كبار السن في الريف: ذاكرة المجتمع بين رماد المعاناة

يشكل من هم فوق 60 عاما حوالي 4.7٪ من سكان اليمن وفق تقديرات

كبار السن في الريف: ذاكرة المجتمع بين رماد المعاناة

يشكل من هم فوق 60 عاما حوالي 4.7٪ من سكان اليمن وفق تقديرات

بين الجبال القاسية وحقول الذرة والمواشي، يعيش كبار السن في ريف اليمن حياة مليئة بالتحديات هم في الظاهر جسد منهك، لكن في الداخل ينبضون صبرا وعزيمة، عطاؤهم المستمر يذكر المجتمع بأن الشيخوخة ليست نهاية الطريق، بل امتداداً لجذور الحياة في القرى اليمنية.

في المرتفعات الجبلية الشاهقة في ريف محافظة تعز تخرج أم أحمد (70 عامًا) كل صباح متكئة على عصاها الخشبية، لتقطع مسافة طويلة إلى أقرب بئر ماء، الرحلة الشاقة تستنزف قواها لكنها لم تمنعها من الاستمرار في خدمة أسرتها، فالشيخوخة هنا ليست نهاية العطاء، بل بداية تحد جديد مع قسوة الطبيعة ونقص الخدمات.

تقول “أم أحمد” التي تنحدر أصولها من المشاولة في ريف محافظة تعز: “نعتمد على الحمير لنقل الماء، هذا العام عانينا كثيرا بسب انعدام المياه وجفاف الينابيع، لكنني اعتدت جلب الماء لأسرتي كل يوم”، لا ترى أم أحمد ذلك مرهقا لها رغم كبر سنها، بل تراه واجبا يشعرها بالحب عندما تقدم لهم ما يحتاجونه.


       مواضيع مقترحة

كبار السن في الريف

في الأول من أكتوبر من كل عام، يحيي العالم “اليوم الدولي لكبار السن” الذي أقرّته الأمم المتحدة عام 1990 ليكون مناسبة للتذكير بأهمية هذه الفئة ودورها الحيوي. أما في اليمن، فيبقى هذا اليوم محطة للتأكيد على ضرورة توفير رعاية صحية واجتماعية تحفظ كرامة كبار السن، وتعيد لهم جزءا من الحقوق التي حُرموا منها.

وفي القرى لا يقتصر دورهم على النصح والإرشاد، بل يمتد إلى حفظ الأعراف والتقاليد وتسوية النزاعات، ما يجعل الحديث عنهم في هذا اليوم ليس مجرد احتفاء عالمي، بل دعوة محلية للحفاظ على قيم البر والإحسان تجاههم، وضمان استمرار دورهم المحوري في الأسرة والمجتمع.

يشكل من هم فوق 60 عاما حوالي 4.7٪ من سكان اليمن، وبحسب «Help Age International» فإن نحو 79٪ من اليمنيين فوق سن الخمسين يعانون أمراضا مزمنة تحد من قدراتهم، فيما يواجه 1.65 مليون منهم خطر الجوع والأمراض نتيجة استمرار الأزمات.


عسيران: يعاني كبار السن في الأرياف اليمنية من صعوبة الحركة بسبب طبيعة التضاريس الجغرافية، وتراجُع حجم التمويل يمثل تحديا كبيرا أمام الاستجابة الإنسانية


في قرية دير عبد بمحافظة الحديدة يعيش العم السبعيني سالم، عرف بحكمته ويديه اللتين لم تتعبا يوما من تشكيل الطين، يجتمع الأطفال حوله كل مساء عند بيته الصغير حيث يضع عجله الفخار، فيصنع أمام أعينهم أواني وأكوابا كأنها قصص تشكل من طين.

يقول العم سالم لـ “ريف اليمن”: “مع كل درس لم أكن أعلمهم كيف يشكلون الأواني فقط، بل كان يغرس فيهم الصبر والإتقان وحب التراث اليمني وحرفة أجدادنا”.

ذات يوم قرر أن يترك لهم مهمة كاملة قائلا: “تعاونا نحن والأطفال في صنع جرة كبيرة للقرية ليخزن فيها الماء، بدأ الأطفال مترددين، لكن بتشجيعي وتوجيهاتي استطاعوا أن ينجحوا في ذلك، وهو ما نأمل في زراعته في وجدان أبنائنا”.

كبار السن في الريف: ذاكرة المجتمع بين رماد المعاناة

قصة صمود وتحدٍّ

من بين قصص الصمود قصة “أحمد”، وهو رجل ستيني فقد ساقه في خضم الصراع وأحد أبنائه لاحقا، لكنه واصل عمله كمعلم ومرمم للتراث الفني؛ مستفيدا من مشاريع التمكين الاقتصادي؛ ليستعيد استقلاليته ويواصل عطاءه.

وقال المتحدث باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الشرق الأوسط هاشم عسيران في تصريح لـ”ريف اليمن” إن “هذه النماذج تجسد قوة وإصرار كبار السن في اليمن بمواجهة تحديات الصراع الظروف القاسية”.

وتدعم اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتعاون مع جمعية الهلال الأحمر اليمني المجتمعات المتضررة من النزاع في اليمن بما في ذلك كبار السن الذين يواجهون تحديات مضاعفة نتيجة النزوح وصعوبة الوصول الى الخدمات الأساسية.

وأوضح عسيران: “تشمل أنشطتنا دعم المراكز الصحية والمستشفيات لضمان خدمات الرعاية الأساسية، وتوزيع الغذاء والاحتياجات المنزلية للأسر الأكثر ضعفا، بالإضافة إلى تحسين الوصول إلى المياه وخدمات الصرف الصحي”.

وقال عسيران إن “كبار السن في الأرياف اليمنية يعانون من صعوبة الحركة بسبب طبيعة التضاريس الجغرافية. ورغم الجهود فإن تراجُع حجم التمويل يمثل تحديا كبيرا أمام الاستجابة الإنسانية في وقت لا يزال فيه ملايين اليمنيين -ومن بينهم كبار السن- يعتمدون عليها”.

بيت الخبرة

يمثل كبار السن في المجتمع الريفي اليمني مصدرا أساسيا للخبرة والحكمة، حيث يستفاد منهم في تصويب مسار الحياة الأسرية والاجتماعية، ونقل العادات والتقاليد الحميدة من جيل إلى آخر؛ بما يسهم في الحفاظ على الموروث الاجتماعي. كما يفيد محمود البكاري أستاذ علم الاجتماع في جامعة تعز.

في الريف اليمني، يواجه كبار السن واقعا قاسيا، فالمسافات الطويلة والطرق الوعرة تحول رحلة العلاج أو شراء الدواء إلى مغامرة قد تستغرق يوماً كاملاً، بحسب البكاري الذي نوه إلى أن معظمهم يفتقرون إلى وسائل النقل، ويضطرون للاعتماد على الحمير أو السير على الأقدام لمسافات مرهقة.


البكاري: كبار السن باتوا يتأثرون بعوامل التغيير الاجتماعي، مثل الهجرة الداخلية والخارجية؛ الأمر الذي يحد من قدرة الأبناء على الاهتمام بهم كما كان يحدث سابقا


وتفاقم الأوضاع الاقتصادية المعيشية من هذه المعاناة، إذ لا يمتلك الكثير منهم دخلاً ثابتا أو أي شكل من أشكال الضمان الاجتماعي؛ ما يجعلهم في مواجهة مباشرة مع الفقر والمرض.

ويؤكد البكاري، في حديثه لـ”ريف اليمن” أن كبار السن يعدون مرجعا مهما في حل الخلافات والنزاعات الأسرية، سواء بين الأبناء أو الأزواج، لما يحظون به من احترام ومهابة وثقة في إطار الأسرة والمجتمع.

لكن البكاري يشير إلى أن كبار السن باتوا يتأثرون بعوامل التغيير الاجتماعي، مثل الهجرة الداخلية والخارجية، وتعليم الفتيات، والتحاق أفراد الأسرة بوظائف تتطلب التزاما بالدوام اليومي؛ الأمر الذي يحد من قدرة الأبناء على الاهتمام بهم كما كان يحدث سابقا.

أما عن أبرز التحديات التي تواجه هذه الفئة، فيوضح أن غياب برامج الرعاية الاجتماعية والصحية والنفسية، إلى جانب الأوضاع الاقتصادية والأمنية الراهنة، تمثل عقبات كبيرة أمام توفير حياة كريمة للمسنين في الأرياف اليمنية.

كبار السن في الريف: ذاكرة المجتمع بين رماد المعاناة
لا يقتصر دور كبار السن في اليمن على النصح والإرشاد بل يمتد إلى حفظ الأعراف والتقاليد وتسوية النزاعات (الهلال الأحمر)

فئات متضررة

وخلال سنوات الصراع في اليمن تأثر كبار السن بشكل كبير. وقال أمين عام اللجنة الوطنية للمتطوعين بالهلال الأحمر اليمني “حسان العنسي” إن “كبار السن يعدون من أكثر الفئات تضررا في زمن الحرب، وأقلها قدرة على التأقلم مع ظروف الصراع”.

وأضاف العنسي في حديث لـ “ريف اليمن” أن “معاناة كبار السن اليومية لا تقتصر على فقدان المأوى أو النزوح المتكرر، بل تمتد لتشمل صعوبة الحصول على الأدوية المزمنة، ومشقة التنقل، وفقدان الأبناء أو المعيل، إلى جانب العزلة النفسية وغياب الرعاية الاجتماعية”.

وأوضح أن “هناك مسؤوليات عاجلة تجاه هذه الفئة يقوم بها الهلال الأحمر اليمني تجاههم، أبرزها: ضمان توفير الرعاية الصحية والأدوية بأسعار مناسبة، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي، إضافة إلى منحهم الأولوية في المساعدات الغذائية والمأوى”.

وأكد المسؤول في الهلال الأحمر على ضرورة “إدماج قضايا كبار السن في خطط الاستجابة الإنسانية محليًا ودوليا”، وشدد على أهمية تعزيز ثقافة احترام كبار السن وتقدير مكانتهم.

وقال العنسي: “كبار السن يمثلون ذاكرة الأوطان ومستودع القيم، ورعايتهم ليست خيارا، بل واجبا أخلاقيا وإنسانيا”، لافتاً إلى أن “خسارتهم تعني خسارة قصص الأرض وتاريخها ووصاياها”.

شارك الموضوع عبر:

الكاتب

    مواضيع مقترحة: