رغم التوسع الكبير في بناء السدود الترابية في اليمن خلال العقود الماضية، بهدف تعزيز الأمن المائي وتجنب مخاطر الجفاف، إلا أن الكثير من هذه المنشآت تحوّلت بمرور الوقت إلى منشآت غير فعالة؛ فقد امتلأت أغلبها بالرسوبيات، وجفّت بحيراتها، وانخفض منسوب المياه فيها بشكل كبير، حتى غدت في بعض المناطق أقرب إلى الحفر الجافة منها إلى مصادر مائية فاعلة.
هذه النتيجة المؤسفة لا يمكن اختزالها في قصور فني أو تقني، بل تعكس غيابًا جوهريًا للرؤية المتكاملة لإدارة الموارد المائية، حيث يتم التعامل مع السد كعنصر معزول عن المنظومة الطبيعية التي تحيط به، فالسد هو فقط محطة استقبال للمياه ضمن منظومة أشمل تبدأ من المنابع الجبلية، وتمر عبر مجاري السيول الصغيرة، لتصل الى مصباتها النهائية.
ولم يتوقف الأمر عند حدود فقدان الفعالية التخزينية، بل تحوّلت بعض هذه السدود إلى مصدر تهديد مباشر لحياة السكان وممتلكاتهم نتيجة لتدهور مكوناتها، وغياب الصيانة الدورية والتقييم الفني المستمر، فقد شهدت البلاد خلال السنوات الماضية حوادث مؤسفة لانهيار بعض السدود، أو تسرّب مياهها بشكل مفاجئ؛ ما أدى إلى تضرر المساكن والمنشآت الخدمية والزراعية في المناطق المحيطة.
ويُعد انهيار سد الرونة في مديرية حبابة – عمران عام 2020، وانفجار خزان مياه في مديرية حفاش– المحويت عام 2023، من بين الأمثلة المؤلمة التي تؤكد خطورة إهمال أعمال الصيانة والإدارة المتكاملة. في ظل غياب استراتيجية وطنية مستدامة لإدارة هذه المنشآت، تظل السدود في اليمن كنزًا ضائعًا، وثروة مهدورة لم يتم استغلالها بما يوازي الإمكانات التي توفرها.

يسلط هذا المقال الضوء على جذور هذه الإشكالية، ويدعو إلى إعادة النظر في فلسفة بناء السدود عبر تبني نهج شمولي ومستدام يدمج بين الأبعاد البيئية والهندسية والمجتمعية، ويستند إلى المعطيات العلمية الحديثة، والتجارب المحلية الناجحة.
واقع السدود في اليمن
منذ مطلع الألفية الثالثة، شهدت اليمن تنفيذ مئات المشاريع المتعلقة ببناء السدود الصغيرة والمتوسطة، بتمويل من هيئات حكومية ومؤسسات مانحة دولية، وتنفيذ منظمات محلية، وقد هدفت هذه المشاريع إلى تقليص الاعتماد على المياه الجوفية من خلال حصاد مياه الأمطار وتخزينها، خاصة في المناطق الزراعية.
لكن بعد سنوات قليلة من تشغيل معظم هذه السدود، كشفت الملاحظات الميدانية والدراسات الفنية عن تراجع كبير في أدائها، وأفادت دراسة للهيئة العامة للموارد المائية نُشرت عام 2020 بأن أكثر من 60٪ من هذه السدود تعاني من تراكم الرسوبيات، وضعف الصيانة، وغياب التدخلات الوقائية في المناطق الساكبة؛ مما أدى إلى تراجع قدرتها التخزينية، بل وانعدام فعاليتها في بعض الحالات.
وإلى جانب تدني الفعالية، أظهرت تقارير رسمية وشهادات ميدانية أن عددًا من هذه المنشآت بات يشكل خطرًا حقيقيًا على المجتمعات القريبة منها، خصوصًا في ظل غياب منظومة صيانة دورية، ورقابة هندسية مستمرة.
أكثر من 60 بالمئة من السدود في اليمن تعاني من تراكم الرسوبيات، وضعف الصيانة؛ مما أدى إلى تراجع قدرتها التخزينية، بل وانعدام فعاليتها في بعض الحالات
ففي بعض الحالات، تسببت التسربات في تآكل جسور السدود؛ مما أدى إلى تصدعات جزئية، وانهيارات مفاجئة، وهو ما كشف هشاشة بنية هذه المنشآت، وغياب خطط الطوارئ للتعامل مع المشاكل المحتملة.
السد ليس البداية
في الثقافة العامة، يتم التعامل مع السد وكأنه الحل الوحيد لأزمة المياه، غير أن التجربة أثبتت أن السد يجب أن يكون الحلقة الأخيرة في سلسلة طويلة من التدخلات الاستباقية، التي تبدأ من أعالي الجبال وتنتهي عند المصب.
ففعالية أي سد تتوقف بدرجة كبيرة على حالة البيئة المحيطة به، وعلى ما إذا كانت تلك البيئة تدعم تنظيم الجريان السطحي، وتقلل من حمل الرسوبيات إليه، ولضمان فعالية السد واستدامته، لا بد من تنفيذ مجموعة مترابطة من التدخلات تشمل سبعة حلول استراتيجية مهمة.
1. تعزيز الغطاء النباتي
يساعد الغطاء النباتي الطبيعي على تقليل سرعة الجريان السطحي للمياه، ويمنع تعرية التربة وجرفها، فالجذور تعمل كمثبتات للتربة، والأوراق تقلل من تأثير سقوط المطر مباشرة على سطح الأرض؛ مما يقلل من التفكك والتآكل، ويساعد في:
- تقليل كمية الطمي الذي يصل إلى السد.
- تحسين التربة وزيادة عضويتها.
- تعزيز التنوع البيولوجي، وتوفير موائل للحياة البرية.
- توفير مصادر دخل إضافية؛ مثل توفير مرعى للثروة الحيوانية، وتعزيز إنتاجية النحل والأدوية النباتية.
المدرجات تحوّل السفوح المنحدرة إلى مصاطب مستوية؛ مما يُبطئ حركة المياه، ويمنع انجراف التربة، ويزيد من قدرة الأرض على امتصاص المياه، وفوائدها:
- تقليل الضغوط على السدود الناتجة عن تدفق السيول.
- إعادة إحياء الأراضي الزراعية المهجورة بسبب التعرية.
- تحسين إنتاجية المحاصيل بسبب احتباس الرطوبة.
- تقليل الحاجة للري من الآبار، وبالتالي خفض استهلاك الوقود والطاقة والمياه الجوفية.
هي خطوط من الحجارة توضع بشكل عرضي على سفوح التلال والمزارع المنحدرة، تعمل كحواجز صغيرة تُبطئ حركة المياه، وتسمح بتسربها إلى الأرض، وفوائد ذلك:
- زيادة تغذية المياه الجوفية في المناطق المرتفعة.
- تكوين طبقة من الرواسب خلف الحواجز تعيد بناء التربة تدريجيًا.
- استقرار الأراضي المهددة بالانهيار، وتقليل خطر الانزلاقات.
هي حواجز حجرية أو ترابية تُبنى في مجاري السيول والأخاديد العميقة التي تتآكل بفعل السيول، لكنها تساعد كثيرا في:
- تقليل سرعة المياه، وتحفيز الترسيب التدريجي للطمي.
- استعادة خصوبة الأراضي المنخفضة.
- منع استمرار تعمّق الأخاديد، وزحفها باتجاه القرى أو المزارع.
- استعادة التربة المفقودة، وبالتالي زيادة مساحة الأرض الصالحة للزراعة.
هي منشآت لجمع المياه في أعلى مناطق الجريان قبل أن تصل إلى السد، والمناطق الساكبة التي تجمع مياه الأمطار أو السيول وتصرفها إلى مجرى مائي واحد، وتلعب هذه المناطق دوراً مهماً في تحديد تدفق المياه الذي قد تتطلبه المنشآت الهندسية والمائية، وتساعد في:
- تخفيف الضغط على السدود خلال الأمطار الغزيرة.
- تقليل خطر الفيضان والانهيار المفاجئ.
- توفير مياه للري والاستخدام المنزلي في المجتمعات الريفية.
- دعم الإنتاج الزراعي والرعوي في فترات الجفاف.
السد لا يجب أن يُبنى بمعزل عن التدخلات السابقة، بل يجب أن يكون تتويجًا لها في منظومة متكاملة آمنة لتكون ذات جدوى، ولكي يؤدي دوره بفعالية يجب أن تتوفر الشروط التالية:
- يُصمّم وفقًا لتحليل هيدرولوجي دقيق.
- يُربط بشبكات توزيع مياه منظمة.
- يخضع لصيانة موسمية دورية.
- تدعمه لجان مجتمعية تشارك في مراقبته وحمايته.
بعض المناطق الجبلية أو ذات النفاذية العالية لا تصلح لبناء سدود تقليدية، وتحتاج إلى حلول مرنة، مثل:
- حواجز في مجاري الوديان
وتعرف بحواجز التهدئة والترسيب، وتُنشأ في مناطق متقاطعة مع مجرى الوادي لتقليل سرعة السيول، ورفع منسوب التربة في المجرى تدريجيًا؛ مما يقلل الميول في مجرى الوادي، ويقلل سرعة السيل فيه، وتفيد في تهدئة السيول، وزيادة الترسيب، وتغذية المياه الجوفية.
- إنشاء وصيانة أنظمة الري السيلي
وتعد هذه من أقدم طرق الري في توجيه مياه السيول الموسمية إلى الحقول المجاورة من خلال قنوات ترابية، وتزيد من خصوبة التربة وتغني عن مصادر الري المكلفة، وتقلل من مخاطر السيول على المناطق الأدنى من خلال استيعابها لكميات كبيرة منها بدلا من جريانها في الوادي وتشكيل سيول جارفة.
- إعادة تأهيل حواف الحقول الزراعية
تعرف حواف الحقول الزراعة في اليمن بـ “العريم” أو “الزبير” وهي جدران ترابية تحيط بالحقل لاحتجاز مياه الأمطار والسيول داخل الحقل، ومنع خروجها إلا عبر المفيض الذي يحدد في الحقل.
وتفيد هذه الطريقة في تحسن رطوبة التربة، وبالتالي تحسين إنتاجية المحصول، وإمكانية زراعة عروتين وموسمين اعتمادا على الروى المتوفر في التربة، كما تدعم إعادة تغذية المياه الجوفية، وتقلل من مخاطر السيول من خلال استيعاب هذه الحقول لكميات كبيرة من التربة بدلا من نزولها في مجاري الوديان، وتشكيل سيول جارفة.
- صيانة مناسح الحقول الزراعية
يتحكم “المنسح” أو ما يعرف أيضا بـ “المفيض” في توزيع المياه الزائدة من حقل لآخر بطريقة مدروسة تمنع التآكل والتلف، وتساعد في الحفاظ على حواف الحقل من الانهيار ويسهم في توزيع المياه بشكل متساوٍ بين الحقول، وتمنع تجمعها في نقاط خطرة.

النتائج المتوقعة من الإدارة المتكاملة
لا تقتصر أهمية الإدارة المتكاملة على تحسين كفاءة السدود ورفع قدرتها التخزينية فقط، بل تتعدى ذلك إلى حماية الأرواح والممتلكات من مخاطر الانهيار أو التسرب، فتدخلات مثل ترميم الجدران، وتفريغ الرسوبيات، وإعادة تأهيل البنية الخرسانية، تمثل خطوط دفاع أولى ضد كوارث محتملة.
تطبيق هذه التدخلات المتسلسلة والمتكاملة سيؤدي إلى نتائج إيجابية ملموسة على المستوى البيئي والاقتصادي والاجتماعي، أبرزها:
- تقليل الأضرار الناتجة عن السيول.
- تعزيز تغذية المياه الجوفية.
- زيادة إنتاجية الأراضي الزراعية.
- خفض تكاليف الإنتاج الزراعي.
- استعادة الغطاء النباتي الطبيعي.
- خلق فرص عمل مستدامة في الصيانة، وإعادة زراعة الغطاء النباتي، وبناء وصيانة تدخلات المساقط المائية.
التكامل بين الحكمة التقليدية والتكنولوجيا الحديثة
اللافت أن العديد من هذه الحلول ليست مستحدثة، بل هي امتداد لحكمة الآباء والأجداد في التعامل مع البيئة؛ فقد اعتمد اليمنيون تقليديًا على تقنيات بسيطة لكنها فعالة: المدرجات، السواقي، زراعة الحواف، والخزانات الترابية.
ويمكن تعزيز هذه المعرفة التقليدية من خلال أدوات حديثة، مثل نظم المعلومات الجغرافية (GIS) والاستشعار عن بعد، ويتم دراسة هذه الأفكار وتحويلها إلى خطط عملية ضمن سياسة وطنية متكاملة ومستدامة.
هناك فرصة لإعادة تعريف دور السدود، ليس كمشاريع إسمنتية منعزلة، بل كعناصر ضمن منظومة بيئية متكاملة، التحدي ليس في بناء سد؛ بل في إدارته ضمن سلسلة من التدخلات الذكية
في ظل ما يشهده اليمن من تغيرات مناخية حادة، وتوسع عمراني وزراعي غير منضبط، تبرز الحاجة إلى تبني سياسة وطنية متكاملة لإدارة الأحواض المائية، تأخذ بعين الاعتبار مشاركة المجتمعات المحلية بشكل فاعل، وإدماج النهج البيئي والهندسي.
وأيضا يجب ربط مشاريع السدود باستراتيجيات حماية الموارد، وتخصيص موازنات لأعمال الصيانة والرصد، وهناك أيضاً أولويات مهمة لحماية الأحواض المائية، من خلال إنشاء قاعدة بيانات وطنية محدثة لحالة كل سد.
وتحتاج عملية إدارة الموارد المائية إلى وضع آلية إنذار مبكر للمناطق عالية الخطورة، وتحديث خرائط المخاطر الهيدرولوجية على مستوى الأحواض.
كيف نجعل السدود تنبض بالحياة؟
هناك فرصة لإعادة تعريف دور السدود في اليمن، ليس كمشاريع إسمنتية منعزلة، بل كعناصر ضمن منظومة بيئية متكاملة، التحدي ليس في بناء سد؛ بل في إدارته ضمن سلسلة من التدخلات الذكية والواقعية بحيث تكون سدوداً تنبض بالحياة.
إن الحديث عن السدود لا يجب أن يظل أسير الجدوى الاقتصادية أو الكفاءة المائية فقط، بل يجب أن يشمل أيضًا البُعد الأمني والإنساني، فالمنشآت المتدهورة تهدد أرواح الأبرياء، وما لم نغيّر طريقة إدارتنا لها، سننتقل من خسارة الماء… إلى خسارة الحياة.
فلنستثمر في الحكمة التي ورثناها، ونُحسن توظيفها عبر الأدوات المعاصرة، لصياغة مستقبل مائي آمن، لا تنضب فيه السدود، ولا تتدمر فيه الأرض والبنية التحتية، بل ينمو فيه الأمل، وتُثمر فيه التنمية المستدامة.
* المقال حصري بمنصة ريف اليمن