الريف اليمني: مصدر إلهام الدراما المحلية

رغم التطور يظل الريف نافذة للإبداع ومأوى للجمال

الريف اليمني: مصدر إلهام الدراما المحلية

رغم التطور يظل الريف نافذة للإبداع ومأوى للجمال

في لحظة خفت فيها أضواء المدن، عاد صناع الدراما في اليمن الى الريف، لا هربا من الحرب، بل بحثا عن النبض الأول للحياة، هناك بين الجبال والحقول الخضراء، وجدوا الصدق الذي غاب، والضوء الذي لا تصنعه المصابيح، فالريف لم يعد خلفية للأحداث، بل صار بطلا حقيقيا يعكس روح اليمن وذاكرته، ويمنح الدراما نكهتها الأصلية التي لا تشبه سوى هذه الأرض.

تصف الممثلة “عبير عبدالكريم” تجربة التصوير في المناطق الريفية بأنها “رحلة علاجية” تساهم في تحسين الحالة النفسية للفنانين، بعيدا عن ضغوط المدينة وضجيجها. وتقول لـ”منصة ريف اليمن”: “الريف يمنحنا شعورا مختلفا، فالطبيعة الخضراء والهواء النقي ينعكسان إيجابا على حالتنا النفسية، مما يعزز إبداعنا أمام الكاميرا”.


مواضيع مقترحة

الريف اليمني.. الغائب الأكبر في أجندة الإعلام المحلي
هل أنصفت الدراما اليمنية الريف؟
حملة صور وعرض سينمائي ضمن برنامج “الحياة الريفية”


وأشادت عبير بحفاوة استقبال الأهالي في القرى، قائلة: “يحتفون بنا بمحبة صافية، يقدمون لنا كل ما نحتاجه من طعام وخدمة دون مقابل، وكأننا في منازلهم، لا في مواقع تصوير”، مؤكدة أن هذا الدعم الإنساني يخلق بيئة عمل مريحة ومُلهمة.

أبعاد جديدة

وترى أن الدراما اليمنية المستوحاة من البيئة الريفية منحت الممثلين أبعادا جديدة في أدائهم، مؤكدة أن الشخصيات الريفية تحظى بحب وتفاعل كبير من الجمهور. وقالت: “عندما نقدم شخصية من الريف، نجد تفاعلا لافتا من المشاهدين، لأن الإنسان الريفي بسيط، لطيف، وعفوي، وهذه الصفات تجعله قريبا من القلب، هناك ممثلون جسدوا أدوارا بطولية ريفية لا تزال عالقة في أذهان الناس، وكانوا الأكثر بروزا  في أعمالهم بسبب قرب تلك الشخصيات من الواقع ومن وجدان المتلقي”.

الممثل “حسن الجماعي” من جانبه يؤكد  ألَّا فرق جوهريا في طبيعة العمل الدرامي بين الريف والمدينة، إذ يظل التمثيل هو نفسه، لكن الفارق ينعكس على المشاهد أكثر من الفنانين. ويقول الجماعي لـ”منصة ريف اليمن”: “نحن كممثلين نواجه صعوبات إضافية عند التصوير في الريف، مثل ضعف الإنترنت أو محدودية بعض الخدمات، لكن ما يخفف هذه التحديات هو طيبة الناس هناك وحفاوتهم، فهم يجعلوننا نشعر وكأننا بين أهلنا، وليس في موقع عمل بعيد”.

وشدد على أن أداء الممثل هو ما يصنع الفارق بغض النظر عن موقع التصوير، مضيفا: “سواء كان الدور في الريف أو المدينة، الممثل هو من يغير نظرة المشاهد إليه باجتهاده وصدق أدائه”.


الممثلة عبير عبدالكريم: تجربة التصوير في المناطق الريفية بأنها “رحلة علاجية” تساهم في تحسين الحالة النفسية للفنانين، بعيدا عن ضغوط المدينة وضجيجها.


ويؤكد المخرج اليمني “هاشم هاشم” أن الحرب في اليمن فرضت واقعا جديدا على صناع الدراما، لكنها في الوقت نفسه فتحت أمامهم أفقا مختلفا لاكتشاف الجغرافيا اليمنية فنيا. ويقول لـ”منصة ريف اليمن”: “لم نتعامل مع الحرب كعائق، بل كفرصة لإعادة النظر في المشهد البصري لليمن، فالريف لم يكن خيارا اضطراريا، بل قرارا فنيا وإنسانيا نابعا من رغبتنا في تقديم صورة صادقة عن اليمن الحقيقي؛ اليمن الذي ما زال نابضا بالحياة. رغم كل شيء في القرى والوديان والجبال وجدنا الضوء الطبيعي والصدق والبساطة التي نفتقدها في المدن”.

ويرى هاشم أن التصوير في الريف جمع بين التحدي التقني والفرصة الفنية، موضحا: “من الناحية التقنية واجهنا صعوبات عديدة، من صعوبة الوصول إلى المواقع، إلى ضعف البنية التحتية ومحدودية المعدات، لكن هذه التحديات منحت الصورة اليمنية طراوتها. “الريف حرر الدراما من النمطية البصرية، وسمح لنا بتقديم مشاهد أكثر صدقا وعمقا، وأداءً أكثر تلقائية. يمكن القول إننا لم ننجز أعمالنا الريفية رغم الصعوبات، بل بفضلها” يضيف هاشم.

الريف روح اليمن

أما عن مستقبل الدراما اليمنية في الريف، فيؤمن المخرج أن هذه البيئات قادرة على أن تتحول إلى مركز دائم للإنتاج الفني، حتى بعد انتهاء الحرب، مؤكدا: “الريف يمتلك روح اليمن وهويته البصرية، المدن قد تمتلك البنية التحتية، لكن الريف يحمل الذاكرة والإنسان، وهو جوهر الدراما الحقيقية. إذا تم دعم البنية الإنتاجية وتطوير الخدمات الفنية في هذه المناطق، فبإمكان الريف أن يصبح مدرسة جمالية للدراما اليمنية، كما حدث في تجارب عالمية كثيرة. المستقبل لن يكون لمن يملك المعدات فقط، بل لمن يملك الرؤية، والريف يمنح هذه الرؤية صدقها وعمقها”.

ويرى “أسامة الصالحي”، مدير البرامج والدراما في قناة يمن شباب، أن الريف اليمني يملك ثراء حكائيا وبصريا يجعله بيئة مثالية لصناعة الدراما، لكنه يؤكد أن جوهر العمل لا يتوقف على المكان بقدر ما يعتمد على جودة القصة وإبداع الممثلين.


الصالحي: “القصص في العادة أكثر ثراء في القرى، فالتفاصيل هناك غزيرة، والصورة الجمالية طبيعية وعميقة، الريف يمنح المخرج والممثل مادة خاما غنية بالحياة والعاطفة”.


يقول الصالحي لـ”منصة ريف اليمن”: “القصص في العادة أكثر ثراء في القرى، فالتفاصيل هناك غزيرة، والصورة الجمالية طبيعية وعميقة، الريف يمنح المخرج والممثل مادة خاما غنية بالحياة والعاطفة”. ويضيف: “تفاعل الجمهور لا يتحدد بمكان التصوير، بل بالقصة نفسها وبأداء الممثلين، نلاحظ مثلاً أن المشاهدين يتابعون مسلسل يوميات مواطن الذي صُوّر في المدينة بنفس الحماس الذي أبدوه تجاه مسلسل الجمالية المصوّر في الريف، لأن كليهما يقدّم حكاية قريبة من الناس، وصادقة في طرحها”.

وحول علاقة المكان بظروف الإنتاج، يوضح الصالحي أن الاختيار الإبداعي هو الحاسم: “نحن لا نُجبر على التصوير في الريف أو المدينة بسبب ظروف الإنتاج، بل نترك للقصة حرية تقرير مكانها الطبيعي بفضل تعاون الجهات الرسمية وتوافر الإمكانيات، يمكننا التصوير سواء في مدينة تعز أو في المناطق الريفية بالسهولة نفسها”.

يصف الأديب والناقد “قائد غيلان” المجتمع اليمني بأنه مجتمع ريفي في جوهره، موضحا أن مظاهر المدنية التي ظهرت في العقود الأخيرة لم تغيّر كثيرا من طبيعته العميقة، ويقول  لـ”منصة ريف اليمن”: “اليمن مجتمع ريفي بالأساس، والمدنية طارئة عليه حتى من يعيش في المدينة يبقى ريفيا في سلوكه وثقافته، فهو ريفي يسكن المدينة لا متمدن بالمعنى الحقيقي للتمدن، ولهذا فإن مشكلات المجتمع الريفي تمس الجميع، سواء في القرية أو في قلب المدينة”.

ويرى غيلان أن هذه الخصوصية تنعكس على الإنتاج الدرامي المحلي، الذي ما يزال أسير أنماط مكرّرة ويفتقر إلى روح التجريب، ويقول: “الدراما اليمنية ما زالت تجتر نجاحاتها القديمة عندما ينجح مسلسل تدور أحداثه في الريف، نجد أن بقية الأعمال اللاحقة تكرر نفس القالب دون محاولة للتجديد أو البحث عن صيغة فنية مختلفة، هناك خوف واضح من الفشل والخسارة، ولذلك تبقى الأعمال تسير في طرق مجرّبة سلفا، تناقش القضايا نفسها، وتستعين بالممثلين أنفسهم الذين حصدوا شهرة في الأعمال السابقة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي”.

تجربة مختلفة

ويختتم غيلان رؤيته بدعوة إلى التحرر من الخوف والانفتاح على التجريب الفني، معتبرا أن “الدراما الحقيقية لا تولد في مناطق الأمان، بل في لحظات المخاطرة والبحث عن الجديد”.

يصف الفنان “فهد القرني” تجربة التصوير في الريف بأنها تجربة مختلفة تماما عن العمل داخل المدن، فبينما تحاصر المدينة المخرج والمصور بجدران الإسمنت وضوضاء الشوارع وضيق المساحات، يفتح الريف أمام العدسة آفاقا أوسع من الجمال الطبيعي والعمق البصري والتنوع في الخلفيات.


 القرني: “تجربة التصوير في الريف تجربة مختلفة، فالريف يفتح أمام العدسة آفاقا أوسع من الجمال الطبيعي والعمق البصري والتنوع في الخلفيات”.


في المدن -كما يقول القرني لـ”منصة ريف اليمن”- يواجه فريق التصوير تحديات متعددة: الازدحام، الضجيج، صعوبة الحصول على مواقع مناسبة، إضافة إلى قلة التعاون من الناس بسبب طبيعة الحياة السريعة، أما في الريف، فالأمر مختلف تماما فبعد أيام قليلة من التصوير، يتحول السكان من مجرد متفرجين إلى شركاء فعليين في العمل، بروح فطرية من التعاون والحماس.

ويضيف: “تجربة تصوير الجزء الثاني من مسلسل يوميات مواطن، كانت أكثر سلاسة وتأثيرا مقارنة بالجزء الأول الذي صور في المدينة، حيث لمس الفريق تفاعلا أكبر من الأهالي الذين وفروا المواقع والمزارع والبيوت بسخاء”، ويرى القرني أن الدراما الريفية تمتاز بصدقها وجمالها وغزارتها الفكرية، إذ تحمل بيئتها بساطة الناس وعمق الحياة تلك التجربة كما في مسلسل الجمالية كما يقول، شجعتهم على العودة إلى القرى لتصوير أعمالهم القادمة، بعد النجاح الكبير الذي وجدوه في مناطق مثل الحجرية، حيث التقت الكاميرا بوجوه الناس ودفء المكان.

هكذا تبدو الدراما اليمنية اليوم، واقفة على تخوم التحول بين الريف والمدينة، بين الضرورة الفنية والهوية الثقافية. وفي زمن تتبدل فيه الملامح وتضيق المساحات، يظل الريف نافذة للإبداع ومأوى للجمال، ربما لا يمتلك صناع الدراما كل الإمكانيات لكنهم يملكون ما هو أثمن (إيمانهم بأن الضوء يمكن أن يولد من التراب وأن اليمن مهما أرهقها الخراب ما زالت قادرة أن تروي نفسها بصوتها الحقيقي).


* تم إنتاج هذه المادة من قبل منصة ريف اليمن ضمن مشروع سينما الأربعاء بالشراكة مع بيت الصحافة ومؤسسة أرنيادا للتنمية الثقافية.

شارك الموضوع عبر:

الكاتب

    مواضيع مقترحة: