الجوف موطن مملكة معين: حين كانت اليمن تصدر الحضارة

أعلنت اليونسكو إدارج مدن مملكة معين القديمة في القائمة التمهيدية للتراث العالمي

الجوف موطن مملكة معين: حين كانت اليمن تصدر الحضارة

أعلنت اليونسكو إدارج مدن مملكة معين القديمة في القائمة التمهيدية للتراث العالمي

تُعَدّ الجوف من أبرز محافظات اليمن الغنية بالآثار التاريخية، وفي الذاكرة الثقافية اليمنية يقترن اسمها بمدن ومعالم مملكة معين القديمة التي ازدهرت على ضفاف الأودية الخصبة، وخلّفت تراثا معماريّا ودينيّا وفنيّا فريدا.

وبرغم هذا الثراء ماتزال المحافظة خارطة الاستثمار السياحي المنظم؛ فالبنية التحتية الخدمية محدودة، والبرامج السياحية المركّزة تكاد تغيب، والمواقع الأثرية بحاجة ماسّة إلى حفريات علمية منهجية وترميم شامل يليق بمكانتها وأصالتها، والأهم من ذلك ماذا نعرف عن “معالم مملكة معين”.

الجوف ليست مجرد جغرافيا مفتوحة على السهل والصحراء والجبل، بل كانت ممرّاً تاريخياً وطريقاً للحجاج والتجّار، ومسرح تحالفاتٍ وصراعاتٍ بين ممالك اليمن القديم، وأرضاً تُزرع فيها الحبوب والفاكهة على ضفاف الأودية، وسماءً كانت تُرى فيها النجوم هادئة في رحلة القوافل، وطقوس عبادةٍ فلكيةٍ صاغت جزءا عميقا من الضمير الحضاري القديم.

وفي يوليو 2025 أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، إدراج مدن ومعالم مملكة معين القديمة ضمن 30 موقعاً ثقافيا وطبيعيا في القائمة التمهيدية للتراث العالمي بانتظار اعتمادها رسمياً إلى الخمسة المواقع السابقة المعتمدة.


      مواضيع مقترحة

أين تقع الجوف؟

تقع محافظة الجوف شمال شرق العاصمة صنعاء (142 كيلو متراً) في الظروف العادية يعد الوصول إليها عبر الطريق الأسفلتي الذاهب إلى مأرب، ويبدأ المسار من نقيل فرضة نهم حيث ينفتح المشهد على سهلٍ فسيح، ثم يظهر مفرق الجوف إلى اليسار مارّا عبر براقش والروض والسلمات وصولا إلى مدينة الحزم؛ المركز الإداري للمحافظة.

وترتبط المحافظة بطرق مختصرة غير معبّدة، من أبرزها الطريق الذي يبدأ من صنعاء – بني الحارث -وادي سنوان – الجوف، وهي مسالك تقليدية عرفت نشاطا أهليا متقطعا وتحتاج إلى تحسينات لتعزيز الأمان وسهولة الحركة، وهناك طرق أخرى غير معبدة تربطها بمحافظات يمنية أخرى.

أهمية الجوف الجيوستراتيجية لا تتبدّى فقط في كونها بوابة تواصل بين وسط اليمن وشمال الجزيرة العربية، بل محطة رئيسية على خطوط القوافل القديمة، ومُلتقى طرق بين مأرب شرقا وصعدة غربا ونجران شمالا وحضرموت بعيدا في الشرق عبر الامتدادات الصحراوية، هذه الشبكة التاريخية جعلت منها قديماً ساحة تفاعلٍ تجاري وثقافي، ومخزنا للخبرة العملية في إدارة الموارد المائية والزراعية وتبادل السلع والمعرفة والرموز الدينية.

الجوف موطن مملكة معين: حين كانت اليمن تصدر الحضارة
منازل مبنية من الطين في منطقة وادي خب بمحافظة الجوف شمالي اليمن، 2025 (فيسبوك)

معين.. حضارة النهر والنجمة

على ضفاف وادي جوف المعينيين تشكّلت مملكة معين التي عاصرت مملكة سبأ وازدهرت معها، ولا يُمكن الحديث عن الجوف دون استحضار المدن التي شيّدها المعينيون، والمعابد التي زخرفوها، والسدود والقنوات التي حفروها لتروي أراضيهم وتؤمّن غذاءهم. كانت ديانتهم، شأن أغلب ممالك اليمن القديم، ديانة فلكية تستقرئ حركة النجوم والكواكب، وتنسج من مسامات السماء نظاما رمزيّا وأخلاقيّا يعكس رؤية الإنسان اليمني للعالم العلوي.

تجلّت وحدة التطور الثقافي في أبجدية خط المسند ولغة العرب الجنوبية (السبئية والمعينية والقتبانية والحميرية بتفرعاتها)، ما أتاح تواصلا سلسا بين مراكز الممالك، وساعد على تماثلٍ نسبي في نظم الحكم وتحالفاته وصراعاته تبعا لتغيّر المصالح، فإن ما يميزها حقّا هو روح المبادرة التجارية والتوسع شمالا خارج الجغرافيا المباشرة للمملكة.

أسّس المعينيون مستوطنات على طريق اللبان التجاري في مواقع استراتيجية مثل الفاو (على درب نجران- البحرين) ودادان (بين يثرب والبتراء)، وترددت أصداء أسمائهم في سجلات حضارات العالم القديم بوصفهم وسطاء تجاريين مهرة. وعُثر على نقوشٍ مسندية لهم في مصر وغزة وأنطاكيا وجزيرة ديلوس اليونانية، دلالة على عمق التأثر المتبادل بفنون الشرق القديم واليونان والرومان. وقد عاد هذا الانفتاح بمنجزاتٍ ملموسة في العمارة المعينية: تخطيطٌ محكم، وزخارفٌ غنية، وذوق رفيع يطبع المعبد والبيت والسور والزخارف بطابعٍ فنيٍّ متفرّد.

كما تميّزت معين بتوثيق معاهداتها التجارية، وذكرَتْها التشريعات القتبانية ومنحتها امتيازات، رغم أنها لم تدخل الحلف العسكري-السياسي الثلاثي (السبئي الحضرمي القتباني) ضد أوسان. وبالمقابل عرف تاريخها حملاتٍ سبئية لإخضاع بعض مدنها، أشهرها حملة المكرب كرب إيل وتار التي خُلّدت تفاصيلها في نقش النصر.

الجوف موطن مملكة معين: حين كانت اليمن تصدر الحضارة
البيوت الطينية في محافظة الجوف 2024 (خالد الثور)

ومثل غيرها من الممالك الشرقية في اليمن، واجهت معين عوامل الأفول، وفي مقدمتها تحوّل طرق التجارة من البر إلى البحر؛ إذ تراجعت مركزية محطات القوافل البرية مع صعود خطوط الملاحة البحرية، ما أحدث تبدّلات اقتصادية واجتماعية قلّصت من أدوار تلك المرافئ البرية تدريجيا.

تنوع بين الجبل والوادي والصحراء

تجمع الجوف بين الجبال والسهول والأودية والأراضي الصحراوية وشبه الصحراوية في لوحةٍ جغرافية بديعة. إداريّا، تتكون المحافظة من ١٢ مديرية، وتمتد على مساحة إجمالية تقارب ٣٩,٤٩٦ كم². وتعد مديرية خب والشعف الأكبر مساحة تصل إلى ٨٢.٣٪، إذ تلامس حدود زمخ ومنوخ في حضرموت شرقا وحدود نجران السعودية شمالا، فيما تتوزع ١٧.٧٪ من المساحة على ١١ مديرية أخرى، وهو اختلال ينعكس على فرص التنمية وتوزيع الخدمات.

المناخ في الجوف شبه جاف إلى جاف في معظم الأنحاء، تتخلله مناطق وأدوية أكثر اعتدالا بفعل الرطوبة الموسمية، وتراكم التربة الرسوبية الغنية التي تجلبها السيول من مرتفعات صنعاء وعمران وصعدة. هنا ترقد سرّ الخصب الزراعي الذي جعل من ضفاف الأودية حقولا مُنتجة للحبوب والخضروات والفاكهة والأعلاف.

يعتمد غالبية سكان الجوف على الزراعة وتربية الحيوانات، وتتوزع التجمعات البشرية على ضفاف الأودية الكبرى، وفي مقدمتها وادي الخارد (جوف المعينيين) بطولٍ يقارب ٦٠ كم وعرضٍ بنحو ٣٠ مترا، يليه وادي مذاب ووادي العولة. تُعدّ هذه الأودية بمثابة خزانات تربة؛ فكل سيلٍ يهبط من الجبال يحمِل معه مواد طميٍ ومعادنَ دقيقة تُخصب الأرض وتجدّد دورتها الحيوية.

وحول هذا الاقتصاد الزراعي ينشأ نمط حياةٍ ريفي متوازن: بيوتٌ طينية أو حجرية متواضعة، مخازن للحبوب، حيازات صغيرة وأخرى متوسطة، ومراعي للإبل والأبقار والأغنام. ويُرفَد هذا النمط بنشاطٍ تجاري محلي عبر أسواق يومية وأسبوعية، أبرزها سوق مدينة الحزم الذي يخدم المديريات المحيطة.

مدينة الحزم

الحزم هي العاصمة الإدارية ومركز المحافظة التجاري لكن البنية التحتية السياحية لا تزال محدودة وغالبية الشوارع غير معبدة، ولا يوجد منشآت فندقية مناسبة، والمعلومات الإرشادية السياحية نادرة، والطرق التي تربط المدينة بالمعالم الأثرية مازلت غالبيتها رملية.

وعلى الرغم من المكانة الحضارية للجوف، فإن البرامج السياحية المنظمة خلال العقود الماضية قبل اندلاع الصراع في البلاد، لم تُدمج مدينة الحزم ومحيطها في مساراتها، وظلت بعض الزيارات تقتصر على مواقع تقع ضمن مخططات زيارة مأرب مثل مدينة براقش (يثل) بحكم التبعية الإدارية لمديرية مجزر.

وما تزال قرناو (عاصمة مملكة معين) والمواقع الأثرية التي تحيط بها مطمورة تحت الأنقاض، أو مكشوفة جزئيا على نحوٍ لا يليق بعرضها للزوار أو السائحين، وتعرّضت المواقع لعمليات حفرٍ عشوائي ونهبٍ وتهريب، ويُعتقد أن كثيرا مما يُعرض في مزادات التحف الدولية يعود في أصله إلى مواقع الحضارة المعينية في الجوف، وكل ذلك يستدعي خطة إنقاذ متكاملة: حفريات علمية، ترميم، أسوار حماية، مسارات زيارة، لوحات تعريف، ومراكز استقبال.

عواصم ومعابد على طريق التاريخ

  • قرناو: حاضرة مملكة معين

على بعد ٧ كم شمال مدينة الحزم تقع أطلال قرناو، التي تذكرها النقوش بالاسم هجرن/قرنو وتعرف شعبيا بخربة معين، زارها المستشرق الفرنسي جوزيف هاليفي عام ١٨٦٩م، فنسخ نقوشها ووصف ما بدا له من أناقة عمارتها وزخارفها.

اليوم معظم مكوّنات المدينة الذي يتم الوصول إليها عبر طريقٍ ترابي، مطمور بالكثبان الرملية والأنقاض، لا يظهر منه إلا أجزاء من السور والبوابة الغربية والبوابة الشرقية ببعض تفاصيلهما الفنية، وجدرانٌ عليها نقوش مسندية، وأعمدة متناثرة، وبقايا معبدٍ إلى الشمال.

وتجري جهود لإدراج آثار الجوف ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي، وهي خطوة مهمة لكنها لا تُغني عن الواجب الوطني المباشر بحفريات لإنقاذ الموقع التاريخي، توثيق ثلاثي الأبعاد، ترميم علمي، وتصميم عرضٍ متحفي موقعي يليق بمدينةٍ كانت رمزا لذائقة معماريّة عالية قبل ٣٥٠٠ عام.

الجوف موطن مملكة معين: حين كانت اليمن تصدر الحضارة
تظهر الصورة معبداً لمملكة معين في منطقة “قرناو” عثر عليه تحت منزل أحد المواطنين عام 2021 (وسائل التواصل)
  • مدينة هَرَم

تقع جنوب غرب الحزم بنحو 1.5 كم، وتظهر في نقش النصر حين أخضعها المكرب السبئي كرب إيل وتار في القرن السابع قبل الميلاد. تُعرف شعبيا بـ “الخربة” أو “خربة همدان”، وأُقيمت مبانٍ طينية على بعض أطلالها، وشرق المدينة تبرز بقايا أطلال معبدٍ كبير لا تزال أعمدته تحمل نقوشا وزخارف تُذكّر بزخارف معبد عثتر “ذو رصفم”.

  • مدينة كَمْنَهُو

إلى الغرب من الحزم بنحو ٩ كيلو مترات، وعلى بعد كيلو متر جنوب وادي مذاب، ترتفع كمنهو عن مجرى السيل الكبير في الجوف. وكشفت البعثة الأثرية الفرنسية عام ١٩٨١م أنها كانت مستطيلة من الشمال والجنوب بما يقارب ٤٩٠ مترا، وتحيط بها أسوار منيعة لا يزال جزء منها قائما من الجهات الأربع، وطُمرت بواباتها وأبراجها الدفاعية مع الزمن، لكن تظهر داخل السور خرائب وجدرانٌ مهدّمة. وخارج السور، شرقا، كما في تقاليد مدن معين، كان يقوم المعبد الرئيس.

  • معبد النصيب

يقع شرق كمنهو بمسافة كيلو متر على مرتفعٍ صغير، ويتكوّن من منشأتين متلاصقتين متساويتين، تتقدمهما أروقة مكشوفة مبنية بأحجارٍ مهندمة متقنة، وتقوم عند المدخل عتبةٌ منقوشة بزخارف تشبه ما على عمودي مدخل معبد عثتر ذو رصفم في نشن. تُشير نقوشٌ عُثر عليها إلى أن المعبد مكرّس للإله “ذو”، الإله الرئيس في مدينة كمنهو ضمن مجمع رموز العبادة المعينية.

  • نَشَن “خربة السوداء”

إلى الغرب من الحزم بنحو ١٤ كيلو متراً تمتد أطلال نشن (خربة السوداء)، ثاني أكبر مدن معين بعد قرناو، تتحدث المصادر عن تمرّدين للمدينة على السلطة السبئية، انتهيا بحملة تأديبية لأنصار المكرب كرب إيل وتار، اليوم ترتفع الأنقاض إلى ١٠ أمتار في بعض المواضع، مع بقايا أسوار وأعمدة وصخورٍ منقوشة تنتظر الحفريات.

  • معبد عثتر “ذو رصفم”

شرق نشن بمسافة قصيرة يقع معبد عثتر ذو رصفم الذي يعرفه الناس باسم معبد بنات عاد بسبب الزخارف الجميلة بصور فتياتٍ يحملن جرارا أو عصيا، هذا المعبد شاهدٌ معماريٌّ فريد على الرقي الفني المعيني، وقد كشفت عنه البعثة الفرنسية وأعادت ترميمه في فترة وجيزة بين ديسمبر ١٩٨٨م ومارس ١٩٨٩م بالتعاون مع الهيئة العامة للآثار.

الجوف موطن مملكة معين: حين كانت اليمن تصدر الحضارة
معبد الإله عَثْتَر في الجوف

ويبلغ طول المعبد نحو ١٥.٥ متر وعرضه ١٤.١ متر، ويتألّف من مدخل وفناء وأروقة ومنصة ومقصورة، مع نقوش زخرفية تُشير إلى طقوس عبادة الإله عثتر (نجمة الصبح/الزهرة) المعبود الرسمي لمملكة معين. وتعرّض المعبد عبر الزمن إلى هدمٍ وإعادة بناء وتوسعة، وصيغته الراهنة تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد على الأرجح.

  • نَشَق “خربة البيضاء”

على بعد ٢٠ كيلو متراً غرب الحزم تقع نشق (خربة البيضاء)، بعد إخضاعها لسلطة سبأ شُيّد فيها معبدٌ للمقه (الإله الرسمي لسبأ) إلى جانب معبد عثتر، في تعبيرٍ عن تجاور رمزي بين مرجعيتين دينيّتين في موقعٍ واحد. ما يظهر اليوم أسوارٌ منهدمة وأعمدة وصخورٌ منقوشة متناثرة.

  • جبل اللوذ “الجبل المقدّس”

عند الطرف الشمالي لسلسلة الجبال التي تحدّ منخفض الجوف من الشمال، يبرز جبل اللوذ (سُمّي قديما كورن)، بارتفاعٍ يقارب ١٢٠٠ متر عن محيطه، وفي قمّته موضعٌ يُسمى “ترح” كانت تُشعل فيه النار المقدسة تكريما للإله عثتر، وهي شعيرة ملكية مقصورةٌ على الملك، فيما كانت المواكب الدينية تصعد عبر طريقٍ مرصوفٍ بالأحجار بطول ٧ كم يربط منشآت السفح بالقمة.

تنتشر على الجبل نقوشٌ مسندية وثّق بعضها الباحث كريستيان روبن (١٩٨٢م) تتناول طقوس التنصيب والمواكب، وتدلّ بقايا القاعات والمقاعد الحجرية على مآدب شعائرية كانت تُقام “لآلهة الجبل”، يكتسب الموقع فرادة في اليمن القديم من حيث شمول طقوسه لعهود المكربين والملوك، وحاجته اليوم ماسّة إلى دراسةٍ ميدانية شاملة وحفريات متكاملة.

  • وادي الشظيف وقبيلة أمير

بين خب والشعف والمطمة يمتد وادي الشظيف، وهو وادٍ عريض ذو ضفافٍ رحبة تُحيط به جبالٌ منخفضة، وفي تسعينات القرن الماضي بدأت قصة الاهتمام العلمي به حين قدّم الأهالي كمية كبيرة من النقوش البرونزية للمؤرخ الراحل محمد عبد القادر بافقيه (1928-2002) حيي كان رئيساً الهيئة العامة للآثار، وأدرك قيمتها ونقلها إلى المتحف الوطني بصنعاء لتصبح مادة أولى للدراسة والتوثيق.

الجوف موطن مملكة معين: حين كانت اليمن تصدر الحضارة
المؤرخ محمد بافقيه بمنطقة “لباخ” إحدى قرى مديرية قارة بمحافظة حجة عام 1989 (كرستيان روبان)

وشكّلت لجنةٌ علمية برئاسة الدكتور أحمد بن أحمد باطايع لتنفيذ مسوحاتٍ ميدانية في أنحاء الوادي، وأظهرت النتائج أن الوادي صار موطنا لقبيلة أمير بعد انتقالها من هرم، وأنه كان موطناً لمعبد مهم يُعرف باسم “يغرو” لعبادة الإله ذو سماوي.

وتُشير النقوش إلى أن قبيلة أمير كانت حلقة وصلٍ تجارية على درب محطات الطريق بين اليمن وشمال الجزيرة وبلاد الرافدين ومصر واليونان، فأخذت وأعطت من الثقافة والفكر الديني، وكانت فاعلا في التحالفات السياسية بين ممالك اليمن القديم.

تكشف النقوش اليمنية القديمة عن أدوار مركّبة للقبائل في نشأة الممالك وتبدّل موازين القوى. من بين هذه القبائل تبرز أمير بوصفها جماعة تجارية تمتلك قوافل من الجمال، تُجهّزها بالبضائع، وتؤمّن خطوط الإمداد والخدمات على الدروب، وتدير مستوطناتٍ خارجية لها معابدها وجالياتها.

ومع تحوّل التجارة إلى البحر، تكيّفت أمير مع الواقع الجديد، وأقامت جالية في جبأة والسواء (في نطاق تعز والمعافر)، واستفادت من ميناء موزع الذي كان ثاني موانئ اليمن أهمية بعد عدن، فاستمرت قوافلها في النقل بين محطاتها الداخلية ومراكزها الخارجية، واتسع نطاق تأثير إلهها ذو سماوي.

  • مدينة حنان

على ضفة وادي الشظيف تمتد أطلال مدينة حنان التي احتضنت معبد يغرو المخصص للإله ذو سماوي، ومعه معبدٌ للإلهة الشمس التي ترمز لها النقوش بـ “ذات حميم” و”ذات بعدان”، ويُمثّلها على الصخر النسر السبئي رمز الرفعة والعلو. المدينة اليوم خرائب تحت الأنقاض؛ لكنها تحتفظ بقدرةٍ فريدة على سرد تاريخٍ ديني متحوّل حين تُستأنف الحفريات.

  • معبد يغرو

يقع المعبد على سفح جبلٍ يطلّ على الوادي، ويختلف عن غيره بطقسٍ أخلاقي-ديني لافت: يأتيه المتعبدون ليُقرّوا علانية بخطاياهم، سواء ما تعلّق بالعلاقات الاجتماعية المحرّمة، أو المعاملات التجارية مثل الغش ومغالطة الكيل، ثم يطلبون العفو ويتقدّمون بالنذور والقرابين.

ووثّقت النقوش تلك الاعترافات وأماكن وقوعها وتعهدات عدم التكرار؛ ما يعكس تطوّرا في فكرة الضمير وارتباط العبادة بالسلوك اليومي، وكأنهم كانوا يؤمنون بأن إله السماء والأرض يعلم ما يُخفون وما يُعلنون، هذه الشعائر موجود في “المسيحية” وتسمى “الاعتراف” وهو أحد الأسرار السبعة المقدسة، وفيه يعترف المسيحي بخطاياه للكاهن، الذي يمنحه حلول المغفرة والإرشاد الروحي “نيابة عن الله”، بحسب معتقداتهم.

الجوف العالي: عمارة الزابور وطبقات المجتمع

تضم برط العنان وخراب المراشي ورجوزة، وتتقاسم جغرافية جبل برط جزءاً من سلسلة جبال الظهرة، وهو معقل قبيلتي ذو محمد وذو حسين الدهميتين، ومن هنا تبلورت في مسار التاريخ الاجتماعي طبقة تعرف بـ “الأذواء” (النبلاء أو أصحاب النفوذ)، ومع اتساع الملكيات الزراعية وارتفاع الإنتاج نشأت طبقة الأقيال (الإقطاعيون الزراعيون) التي انتقلت إلى القيعان الخصبة مثل قاع الحقل، واتسعت صلاتها بمناطق جبلة ومذيخرة وذي السفال في إب.

تجمع قرى الجوف العالي بين الجبل والهضبة والوادي، وتعرض نمطا معماريا فريدا قوامه الزابور الطيني حتى مع توافر الحجر في الجبل، ترتفع المنازل عدّة طوابق بزخارف جصية وألوانٍ حمراء وصفراء يتخللها الجص الأبيض، ويزدان المشهد في المراشي ورجوزة وسوق العنان حيث تتجاور البيوت ذات الحزام الزخرفي العلوي، في تكوينٍ بصريٍّ تقليدي ساحر.

  • منطقة المساجد

جنوب غرب الحزم بنحو ٢٥ كم تمتد منطقة المساجد التي تضم مواقع أثرية متقاربة لم تُجر فيها حتى الآن دراسات أو مسوحات علمية كافية، وتتشابه في خصائصها مع مواقع القارة المجاورة. ومن أبرزها مدينة حزم الثور في أعالي وادي الخارد.

وكشفت السيول جزءا من معالمها مؤخرا، وهذا يشير إلى أن محافظة الجوف أرض بكر تخفي تحت الرمال كنوزا أثرية تحتاج إلى حفريات متكاملة وترميمٍ شامل يعيد رسم تاريخ المنطقة واكتشاف الكثير من أسرارها المطمورة تحت الرمال.

  • السلمات

على الطريق الأسفلتي بين مفرق الجوف- مأرب وعلى بعد ١٠ كيلو مترات من مدينة الحزم تقع قرية السلمات كأنها متحفٌ مفتوح لحياةٍ رعويةٍ آخذةٍ في الاستقرار، وفي كل منزل مرافقُ تقليدية مثل مخازن للحطب وأماكن لإيواء الحيوانات وفي مقدمتها الإبل.

تتكوّن البيوت من طينٍ ممزوجٍ بالتبن، وتتّخذ تخطيطا هرميّا؛ تتسع القاعدة وتضيق كلما ارتفع البناء حتى أربعة طوابق، ثم وفي قمتها إطار زخرفي جميل يدلّ على ذوقٍ معماري توارثه البنّاء اليمني عبر الأجيال.

ماهي الإمكانيات السياحية في الجوف؟

في الواقع يمكن أن تكون محافظة الجوف جزءاً من منظومة وطنية للسياحة البيئية والثقافية، برغم محدودية البنية الخدمية، تملك الجوف مقوماتٍ سياحية متنوعة يمكن إيجازها كالتالي:

  • سياحة أثرية ثقافية: مسارات متدرجة تربط قرناو – نشن – نشق – معبد عثتر- كمنهو – النصيب مع جبل اللوذ ووادي الشظيف وحنان ومعبد يغرو.
  • سياحة وديان وزراعة: تجارب ريفية على ضفاف الخارد ومذاب والعولة، مع إبراز تقاليد الزراعة والري ومواسم الحصاد.
  • سياحة جبلية: زيارات موجهة إلى برط والقرى ذات العمارة الطينية عالية الطوابق، مع مسارات مشي قصيرة ومتوسطة، واحترام خصوصية السكان.
  • سياحة صحراوية: رحلات قصيرة مدروسة في الأطراف الرملية، بمرافقة أدلّاء محليين وتجهيزات أمان.

ولتحويل الإمكانات الكبيرة إلى منتجٍ سياحيٍّ يكون ضمن مشروع تنموي اقتصادي تحتاج محافظة الجوف إلى العمل على توصيات مهمة يمكن أن تحدث فرق في المستقبل، وهذه أقدمها توصيات كالتالي:

  • حفريات علمية متواصلة وتوثيق رقمي للمكتشفات.
  • ترميم عاجل للمواقع المكشوفة، خصوصا البوابات والأسوار والزخارف المنحوتة.
  • مركز زائرين في الحزم: خرائط، مرشدون محليون، قاعة عرض مصغّرة لصور ونماذج، ومكتبة مصادَر.
  • لوحات تعريفية ثنائية اللغة في كل موقع، ومسارات محددة مع نقاط ظلّ واستراحات خفيفة.
  • حماية قانونية مشددة ومراقبة للمواقع للحد من النبش العشوائي وتهريب القطع.
  • تمكين المجتمع المحلي عبر التدريب على الإرشاد، والحرف التقليدية، وتطوير بيوت ضيافة ريفية صغيرة.
  • شراكات أكاديمية مع بعثات محلية ودولية لاستكمال البحث والنشر.

خاتمة

الجوف كتابٌ مفتوح على عصورٍ من الإبداع الإنساني؛ من قرناو العاصمة المعينية إلى نشن ونشق وكمنهو والنصيب، ثم جبل اللوذ بموكبه الشعائري وطريقه المرصوف، ووادي الشظيف بنقوش الاعتراف ومدينة حنان ومعبد يغرو، وصولا إلى برط وقراه العالية والسلمات بطينها الهرمي.

إنّ ما يتبدّى لنا اليوم ليس سوى الطبقة الأولى من الحقيقة؛ أما الحقيقة الكاملة فتنتظر حفّارا عالما، ومرمما صبورا، ومؤسسة راعية، ومجتمعا شريكا يرى في التراث ثروة لا تُقدَّر بثمن.

ولكي تستعيد الجوف مكانتها اللائقة على خارطة التراث الإنساني العالمي والسياحة البيئية والثقافية، لا بد من رؤيةٍ تكاملية تجمع بين العلم والإدارة الذكية ومصالح الناس، فالمواقع لا تحيا بالنوايا الحسنة وحدها، بل بخطط تحفظ الحجر والإنسان معا.


المراجع
– بافقيه، محمد عبد القادر. الرحبة وصنعاء في استراتيجية بناء الدولة السبئية. مركز الدراسات والبحوث اليمني – صنعاء، 1993م.
– بريتون، جان فرانسوا. تقرير أولي عن معبد عثتر ذو رصفم (السوداء – الجوف). مجلة دراسات يمنية، العدد 38، مركز الدراسات والبحوث اليمني – صنعاء، 1989م.
– فخري، أحمد. رحلة أثرية إلى اليمن. ترجمة هنري رياض ود. يوسف محمد عبد الله، وزارة الإعلام والثقافة – صنعاء، 1988م.
– تقرير البعثة الأثرية الفرنسية لدراسة آثار الجوف – المرحلة الرابعة، 1981م.
– باطايع، أحمد بن أحمد. المسح الأثري لوادي الشظيف، 1993م.
– الهيئة العامة للسياحة – نتائج المسح السياحي لمحافظة الجوف، صنعاء، 1997م.

شارك الموضوع عبر:

الكاتب

    مواضيع مقترحة: