في لحظة مباغتة، سقطت الطفلة “العنود”، ذات الثمانية أعوام أرضًا، ومعها انهار كل شيء في عيني والديها، غابت عن الوعي، وبدأ النزيف من أنفها وأذنيها، لتمتلئ وجوه مَن حولها بالذهول والخوف.
على الفور احتضنها والدها بين ذراعيه، وركض بها نحو طبيب القرية الواقعة في مديرية مزهر بمحافظة ريمة (غربي اليمن)، يتشبث بأمل خافت بأن يجد من ينقذها من الخطر، لكن الحالة كانت حرجة، والطبيب عاجز عن التدخل؛ في ظل غياب أبسط أدوات الطوارئ.
مرضى ريف ريمة
واقعٌ كهذا لا يمثل حالة نادرة في ريف المحافظة الجبلية؛ إذ تعيش المنطقة انهيارًا شبه تام في منظومتها الصحية التي باتت تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، وتقتصر على عدد محدود من المراكز والمستشفيات التي لا تحمل من معانيها سوى الاسم.
مواضيع مقترحة
- ريف تعز: أطفال يبيعون الخبز لأجل العيش
- أبين.. تجربة بذور جديدة للطماطم تنتج محصول وفير
- التلفريك في وصاب وريمة: شريان حياة للقرى الريفية
ويعاني سكان المناطق الريفية النائية في اليمن من غياب المرافق والخدمات الصحية، وصعوبة الوصول الى المستشفيات والمراكز الطبية في المدن بالإضافة إلى تكلفة العلاج الباهظة التي لا يقدر عليها المواطنين، في ظل تدهور أوضاعهم المعيشية.
يروي والد الطفلة العنود لمنصة “ريف اليمن” تفاصيل تلك اللحظات العصيبة قائلا: “عشنا لحظات قاسية لا توصف، فبعد سقوطها بدأ النزيف من أنفها وأذنيها مباشرة، ولم يكن لدينا أي خيار سوى الإسراع بها إلى صنعاء بسبب غياب الرعاية الصحية في المحافظة”.
تميّز محافظة ريمة بطبيعة جبلية وعرة، وجبال شاهقة، تحوّل التنقل إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر، ويضطر سكانها إلى قطع مسافات طويلة وشاقة للبحث عن الحياة
وأضاف: “استغرق الطريق الوعر إلى ذمار عشر ساعات، وهناك حصلنا فقط على إسعافات أولية، ثم طلبوا منا التوجه إلى صنعاء بشكل عاجل”، مؤكدا أن ابنته واحدة من آلاف الحالات في ريمة التي تواجه صعوبة في الوصول إلى حقها في العلاج، وسط غياب المرافق الطبية المؤهلة.
تتميّز محافظة ريمة بطبيعة جبلية وعرة، وجبال شاهقة، تحوّل التنقل إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر، ويضطر سكانها إلى قطع مسافات طويلة وشاقة للبحث عن الحياة، ويتحتم على كل مواطن لديه حالة مرضية أن يدفع 40 ألف ريال يمني ما يقارب (80 دولاراً)، فضلا عن قضاء نصف يوم على الأقل في الطريق.
يقول المواطن “محمد أحمد”، (60 عاما)، أب لعشرة أطفال، إن انتشار الكوليرا خلال الأشهر الماضية في وادي المياسي بذات المديرية كشف عن عجز تام في تعامل الكادر الصحي المحلي مع الأزمات، خاصة بعد وفاة إحدى المواطنات؛ وهو ما تسبب بانتشار الهلع بين المواطنين.
ويضيف: “عندما أصيبت زوجتي بالمرض، ومع ضعف بنيتها، دَخَلتْ في غيبوبة، واضطررت لنقلها إلى الجبين (مركز المحافظة) بشكل عاجل، الذي يبعد عنا أربع ساعات، قضينا الرحلة على طريق وعر، ولو أن الطريق معبد لما تجاوزت المدة ساعة واحدة”.
بحسب الأمم المتحدة، يعجز نحو 12.9 مليون يمني، غالبيتهم من الفئات الأشد ضعفًا، عن الحصول على الرعاية الصحية. وفي ريمة، يتجلى هذا العجز في صور مؤلمة.

تهميش في الخدمات الصحية
الإعلامية “ذكرى الواحدي” قالت لمنصة ريف اليمن: “ريمة مهمشة منذ عقود، رغم الكثافة السكانية والموارد الطبيعية التي تتمتع بها، المرافق الصحية نادرة، والموجود منها يفتقر حتى لسرير رقود أو دولاب أدوية، أو حتى ثلاجة لحفظ اللقاحات”.
وتتابع: “الفساد الإداري والمالي في القطاع الصحي أوصل الأمور إلى أن القابلة تؤدي دور الطبيبة، وتُجري عمليات الولادة المتعسّرة، مما يشكّل خطرًا على حياة الأم والجنين”.
تستمر معاناة المواطنين تحت وطأة الفقر والمرض بينما تغيب الرعاية، ويتراجع الحس بالمسؤولية، وتُترك أرواح الأطفال والمسنين في مهب الطرق الوعرة
أما الدكتور “هائل حسن”، مدير أحد المراكز الصحية في المحافظة، أكد أن الكوادر الطبية غير مكتملة، والمعدات شبه معدومة، ما يضطر الأهالي لنقل أي حالة طارئة إلى خارج ريمة.
يقول حسن لمنصة ريف اليمن: “ليس لدينا حتى سيارة إسعاف، كل عملية نقل تتم بسيارات المواطنين، ما يضاعف معاناة المرضى ويهدر الوقت الحرج”.
ويضيف: “لو أن هناك مشاريع لتعبيد الطرق التي تربط القرى بالمراكز الصحية، وتوفير الحد الأدنى من المواد الطبية؛ لخفّف ذلك من وطأة هذه الكارثة الصحية. كثير من الحالات لا تحتاج سوى تدخل بسيط، لكنها تُجبر على السفر لغياب الإمكانات”.
صمت وتقاعس
تشير الواحدي إلى غياب تام لأدوار الإعلاميين والمثقفين ووجهاء المحافظة في مواجهة هذا الواقع، وتؤكد أن “الصمت والتقاعس عن كشف الفساد ساهم في ترسيخ ثلاثية الفقر، والجهل، والمرض، يضاف إليها الفساد، الذي التهم خيرات المحافظة، وهمّش إنسانها”.
ودعت إلى “غربلة شاملة للكوادر غير المؤهلة في القطاع الصحي، ومساءلتهم، إلى جانب تحمّل وجهاء المحافظة لمسؤوليتهم في نقل معاناة السكان إلى الجهات المعنية والمنظمات الإنسانية”.
منصة “ريف اليمن” تواصلت مع مكتب الصحة بمحافظة ريمة للحصول على تعليق رسمي، لكن كل المحاولات باءت بالفشل، واقتصر الرد على اعتذار من نائب مدير المكتب، الذي قال إنه “غير مخول بإدلاء أي تصريحات صحفية”.
وفي محافظة تقف على حافة النسيان، ولا يزال سكانها يستخدمون الحمير لنقل البضائع في رحلة تستغرق خمس ساعات متواصلة؛ تستمر معاناة المواطنين تحت وطأة الفقر والجهل والمرض، بينما تغيب الرعاية التي كفلها القانون، ويتراجع الحس بالمسؤولية، وتُترك أرواح الأطفال والمسنين في مهب طريق وعر، لا يؤدي إلا إلى مزيد من الألم والفقدان.