في زوايا الأسواق القديمة بمناطق تهامة اليمنية، وبين أنامل بعض الحرفيين القلائل، لا تزال “الحَظْوة” -وهي نوع من الحياكة اليدوية- تحاول البقاء والنجاة من طوفان الحداثة التي تسبب بانقراض المهن التقليدية والموروث الثقافي.
هذه الحرفة التراثية التي برزت في فترات زمنية معينة في أجزاء من تهامة والمناطق المجاورة لها، وكانت قديما مصدرا للفخر والرزق، أخذت في التراجع والانحسار حتى باتت مقتصرة على نطاق ضيق، بين الحياة والاندثار، ولا يعرفها الجيل الجديد إلا من حكايات الكبار.
ورغم تراجع شعبيتها أمام الحرف الحديثة، ما تزال الحظوة تشكل مصدر دخل لبعض الحرفيين حتى اليوم، على الرغم من قلة الطلب وضعف العائد المادي.
النشأة والتسمية
ويرى المهتم بالموروث الشعبي والحرف التقليدية “صالح ماهوب” أن التسمية تطورت من “حذوة الحوك”، وهي جزء يحاك يدويا على المئزر التقليدي (الحوك)، إلى “حَظْوة” بفعل اللهجة التهامية التي تميل إلى تفخيم الذال. ويضيف: “يزين المئزر برسوم وزخارف يدوية قد تشمل أسماء أو عبارات، مما يضفي عليه طابعا فنيا فريدا لا تضاهيه آلات النسيج الحديثة”.
مواضيع مقترحة
-
إحياء التراث الشعبي.. العودة للجذور اليمنية
-
الأبواب القديمة: حكاية الزمان والمكان
-
العُشة.. إرث ثقافي ورمز التراث الشعبي التهامي
لا توجد وثائق دقيقة تؤرخ متى بدأت مهنة “الحظوة”، إلا أن الصحفي “عبد العزيز البدوي” يشير إلى أن الحياكة من أقدم الحرف التي عرفها اليمنيون منذ آلاف السنين، إذ امتلك اليمنيون القدماء معرفة متقدمة في صناعة النسيج.
بينما يرى الباحث “صالح دبأ”، أن هذه الحرفة ازدهرت في مناطق مثل بيت الفقيه، الدريهمي، وحي الحوك في الحديدة، خصوصا خلال المخلاف السليماني أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، وانتشرت لاحقا إلى مناطق حجور وغيرها.

الأدوات ومراحل الأداء
تعتمد مهنة الحظوة على أدوات أساسية، أبرزها الخيوط الملونة (الشِرْعَة) والأوراق الكرتونية، والميجاح وهو أداة خشبية ذات مقبض ومدببة تشبه السكين، تُستخدم لرتق الخيوط وتثبيتها، وقد تختلف تسميتها حسب المنطقة.
يتطلب أداء الحظوة مجهودا يدويا شاقا، يبدأ بـ”التهذيب” وهو تشذيب أطراف المئزر من الجانبين بمقدار يتراوح بين 10 إلى 18 سم، وغالبا ما تقوم النساء بهذه الخطوة في منازلهن، وتشكل لهن مصدر دخل بسيط.
عبد العزيز البدوي: الحياكة من أقدم الحرف التي عرفها اليمنيون منذ آلاف السنين، إذ امتلك اليمنيون القدماء معرفة متقدمة في صناعة النسيج
بعد ذلك، يواصل الحاظي بقية المراحل، بدءاً من تجهيز الشرعة وربطها بالكرسي الخشبي، وحتى الانتهاء من نقش الحظوة، وهي عملية تستغرق قرابة 45 دقيقة، تزيد أو تنقص حسب مهارة العامل.
تصنع بعض الحظيّات بعناية خاصة لتلائم أذواق المسؤولين أو تلبية طلبات خارجية، وتتميز هذه القطع بجودة عالية من حيث تنسيق الألوان، ودقة النقش، ومتانة الخيوط. ويتم نقش اسم الشخص عليها، أو الشعار، وهذا النوع يحتاج ترتيبا خاصا عند عمل “الشرعة” لكي يظهر الاسم أو الشعار بشكل ملفت ومتفرد.
ويتراوح أجر هذا النوع من المحاظي بين 7 -10 آلاف (19 دولارا)، حسب “سمير محمد حسن”، أحد مزاولي المهنة، بينما لا يزيد أجر المحاظي العادية عن 3 آلاف، (حوالي 6 دولارات).

خفوت وتراجع
يرى سمير محمد حسن أن الحرفة شهدت تراجعا حادا في الطلب، قائلاً: “انحسر أداؤها لفئة قليلة بعد أن كانت واسعة الانتشار، بسبب تنوّع الأقمشة الحديثة، وتغيُّر الذوق العام”.
ويضيف: “لم نعد نتلقى طلبات كما في السابق”. وهذا ما يؤكده “سالم عبد الله”، أحد زبائن المحاظي سابقا، ويضيف عليه: “توقفت عن لبس المحاظي منذ ظهور الموضات الحديثة المتنوعة؛ كالأثواب، والمعاوز اللحجي”.
ويؤكد أن “لكل زمن موضات تناسبه، كما أن عدم تحديث المنتج وتطويره ليتماشى مع تحديثات الموضة ساهم بشدة في هجرها، والتوجه نحو ارتداء ملبوسات فيها الكثير من التجديد”.
تباع المحاظي في الأسواق المحلية بتهامة والمناطق المجاورة، وتصل إلى جيزان وأبو عريش في السعودية عبر مسوّقين، وإن كان ذلك أقل بكثير من ذي قبل.
“عدم تحديث المنتج وتطويره ليتماشى مع تحديثات الموضة ساهم بشدة في هجرها، والتوجه نحو ارتداء ملبوسات فيها الكثير من التجديد”.
ويقول “حسن يتيم”، تاجر أقمشة متنقل في الأسواق المحلية ساخرا: “زبائننا ماتوا”، في إشارة إلى أن الجيل الجديد لم يعد يُقبل على هذه المنتجات التراثية، وهو ما يؤكده “يحيى محمد”، بائع سابق للمحاظي في أسواق جيزان، بقوله: “توقفت عن البيع عندما توقف الطلب”. لكن صالح دبأ يشير إلى أن سوق المحاظي ما يزال قائما، وإن كان محدودا؛ حيث يحرص كبار السن ممن اعتادوا ارتداءها منذ الصغر على اقتنائها حتى اليوم.
مفاتيح للبقاء
ويرى الدكتور “حامد إبراهيم”، باحث في الموروث الشعبي، أن الحفاظ على الحظوة مسؤولية ثقافية واقتصادية مشتركة، تبدأ بالتوثيق الشامل للحرفة من خلال تصوير مراحل الإنتاج وتسجيل شهادات الحرفيين، وإنشاء أرشيف رقمي شامل.

ويشدد الدكتور حامد على أهمية تعليم هذه المهارات للأجيال الجديدة عبر المناهج أو المراكز التدريبية وورش العمل. أما “محمد شعيب”، أحد الحرفيين المخضرمين، فيؤكد أن دعم الحرفيين اقتصاديا هو مفتاح البقاء.
ويقترح شعيب تسهيل الحصول على التمويل الذي يحتاجونه، وفتح أسواق داخلية وخارجية، إضافة إلى مساعدتهم في تطوير التصاميم بما يلائم الذوق العصري، مع الحفاظ على الهوية التراثية.
كما يوصي شعيب بإدراج الحرفة ضمن الفعاليات السياحية، والترشح بها في قوائم التراث غير المادي لدى اليونسكو، إضافة إلى تسويقها إلكترونيا عبر المنصات الحديثة، وإنتاج محتوى مرئي يبرز قيمتها، وتشجيع بيعها عبر الإنترنت للوصول إلى جمهور أوسع.
ويأمل “سمير حسن” وغيره من مزاولي المهنة أن يكون هناك يوم خاص في العام، كيوم المشاقر والأغنية اليمنية -مثلا- يتم فيه إبراز المهنة، وتسليط أضواء الإعلام عليها في محاولة لإعادتها للواجهة.