بين سفوح جبال ريمة الشاهقة، تتحول مهنة رعي الأغنام إلى مغامرة يومية محفوفة بالمخاطر، قد تنتهي بالموت كما حدث للعديد من النساء خلال السنوات الماضية؛ إذ يتعين عليهن التنقل بين منحدرات وعرة وطرق ضيقة، وسط غياب أي وسائل حماية.
تروي أم عاصم، وهي في الثلاثينيات من عمرها وأم لأربعة أطفال، حكايتها المؤلمة بعد أن فقدت زوجها في حادث مروري، لتجد نفسها وحيدة في مواجهة أعباء الحياة الثقيلة، ولم تجد أمامها سوى مهنة رعي الأغنام لتأمين قوت يومها وأطفالها.
تقول لـ “منصة ريف اليمن”: “أقضي أكثر من سبع ساعات يوميا بين جبال مديرية كسمة الشاهقة في رعي الأغنام مقابل مبلغ زهيد بالكاد يسد رمق أطفالي، أمارس هذا العمل منذ ثلاث سنوات، متحدية مشقة الطريق وخطر الانزلاق”.
وتضيف: “قبل عامين سقطت من مرتفع شاهق كدت أن أفقد حياتي وأصبت بكسور في كتفي وقدمي ونزيف داخلي، مكثت عشرة أيام في غيبوبة قبل أن أنجو بأعجوبة وعدت إلى عش بيتي وأطفالي”.
مواضيع مقترحة
-
الثروة الحيوانية.. مصدر الأسر الريفية
-
نساء الريف صمام أمان لتأمين الغذاء
-
نساء ريمة.. مكافحات يتسيّدن قمم الجبال
وتؤكد: “لست وحدي من تعرضت لهذه الحوادث، فما زلنا جميعا نساء هذه المنطقة نتذكر كفاية راجح التي قضت نحبها وهي ترعى الأغنام، حيث سقطت من على سفوح جبال بني منصور بالمنطقة، ولم نجد جثتها إلا بعد ساعات من وفاتها”.
قصص مؤلمة
حادثة أخرى ترويها أم ذكرى لـ ” منصة ريف اليمن”، بألم وحرقة بالغة بفقدان فلذة كبدها البالغة من العمر 16 عاما أثناء رعيها للأغنام، فتقول إن ابنتها “ذهبت لجلب العلف والماء للماعز وتزحلقت من سفوح الجبل حتى الوادي، في مشهد موجع لا يغيب عن ناظري حتى اللحظة”.
وتضيف: “زميلاتها صرخن بأعلى صوتهن (ذكرى سقطت للوادي). خرجت مهرولة لمكان الحادث أتدحرج على حجرة حجرة حتى وصلت لأسفل الوادي ووجدتها تلفظ أنفاسها الأخيرة، لم نتمكن من إسعافها؛ فأقرب مركز صحي يبعد عنا قرابة ثلاث ساعات، وماهي إلا دقائق حتى لفظت أنفاسها الأخيرة”.
وتلعب النساء في الأرياف اليمنية دورا محوريا في الزراعة وتربية المواشي، ولا يكتفين بالعمل داخل حدود منازلهن، بل يضطررن إلى التنقل يوميا في مناطق قد تكون معرضة لمخاطر طبيعية، وأعباء ثقيلة، ومخاطر لا تحصى.
“السقوط ومخاطر العمل أودى بحياة أكثر من 14 امرأة، وإصابة أكثر من 40 أخريات خلال عامين، وكثير من الحالات لا تصل إلى المستشفيات بسبب الوفاة الفورية أو بُعد المرافق الصحية”.
وبحسب تقارير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، تشكّل النساء العمود الفقري للزراعة والرعي في اليمن، لكن مع تردي الأوضاع الاقتصادية وانهيار سبل العيش يضطررن لتحمل أعباء مضاعفة وسط بيئة محفوفة بالمخاطر.
الدكتور “وليد الجباري”، نائب مدير مكتب الصحة بريمة، قال إن السقوط أثناء الرعي والعمل في الجبال أصبح من الأسباب الرئيسية لوفيات النساء في محافظة ريمة التي يعد فيها رعي الأغنام من أكثر الأعمال مزاولة للنساء.
وأكد الجباري لـ”منصة ريف اليمن”، أن السقوط ومخاطر العمل أودى بحياة أكثر من 14 امرأة، وإصابة أكثر من 40 أخرى خلال العامين الماضين، مشيرا إلى أن كثيرا من الحالات لا تصل إلى المستشفيات بسبب الوفاة الفورية أو بُعد المرافق الصحية.
تصريحات الجباري تسلط الضوء على المخاطر الكبيرة التي تواجه النساء أثناء رعي الأغنام والعمل في جمع الحشائش والحطب؛ ما يستدعي تعزيز إجراءات السلامة والوقاية من قبل الجهات المختصة حفاظا على الأرواح.
الدكتورة “ندى حيدر”، أوضحت أن محافظة ريمة تشهد دوما حوادث سقوط النساء من المرتفعات أثناء الرعي، مشيرة إلى أن هذا الأمر يمثل تهديدا مباشرا لصحة النساء وسلامتهن.
وأوضحت حيدر -وهي طبيبة ميدانية- في حديثها لـ “منصة ريف اليمن”، أن “النساء في ريمة غالبا ما يواجهن تضاريس وعرة أثناء رعي الماشية أو جمع الحطب؛ ما يزيد من احتمالية الإصابات الخطيرة بما في ذلك كسور الأطراف ونزيف داخلي وإصابات بالرأس قد تكون مهددة للحياة” وأضافت: “نواجه صعوبة في تقديم الإسعافات الفورية في بعض القرى النائية بسبب بعد المراكز الصحية، وهذا يزيد من مضاعفات الإصابات، ويهدد حياة الضحايا”.
“تكرار المآسي يسلط الضوء على الحاجة الماسة إلى تدخل عاجل من الجهات المعنية لتوفير وسائل وقاية وتدريب للنساء، وتحسين الوصول إلى خدمات الرعاية”.
وتقع ريمة وسط السلسلة الجبلية الغربية لليمن، على بعد 200 كيلومتر من صنعاء، وتتميّز بطبيعة وعرة وجبال شاهقة الارتفاع وتضاريس معقدة؛ ما يجعلها من أكثر المناطق عرضة للحوادث القاتلة أثناء الرعي أو جمع الحطب.
صدمات نفسية
من جانبها، تقول “إلهام السامدي”، اختصاصية علم نفس واجتماع، إن الخوف من السقوط يرافق النساء يوميًا أثناء الرعي وأداء أعمالهن الزراعية؛ ما ينعكس على صحتهن النفسية، ويُسبب صدمات جماعية طويلة الأمد عند وفاة إحداهن.
وتشير خلال حديثها لـ “منصة ريف اليمن”، إلى أن “النساء يلجأن أحيانًا لطرق تكيف مثل تجنب المناطق الجبلية الأخطر، أو الاعتماد على استراتيجيات نفسية للتعامل مع القلق، لكنهن بحاجة إلى دعم نفسي من المجتمع، وتدريب على إدارة المخاطر”.
وتنوه بأن تكرار المآسي في ريمة يسلط الضوء على الحاجة الماسة إلى تدخل عاجل من الجهات المعنية لتوفير وسائل وقاية وتدريب للنساء، وتحسين الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية الطارئة؛ بما يخفف من نزيف الأرواح الذي يتواصل على سفوح الجبال.
وبحسب بيان أصدرته منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة الفاو في 2020، فإن “الثروة الحيوانية توفّر الدخل الرئيسي لأكثر من 3.2 مليون شخص، في جميع أنحاء اليمن، حيث تربي الأسر الأغنام والماعز والماشية، وتعتمد على استهلاك وبيع منتجاتها للبقاء على قيد الحياة”.