إب موطن مملكة ذي ريدان: حين انتقل التاج من سبأ إلى ظفار

إب موطن مملكة ذي ريدان: حين انتقل التاج من سبأ إلى ظفار

تعرف محافظة إب في اليمن بأنها خضراء وصائدة للسحب، ووجهة للسياحة الريفية خلال موسم الأمطار؛ حيث تكون جبالها شديدة الخضرة وتتدفق الشلالات في كثير من المناطق، لكن الجانب الذي لا يعرف كثيراً هو المعالم التأريخية والأثرية العريقة فيها؛ حيث كان موطن مملكة “ذي ريدان” إحدى أبرز مراحل توحد الحِميريين.

جغرافياً نهلت من أعالي الهضبة نقاء الهواء، وتوسّطت بين السواحل والمرافئ والسهول الخصبة، وتأريخاً كانت عقدة مواصلات للتجارة والعبور، ومطمع نفوذ الممالك القديمة، ومركز ثقلٍ سياسي منذ تحوّل القرار إلى الملك ظفار في العصر الثاني من تاريخ اليمن القديم، حين تبدّلت مسارات التجارة وخرائط النفوذ.

وتقع إب جنوب صنعاء على بُعد حوالي 193 كيلومترًا، على الطريق الرئيسي المؤدي إلى تعز، وتشق وديانها العميقة طرق ضيقة ومنحدرة تصبّ في البحر الأحمر غرباً، وخليج عدن جنوباً، هذا الموقع الوسيط جعلها نقطة التقاء مهمة؛ حيث تتصل بموزع وعدن عبر الجند، ووادي بنا وصولًا إلى ظفار، كما ترتبط بالهضبة الشمالية عبر يريم وبعدان إلى طرق القوافل. ولهذا، ما تزال آثار السماسر (أماكن خدمة المسافرين)، والحصون والقلاع شاهدة على دور إب في حماية التجارة.


      مواضيع ذات صلة

نركز في ثلاثة مقالات على محافظة إب اليمنية، وتأريخيها العريق والمؤثر في اليمن قديماً؛ حيث مازالت الآثار تكشف عن جزء من مسار الحقب التأريخية التي مرت وتركت إرثاً حضارياً مازال يحتاج الى دراسة واهتمام، بالإضافة إلى أهمية المحافظة كونها وجهة للسياحة الريفية بطبيعتها الخلابة.

يسلط هذا المقال الضوء على تأريخ إب وتطوّر الحكم في اليمن قديماً، بدءًا من مملكة سبأ، ثم سبأ وذي ريدان، ويشرح كيف انتقل مركز السلطة من سلحين/مأرب إلى ظفار/ذي ريدان، مرورًا بعصر التبابعة، ثم فترة النفوذ الخارجي قبل الإسلام، ويستعرض أبرز المواقع التاريخية، وسيُخصص جزءٌ ثانٍ -ينشر لاحقًا- لسرد تفصيلي عن جبلة وإب القديمة ومعالمهما.

تأريخ إب: من مأرب إلى ظفار

انتهى العصر الأول من تاريخ اليمن القديم قرابة عام 115 قبل الميلاد، وكانت سبأ عمود الكيان السياسي والاقتصادي، ومأرب عاصمة المراسيم في معبد الإله إلمقه، ومع تحوّل طريق اللبان من البرّ في المشرق إلى خطوط الملاحة البحرية، تراجعت أهمية مدن الأودية الشرقية، بينما ازدهرت مدن الموانئ والمناطق المرتفعة الواقعة على الطريق التجاري الجديد.

هنا ظهرت ظفار في إب باعتبارها مركزا سياسيا ينقل إليه “قصر ذي ريدان” الذي كان رمزا للسيادة والسلطة، وتغيّر اللقب الملكي من “ملك سبأ” إلى “ملك سبأ وذي ريدان”، في تعبير يعكس استمرار الدولة، وقدرتها على التكيّف مع التحولات الاقتصادية الجديدة.

بقايا حصن ظفار في يريم بمحافظة إب وسط اليمن

تتوافق هذه التحولات مع ما ورد في النقوش المسندية، حيث تُنسب السلالة الحاكمة إلى حمير، ويُعتمد لقب رسمي جديد هو “ملوك سبأ وذي ريدان”. في هذه المرحلة التأريخية تبرز مدينة ظفار كعاصمة فعلية للدولة، تتولى إدارة الموارد وربط المناطق الجغرافية، وتؤدي دورًا مهمًا في حماية الطريق التجاري الجديد الذي يربط بين الهضبة والساحل والداخل.

في القرن الثالث الميلادي، برز الملك شمر يهرعش (حوالي 275م) كمؤسس لفكرة “الدولة المركزية” في اليمن، حيث عمل على توحيد المناطق المختلفة، وإنهاء الصراعات الداخلية المدعومة بالتدخلات الخارجية. كما وسّع اللقب الملكي ليصبح “ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت”، في خطوة تعكس توسع الدولة سياسيًا وجغرافيًا. وبعده جاء الملك أبو كرب أسعد، المعروف بأسعد الكامل، ليعزز شبكة المصالح، ويؤمّن الطرق التجارية، ويوازن بين نفوذ الإمبراطوريتين الكبيرتين آنذاك: الروم والفرس.

وكان اليمن هدفًا استراتيجيًا تتنافس عليه القوى الكبرى، مما وضع التبابعة في قلب الصراعات، ومنح مدينة إب دورًا مركزيًا في إدارة شؤون الدولة بفضل موقعها في الهضبة على أطراف شبكة الأودية، إذ أصبحت مركزًا لتنظيم مياه الأمطار، والري، والتخزين، والطرق، وتحولت جغرافيتها إلى أداة سياسية فعالة.

عندما ضعفت الدولة، دخلت جيوش الحبشة اليمن عام 525م بدعم من الإمبراطورية البيزنطية، ثم جاء كسرى الثاني عام 598م وأطاح بالحكم الحبشي وعيّن واليًا فارسيًا، وبين هاتين القوتين عاش اليمنيون فترة من الألم والمعاناة استمرت حتى دخول الإسلام وبدأ تأريخ جديد، واستعادت مدينة إب مكانتها العلمية والدينية، من خلال شبكة من المساجد والمدارس والطرق التي نشرت العلم والفقه في مختلف المناطق.

المناطق التأريخية القديمة

إب ليست مجرد محافظة في التقسم الإداري الحديث، بل كتاب مفتوح لعصور متعاقبة، من ظفار التي مثّلت عنوان السيادة ومركز السلطة، إلى منكث حيث يقترن الماء بالحكمة، وتتكامل الطبيعة مع المعمار، وفي بيت الأشول، تتحول واجهات البيوت إلى نصوص مسندية تنطق بتاريخ العاصمة القديمة.

في يريم، تتجاور القلعة والسوق في مشهد يعكس توازن القوة والتجارة، بينما تكشف ذو رعين عن عبقرية هندسة الماء، وديناميات العيش في تضاريس الهضبة. وعلى طريق سمارة، تقف القلعة شامخة، شاهدة على تجاذب الإمبراطوريات وجغرافيا الدفاع. أما بعدان، فحصونها المنيعة تسرد قصة التبابعة. نورد موجزاً عن هذه المناطق كالتالي:

  • مدينة ظفار التأريخية

مدينة ظفار التاريخية كانت عاصمة الدولة الحميرية بين عامي 115 قبل الميلاد و527 بعد الميلاد، وأظهرت المصادر اليونانية والرومانية مخططًا لمدينة ظفار، وورد اسمها في تلك “زفار”. أما المؤرخ اليمني أبو محمد الحسن الهمداني، الذي عاش في القرن الرابع الهجري، فقد أفرد لها وصفًا مفصلًا في كتابه الإكليل، متغنيًا بأثرها، ومحدّدًا موقعها بدقة.

ذكر الهمداني أن لظفار حمير (يحصب) تسعة أبواب هي: باب ولا، باب الإسلاف، باب خرفة، باب صيد، باب مآوه، باب هدوان، باب خبان، باب حوره، وباب الحقل. ويُعد باب الحقل أبرز هذه الأبواب، إذ كان مزوّدًا بأجراس تُصدر رنينًا يُسمع من مكان بعيد عند فتحه أو إغلاقه، كما كان محصنًا بسور كبير يحيط بالمنطقة؛ ما يعكس أهمية المدينة في التنظيم والدفاع.

في مدينة ظفار، تتجلّى لغة المسند منقوشة على الصخور، تحمل ألقاب الملوك، وتوثّق طقوس الدولة، وتزيّن المعمار بذائقة فنية راقية. لقد شكّل انتقال مركز الحكم من سلحين في مأرب إلى ذي ريدان في ظفار نقطة تحول استراتيجية؛ فلم تعد الشرعية محصورة في معبد واحد، بل توسّعت لتعبّر عن دولة تنسق بين الرموز الدينية والمصالح السياسية.

اليوم، تحتاج ظفار إلى مشروع إنقاذ يليق بمكانتها التاريخية؛ يشمل حفريات علمية، وترميمًا دقيقًا للمداخل والأسوار، وتوثيقًا ثلاثي الأبعاد، ومسارات تعريف باللغتين، إلى جانب مركز زوار يعيد سرد تاريخها بروح معاصرة.

  • قرية منكث

على الطريق المؤدي إلى ظفار، تقع قرية منكث وسط مدرجات زراعية خضراء، تسقيها مياه غيل دروان الجاري على مدار العام. في هذا المشهد الطبيعي، تتجاور السدود المنحوتة في الصخور مع الحصون التاريخية، مثل حصن دروان وحصن منكث الذي أعاد العثمانيون استخدامه خلال حكمهم الأول.

وفي وسط القرية يوجد جامع بناه الشيخ الهادي بن حسين عام 583هجرية، يوجد فيه 22 عمودًا حجريًا، وأحجارٌ مصقولة جُلبت من ظفار وقصر ذي ريدان، وعليها نقوش ورسوم بخط المسند. هذا الجامع لا يقتصر على دوره الديني حاليا، بل يعد معرضاً مفتوحاً يكشف جزءاً من ذاكرة الدولة التأريخية التي مرت على ظفار.

حصن “علي ولد زايد” صاحب الحكمة الزراعية في التراث الشعبي بقرية منكث في يريم (محمد راجح)

ويوجد في القرية حصن “علي ولد زايد” الحكيم الشعبي وترجمان النجوم الزراعية الشهير في اليمن، حيث يرى مؤرخون أنه ولد في قرية “منكث”، ويرجح باحثون أنه عاش في القرن الثاني عشر هجري (الثامن ميلادي)، والذي يعرف بالحكم والأمثال الشعبية في اليمن.

ويصفه المؤرخ والشاعر اليمني عبدالله البردوني (1929 -1999)، بأنه كل الشعب اليمني، وأن زمانه هو كل الأزمان، كما أن قريته هي كل القرى، لأنه عبَّر بكل لهجات الكل، ولا يعبر بلهجات كل الشعب إلا كل الشعب، على أن الحكايات التي أنطقت (علي بن زايد) هي بعض يوميات الناس.

  • بيت الأشول

تقع قرية بيت الأشول جنوب شرق ظفار، حيث بنيت منازلهم باستخدام أحجار أثرية جُلبت من العاصمة القديمة. واجهات عالية منقوشة، وصور محفورة جعلت من القرية متحفًا مفتوحًا يعكس جزءًا من هيبة ظفار التاريخية.

مجرد تأمل واجهة واحدة يكشف كيف انتقلت الرموز من مركز الدولة إلى أطرافها، وكيف تحولت عناصر البناء إلى ذاكرة اجتماعية تحفظ ملامح الماضي وتروي حكاياته.

  • يَرِيم التأريخية (أكام المرايم)

تمتد يريم الأثرية بما تبقّى من معالمها التاريخية، مثل حصن المرايم وبقايا السور القديم، وأبوابها الشهيرة: باب المناخ، باب قرية اليهود، والباب الصغير. وقد وصفها الرحالة كارستن نيبور في القرن الثامن عشر بأنها محطة رئيسية على طريق القوافل المتجهة نحو الهضبة الشمالية في اليمن.

ووسط المدينة القديمة تتربع قلعة المناخ المحصنة، التي لا يُمكن الوصول إليها إلا عبر درج مموّه، وقد أعاد العثمانيون ترميمها خلال حكمهم الأول. وتحيط بها جبال أثرية بارزة مثل جبل أرياب وجبل بني الحَرَثي، مما يمنح المدينة طابعًا تاريخيًا فريدًا يحكي قصة التحصين في الجغرافيا اليمنية.

مدينة يريم التأريخية في إب وسط اليمن (عمار الدبيس)
  • ذي رعين وجبل الماس

بالقرب من مدينة يريم، تتجاور منطقة ذي رعين مع جبل الماس، حيث تنتشر آثار هندسية مدهشة من حضارة اليمن القديم. هناك سدود حجرية، وصهاريج لتخزين المياه، ونفقان منحوتان داخل الجبل، وأيضا يوجد بقايا منشآت معمارية تحتاج إلى دراسة وتنقيب وحماية جادة من العبث.

هذه المنشآت ليست مجرد بنى خدمية، بل تمثل شهادة حيّة على براعة اليمنيين في هندسة المياه، في حضارة جعلت من الري أساسًا للعمران. فقد أنشأوا منظومات دقيقة لتجميع المياه وتمريرها وتوزيعها، بما يتناسب مع تضاريس المنطقة الوعرة ويخدم احتياجاتها الزراعية والمعيشية.

  • طريق وقلعة سمارة التأريخية

يرتفع طريق سمارة إلى نحو 2500 متر فوق سطح البحر، وتكشف منعطفاته، خاصة عند منطقتي البخاري وحليل، مشاهد بانورامية خلابة للأودية الغربية. وعلى هذا الطريق تقع قلعة سمارة، المعروفة شعبيًا باسم “عنق الغزال”، وهي معلم دفاعي استراتيجي استخدمه العثمانيون كمركز رئيسي خلال حكمهم الأول للمنطقة.

تتميّز القلعة بموقعها الذي يتيح مراقبة الطرق والإشراف على المناطق المحيطة، مما منحها أهمية عسكرية وتاريخية. وفي العام 2023 انهار جزء من سور “قلعة سُمارة” التي تعاني من الإهمال رغم عراقتها حيث يعود تاريخها إلى القرن الرابع هجري.

قلعة سمارة تقع في يريم على الطريق الرابط بين صنعاء وإب (حمزة العبسي)

تحتاج القلعة إلى اهتمام وترميم حيث ممكن أن تكون إمكانات سياحية واعدة؛ إذ يمكن تأهيلها لتكون منصة لتصوير المناظر الطبيعية، وموقعًا مثاليًا لرياضات المشي والطيران الشراعي، تجمع بين عبق التاريخ وجمال الطبيعة.

  • مسار يريم ـ القَفْر

على بُعد نحو 18 كيلومترًا غرب يريم، تبرز قرية النزهة، وفيها جبل (جرف) الملك أسعد الكامل، وهو موقع أثري غامض يثير التساؤلات حول دور المواقع الصخرية في الطقوس الدينية والتحصين العسكري. وعلى امتداد الطريق نحو مديرية القفر، تمرّ بقرى جبلية خلابة مثل إِريان وقرى جبل بني مسلم، التي ترتفع حتى 3000 متر فوق سطح البحر.

في هذه المناطق، تتوزع حصون مثل حصن إِريان وحصن علّان، المشرفَين على الأودية الزراعية الخصبة، في مشهد يجمع بين عبقرية التحصين العسكري وفن التدرج الزراعي، ويعكس قدرة الإنسان اليمني على التكيّف مع تضاريسه، وبناء منظومات متكاملة للحماية والإنتاج.

  • جبال وحصون بعدان

إلى الشرق من مدينة إب، تمتد سلسلة جبال بعدان، أحد أشهر جبال اليمن وأكثرها خصوبة، ويُنسب سكانها إلى بعدان بن جشم بن الهميسع، فيما يتكرر ذكر الاسم القديم “ذات بعدان” في النقوش المسندية بمعنى “إلهة الشمس”، وعلى قمم الجبال وسفوحها تنتشر قرى عتيقة ومدرجات زراعية خلابة، تعكس تكيّف الإنسان مع الطبيعة.

ويعلو المنطقة حصن “حُب”، أحد أمنع حصون اليمن، إلى جانب حصن المنار، وكلاهما يقف شامخًا كحارسين على مر العصور. وتعاقبت على هذه القلاع دول منذ أكثر من 2700 عام، وما تزال بعض عناصرها المعمارية قائمة حتى اليوم، لتقدّم مادة حيّة لفهم كيف استُخدمت الهضبة في الدفاع، وكيف تحوّلت إلى رمز من رموز السلطة، ومسرحٍ للتعبئة السياسية والروحية.

  • حصون العود

جنوب شرق إب، مرورًا بمخلاف العود ووادي بنا، كانت تسلك القوافل طرقًا تؤدي إلى السواحل والمرافئ مثل عدن وموزع. وعلى امتداد هذه الطرق التأريخية أنشئت قلاع ورباطات لتأمين حركة التجارة وحماية الشحنات، بتصاميم معمارية بسيطة في زخرفتها، لكنها بالغة الأثر في ترسيخ الاستقرار الاقتصادي.

ورغم تهدّم كثير من هذه المنشآت، ما تزال آثارها قائمة، تشكّل علامات يستدل بها الباحثون على خطوط العبور القديمة، وتقدّم مادة مهمة لفهم البنية التحتية للتجارة في اليمن التاريخي، وتكشف هذه الإنشاءات حالة وعي تأريخي بالأمن، حيث لا تزدهر الزراعة ولا ينمو السوق دون أمن.

السماسر وفنّ الضيافة التجارية

كانت السماسر بمثابة فنادق للقوافل ومنصات خدمية متكاملة؛ تضم مخازن للبضائع، وإيواء للدواب، وغرفًا للتجار، وساحات للوساطة والبيع. ومن موزع وعدن إلى يريم وبعدان والعود، شكّلت هذه المنشآت شبكة مترابطة كانت بمثابة العمود الفقري للدورة الاقتصادية في اليمن قديماً.

ورغم اندثار كثير منها، ما تزال بقايا الأعتاب والأقواس والحجارة المنحوتة شاهدة تكفي لرسم طبوغرافيا العبور في العصر القديم؛ حيث كانت فيه ضريبة الطريق جزءًا من اقتصاد الدولة، وأمن المسالك شرطًا لازدهار التجارة والزراعة.

وبالإضافة إلى ذلك لتعزيز الأمن، كان نموذج مدينة إب القديمة المسوّرة ببوابات محدودة سائدًا في حواضر الهضبة اليمنية، حيث يتم بناء سور يحيط بالمكان؛ أبراج للمراقبة، وبوابات تنظم الدخول والخروج وتؤمّن الجباية والضبط، وتحمي السماسر التي توفر الضيافة للمسافرين التجار.

هذا النمط الدفاعي والاقتصادي انعكس بوضوح في يريم ومحيطها، كما في قرى العتبات الجبلية، حيث يتجاور السوق مع المسجد والسماسر (أماكن خدمة المسافرين)، لتشكّل معًا ثلاثية عمرانية تعبّر عن روح المدينة في الهضبة: الأمن، العبادة، والتبادل التجاري.

كيف يمكن إحياء المعالم التأريخية واستثمارها؟

لتحويل هذا الإرث إلى قيمة معاصرة، ثمة حزمة إجراءاتٍ عملية يمكن للسلطات أن تقوم بها للحفاظ على هذا الإرث التاريخي، وجعلها مناطق جذب سياحي يمكن أن تخلق تنمية:

  •  حفريات علمية منهجية تشرف عليها فرق وطنية بالشراكة مع بعثاتٍ دولية؛ تُعيد بناء التسلسل الزمني، وتُخرج الطبقات بحساسية عالية.
  • ترميمٌ عاجل للبوابات والأسوار والزخارف مع اعتماد طرق إرواء حجرية تحمي النقوش من التآكل.
  • توثيقٌ رقمي ثلاثي الأبعاد (مسح ضوئي/ليدار) يُنشئ نُسخا افتراضية للعرض والتعليم والبحث.
  • مسارات زيارة متدرجة وواضحة بعناوين ثنائية اللغة، تبدأ بـ ظفار ثم منكث وبيت الأشول فـ يريم وذي رعين، مع نقاط ظلّ واستراحات.
  • إنشاء مركز زائرين في مركز ظفار لما يخص التأريخ في إب مثلا، يوفّر خرائط ونماذج ومكتبة مصادر.
  • حماية قانونية ومراقبة تُجرّم النبش والتهريب، وتُفعِّل رقابة مجتمعية عبر تمكين الأهالي كحُرّاس للذاكرة.
  • تدريب مرشدين محليين على السرد التاريخي باحتراف، وعلى مهارات التفسير الموقعي وإدارة الزوار.
  • سياحة بحثية تستقطب طلاب الآثار والتاريخ المعماري، وتوفّر دخلا وخبرة، وتُخرج جيل حفّارين يمنيين.

هذه التدابير ليست ترفا ثقافيا، بل مشروع تنمية؛ حيث إن كل حجرٍ مُستعاد يعني فرصة عملٍ، وكل نقشٍ مُرمم يعني حرفة تعود، وكل مسار زيارة منظم يعني دخلا للمجتمع.

في الجزء الثاني، سنتناول جبلة وإب القديمة بتفصيل معماري وروحي يليق بمكانتهما في الوجدان اليمني. أما الجزء الثالث، فسيأخذنا إلى الجبال والمناظر الطبيعية ومسارات المشاهدة، بانسيابية تجمع بين سرد الجغرافيا وفنّ الرحلة.


المصادر:
– الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن، حسين بن فيض الله الهمداني – الطبعة الثالثة، 1986م.
– هذه هي اليمن.. الأرض والإنسان والتاريخ، عبد الله الثور – دار العودة، بيروت.
– الملكة سيدة بنت أحمد الصليحي، إيمان ناجي سعيد المقطري- مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، 2004م.
– الهيئة العامة للتنمية السياحية صنعاء – نتائج المسح السياحي للفترة 1996–1999م.
– هيئة المساحة الجيولوجية والثروات المعدنية، صنعاء – الطبعة الأولى، 2003م.
– موسوعة أعلام اليمن – عبد الولي الشميري
– حمير بين الخبر والأثر، يوسف محمد عبد الله – مجلة دراسات يمنية، العدد 42، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، 1990م.

شارك الموضوع عبر:

الكاتب

    مواضيع مقترحة: