الفُلّ اللحجي.. مصدر رزق ورائحة منعشة

يعد "الفُلّ" جزء من ثقافة المجتمع وثقته الأغاني الشعبية

الفُلّ اللحجي.. مصدر رزق ورائحة منعشة

يعد "الفُلّ" جزء من ثقافة المجتمع وثقته الأغاني الشعبية

في محافظة لحج، جنوبي اليمن حيث تنمو الروائح قبل الزهور، يشق الفُلّ اطريقه من بين الأغصان العطرة إلى قلوب محبيه، متحولًا من زهرة بسيطة إلى رمز من رموز التراث والجمال، ومن مصدر للزينة إلى مصدر دخل متجدد لعشرات الأسر في المحافظة.

تستمر تجارة العبق الأخّاذ يوميًا في قرى مديرية تُبَن، حاملةً في طيّاتها أعوامًا من الموروث الزراعي اللحجي الفنّان، ويُعد الفُلّ أحد أوتار عود هذا الموروث المتألق بأعذب نغمات الشغف والحنين إلى زمان لحج الزراعي، تلك الجنة الخضراء الممتدة على ضفتي وادي تبن.

إقبال واسع

رغم مرور السنين لم يفقد الفُلّ مكانته، ولا يزال المزارع اللحجي محافظاً على زراعته والاهتمام به، كما أنه يحظى بإقبال واسع في لحج والمحافظات المجاورة مثل عدن وأبين، ويُحمل أيضًا إلى محافظات أخرى، معبأً في “ثلاجات” يدوية لضمان بقائه طرياً وبرائحته العطرة المميزة.

تمتد مزارع الفُلّ في قرى متعددة بمديرية تبن، مستفيدة من جودة التربة وخصوبتها، إلى جانب الأجواء المشمسة على مدار العام؛ مما يتيح زراعته طوال الفصول، وإنْ كان يُنتج بكميات أوفر في فصل الصيف مقارنة بالشتاء.


       مواضيع مقترحة


ويُعزى الفضل في إدخال زراعة الفل إلى لحج إلى الأمير أحمد فضل القمندان، الذي جلبه من الهند وزرعه أول مرة في بستان الحسيني الشهير، ومنه، انتشر إلى قرى أخرى مثل: الخداد، والحبيل، والحسيني، والمجحفة، وبيت عياض، والقريشي، وحيط الكرود ببستان 22 مايو في الحوطة، وتوسّع لاحقًا ليشمل قرى إضافية.

الفُلّ اللحجي.. عطر الأرض وزينة الروح
يُستخدم الفل خلال المناسبات والأعراس إلا أن الظروف الاقتصادية الراهنة حدّت من الإقبال عليه(ريف اليمن)

في ساعات الفجر الأولى، يتجه “القاطفون” من نساء ورجال إلى مزارع الفل؛ ليقطفوه بعناية ويعبئوه في سِلال، تُنقل لاحقًا إلى السوق في مدينة الحوطة، حيث تبدأ مرحلة جديدة في رحلته.


رغم مرور السنين لم يفقد الفل مكانته، ولا يزال المزارع اللحجي محافظاً على زراعته والاهتمام به، كما أنه يحظى بإقبال واسع في لحج والمحافظات المجاور


حراج الفُلّ

يتجمع عشاق الفل باكرًا في الحوطة من مختلف القرى والمديريات للحصول على “المحصول العطر”، وتحديدًا النساء، لا سيما في مواسم الأعراس؛ حيث يُستخدم الفل بكثرة للزينة، ورغم أن شراءه كان شائعًا في مختلف الأيام، إلا أن الظروف الاقتصادية الراهنة حدّت من الإقبال اليومي عليه.

كما يأتي “التجار الصغار” من المحافظات المجاورة لشراء الفل وإعادة بيعه في أسواقهم المحلية، وتُعقد مزادات علنية يقودها “المحرّج” المعروف “عارف كعامس”، حيث تُعرض كميات كبيرة من الفل على شكل “جرز” (عقد كبير يُلبس عادة للزينة)، ويبدأ التنافس على شرائه، وفي موسم الشتاء، قد يصل سعر الجرز إلى خمسة وعشرين ألف ريال، وهو سعر يُعد مرتفعاً مقارنةً بموسم الصيف.

وفي الطرف الآخر من الشارع، تُقام بسطة أخرى بإشراف “حلمي عبد الرحيم” أحد كبار تجار الفل ومالك مزرعة؛ حيث تتم عمليات البيع وفق نظام دقيق؛ فبعد رسو المزاد، يُسجل المشتري في دفتر خاص باسمه والكمية التي أخذها، ليقوم ببيعها ويعود في اليوم التالي لتسديد قيمتها.

الفُلّ اللحجي.. عطر الأرض وزينة الروح
تتم عمليات البيع وفق نظام دقيق؛ فبعد رسو المزاد، يُسجل المشتري في دفتر خاص باسمه والكمية التي أخذها (ريف اليمن)

بعد توزيعه في المدن، يُعرض الفل اللحجي على محبيه، ليُشكّل بأشكال متنوعة تناسب المناسبات المختلفة. يُصاغ على هيئة عقود طويلة تُلبس حول العنق، وتتزين به العرائس والعرسان في الأعراس، وكذلك في حفلات التخرُّج، والمناسبات الاجتماعية، واستقبال الضيوف. كما تُصنع منه خيوط طويلة تُلف حول الشعر لإضفاء رائحة جميلة، أو توضع داخل الملابس لنشر عبقه.

إلى جانب الفل، تُستخدم نباتات عطرية مرافقة تُعرف بـ”ملحقات الفل” مثل الكاذي والمشموم، وتُضاف للعقود لتعزيز الرائحة، أو لتجميل البيوت والخزائن.

“أنور صادق”، أحد باعة الفل في محافظة لحج، قال إن مهنة بيع الفل تُعد مصدر دخله الوحيد منذ سنوات، مشيرًا إلى أن هذه الحرفة التي ارتبط بها لسنوات طويلة، باتت تواجه صعوبات كبيرة في ظل تراجع الإقبال عليها بسبب الظروف الاقتصادية الراهنة.

مصدر رزق

وأضاف في حديثه لمنصة ريف اليمن: “كنا نعيش أوضاعًا أفضل قبل الحرب، وكانت حركة البيع مزدهرة، خصوصًا في مواسم الأعراس والمناسبات، أما اليوم فالوضع تغيّر كثيرًا، وأصبح الطلب أقل بكثير، والأسعار لا تغطي حتى مصاريف التنقل والتجهيز”. ورغم كل ذلك، يؤكد أنور تمسُّكه بهذه المهنة قائلاً: “ما زلت أواصل العمل فيها رغم الصعوبات، لأنها مصدر رزقي الوحيد، ولا أملك بديلاً آخر في الوقت الراهن”.


بعد سنوات من زراعته وعلى طريق الارتقاء بهذه النبتة الثمينة، بدأت جهود جديدة للارتقاء بالفل اللحجي كمورد اقتصادي  من خلال استثمار المزيد من الأراضي وإنشاء مصنع لاستخراج “زيت الفل”


بعد سنوات من زراعته، وعلى طريق الارتقاء بهذه النبتة الثمينة، بدأت جهود جديدة للارتقاء بالفل اللحجي كمورد اقتصادي، حيث أوضح “باسم عبد الرحيم”، أحد مؤسسي “جمعية مزارعي الفل”، أنهم بصدد توسيع الرقعة الزراعية من خلال استثمار المزيد من الأراضي.

الفُلّ اللحجي.. عطر الأرض وزينة الروح
إلى جانب الفُلّ ، تُستخدم نباتات عطرية مرافقة تُعرف بـ”ملحقات الفل” وتُضاف للعقود لتعزيز الرائحة، أو لتجميل البيوت والخزائن (ريف اليمن)

وأشار خلال حديثه لمنصة ريف اليمن، إلى أنه، وبالشراكة مع منظمة SMBS، تم إنشاء مصنع لاستخراج “زيت الفل العطري” في قرية المجحفة، وقد استُكمل البناء، وبانتظار تزويده بالمعدات التشغيلية للانطلاق في الإنتاج.

وبحسب عبدالرحيم، يجري تجهيز المصنع حالياً لاستقبال الآلات، ومن المتوقع أن يغطي السوق المحلي بزيوت عطرية أصلية، وربما يتم تصديرها مستقبلاً إلى بقية المحافظات؛ نظراً لتميّز الفل اللحجي بعطره القوي، وجودته العالية.

وباعتباره رمزاً من رموز الإنتاج الزراعي الذي تفخر به المحافظة، سيظل الفل رمزًا حيًا ما دام هناك دعم واستثمار مدروس، سواء من خلال توسيع زراعته، أو عبر إنشاء مصانع للزيوت العطرية.

شارك الموضوع عبر:
الكاتب

مواضيع مقترحة: