونيو الماضي، استيقظ سكان جزيرة سقطرى على مشهد صادم، أكثر من 80 دولفينا نافقا ملقى على شاطئ منطقة نيت بمديرية قلنسية، هي الأكبر من نوعها خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي أثار حالة من الذهول والقلق.
الحادثة أعادت إلى الأذهان واقعة مماثلة عام 2017، حين نفق أكثر من 20 دولفينا لأسباب لم تفسر علميا حتى الآن، ويقول الصياد “صالح سالم” لمنصة ريف اليمن: “نشهد منذ سنوات حالات متكررة لنفوق الدلافين، لكن ما حدث هذه المرة يفوق كل التوقعات”.
ويضيف سالم، الذي يعتمد كغيره من سكان الجزيرة على الصيد البحري وتربية النحل والزراعة التقليدية: “البحر ليس مصدر رزق فقط، بل حياة كاملة لأهل الجزيرة، وموت هذه الكائنات بهذا الشكل أمر مؤلم جدا”.
حادثة عابرة أم ناقوس خطر؟
تعد الدلافين مؤشرا حيويا لصحة البيئة البحرية، وتسهم بشكل كبير في التوازن البيئي في المحيطات، وتشكل جزءا مهما من التنوع البيولوجي في المنطقة. تشير دراسة حديثة بعنوان “ظاهرة جنوح الدلافين في سواحل سقطرى 2025” إلى أن هذه الظاهرة تعد من أكثر الألغاز البيولوجية تعقيدا.
مواضيع مقترحة
جزيرة سقطرى تحت وطأة البشر وعواصف المناخ
ما علاقة أزمة المناخ وارتفاع الحرارة بالفيضانات الكارثية؟
كيف تُضاعف التغيرات المناخية معاناة النازحين؟
يقول الدكتور “يحيى فلوس” الأستاذ المشارك في كلية علوم البحار بجامعة الحديدة إن التلوث الكيميائي الناتج عن مخلفات الصناعة والمبيدات والمعادن الثقيلة يضعف مناعة الدلافين، ويجعلها أكثر عرضة للأمراض.
وأضاف لـ”منصة ريف اليمن”، أن الدراسات الأولية أكدت أن الاضطرابات البيئية الموسمية، خاصة اختلال التيارات البحرية، وظاهرة الانبثاق المفاجئة، كانت من العوامل الرئيسية في حادثة نفوق الدلافين في يونيو 2025، محذرا من أن تكرار هذه الحوادث في منطقة بيئية حساسة مثل سقطرى ينذر بكارثة كبيرة، داعيا إلى تفعيل برامج الرصد البيئي، واتخاذ تدابير عاجلة لحماية الحياة البحرية.
تعد سقطرى إحدى أهم مواقع التراث الطبيعي العالمي لما تتميز به من تنوع بيولوجي استثنائي، غير أن هذه النظم الفريدة تواجه تهديدات متصاعدة بفعل التغير المناخي والأنشطة البشرية؛ مما يجعل الحفاظ عليها تحديا بيئيا ملحا.
عوامل بيئية وفيزيولوجية
الدراسة الصادرة عن مركز سقطرى للدراسات الإنسانية والاستراتيجية أوضحت أن هذه الظاهرة تتداخل فيها عوامل بيئية وفيزيولوجية وسلوكية وبشرية، وفهم هذه الأسباب أمر بالغ الأهمية لتطوير استراتيجيات فعالة للوقاية والتدخل، خصوصا في البيئات البحرية الحساسة مثل مياه سقطرى.
وبينت أن الأنواع التي تعرضت للجنوح، ومنها الدلافين قارورية الأنف والمخططة، تُعرف بطبيعتها الاجتماعية، وحساسيتها الكبيرة للتغيرات المفاجئة في البيئة البحرية، خاصة خلال موسمي الرياح الموسمية الممتدين بين مايو–يونيو وسبتمبر–أكتوبر، حيث تندفع إلى المياه الضحلة نتيجة اضطراب في أنظمتها البيولوجية.
التغيرات المناخية أثرت بشكل مباشر على الأسماك والكائنات البحرية، بما فيها الدلافين، والرياح الموسمية والتيارات البحرية ترتبط بشكل وثيق بحوادث الجنوح الجماعي للدلافين
كما أشارت إلى أن الطبوغرافيا المعقدة لسواحل الأرخبيل -خصوصًا في الجهات الشمالية والشرقية والغربية، والتي تتميز بوجود خلجان ومداخل ضيقة- قد تتحول إلى ما وصفته الدراسة بـ”فخاخ طبيعية” تُربك حركة الدلافين، وتمنعها من العودة إلى عرض البحر.
وتعد التغيرات في درجات حرارة المياه من أبرز العوامل المؤثرة في سلوك الدلافين، وقد تدفعها للجنوح؛ فهي كائنات حساسة جدا للتغيرات الحرارية، وعندما تتبع الدلافين مصادر الغذاء إلى مياه أكثر دفئا من المعتاد تجد نفسها أحيانا في بيئات غير مألوفة؛ مما يفقدها القدرة على التوجيه الصحيح.
الموقع الجغرافي لسقطرى في بحر العرب يجعلها معرضة بشدة لتأثيرات التغيرات المناخية والمواسم البحرية القاسية، ففي فترة الرياح الموسمية الجنوبية الغربية -التي تمتد من مايو إلى سبتمبر- تتغير أنماط التيارات البحرية ودرجات حرارة المياه بشكل مفاجئ.

ويؤكد المدير العام للهيئة العامة للمصائد السمكية في البحر العربي بأرخبيل سقطرى “أحمد علي عثمان” أن التغيرات المناخية أثرت بشكل مباشر على الأسماك والكائنات البحرية بما فيها الدلافين.
وأضح خلال حديثه لـ”منصة ريف اليمن”، أن الفترة من يونيو إلى سبتمبر تشهد أمواجا قوية، والتيارات تؤدي إلى انقطاع الأوكسجين، وهو ما يدفع الدلافين للاصطدام بالشواطئ وعدم القدرة على العودة إلى المياه العميقة.
الرياح الموسمية والعوامل البشرية
دراسة نُشرت على موقع Eos في نوفمبر 2021، تناولت حوادث الجنوح الجماعي للدلافين، في منطقة كيب كود بولاية ماساتشوستس الأمريكية، أشارت إلى أن الرياح الموسمية والتيارات البحرية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحوادث الجنوح الجماعي للدلافين.
وبيّنت الدراسة أن الرياح القوية تؤدي إلى ظاهرة “الصعود البحري” (upwelling)، وهي عملية تصعد فيها المياه الباردة الغنية بالمغذيات من الأعماق إلى السطح، وهذا الصعود يؤدي إلى زيادة الإنتاجية البيولوجية؛ مما يجذب فرائس الدلافين إلى المياه الساحلية الضحلة؛ مما يزيد من احتمالية جنوحها.
الضوضاء تحت الماء الناتجة عن حركة السفن وأعمال التنقيب تربك أنظمة التوجيه لدى الدلافين، و أنشطة الصيد باستخدام الشباك قد تؤدي إلى إصابتها
رغم أن جزيرة سقطرى تبدو نائية نسبيا إلا أن الأنشطة البشرية المتزايدة بدأت تؤثر في بيئتها البحرية؛ فالنشاط السياحي -وإن كان محدودا- يؤدي إلى زيادة حركة القوارب التي تصدر ضوضاء تحت الماء تتداخل مع أنظمة التوجيه الطبيعي لدى الدلافين. كما أن أنشطة الصيد التقليدي باستخدام الشباك والخيوط قد تعيق حركة الدلافين، أو تؤدي إلى إصابتها؛ وهو ما يرفع احتمالية الجنوح بشكل كبير.
وبحسب الدكتور يحيى فلوس، فإن الضوضاء تحت الماء الناتجة عن حركة السفن وأعمال التنقيب، واستخدام السونار، تربك أنظمة التوجيه لدى الدلافين. فيما أكد الباحث “جميل السقطري” أن سلوك الدلافين الجماعي يزيد من احتمالية الخطر إذ إن جنوح فرد واحد قد يدفع القطيع بأكمله إلى اتباعه.
يخشى خبراء بيئيون من أن يكون هذا النفوق الجماعي مقدمة لتحولات بيئية أعمق تؤثر على التنوع البيولوجي في سواحل سقطرى، فالاختلال في التوازن الطبيعي ينعكس على وفرة الأسماك التي يعتمد عليها السكان، كما أن تراكم الطحالب السامة، وتغير درجات الحرارة قد يؤدي إلى تأثيرات عصبية وسلوكية لدى الكائنات البحرية تهدد وجودها، وتضع مستقبل البيئة البحرية في الجزيرة على المحك.