الزراعة في اليمن: إرثٌ عريق على حافة النسيان

فؤاد الصيادي
م. فؤاد تاج الدين الصيادي
القهوة اليمنية.. إرث عريق ونكهة فريدة تتحدى الزمن

في زوايا الجبال، حيث تتناغم المدرجات الحجرية مع الخطوط الخضراء لمحاصيل الذرة والدخن، وفي قيعان الأودية التي تنبض بالحياة بعد أول مطرة، لا تزال الزراعة في اليمن تحكي قصة شعبٍ عاشقٍ للأرض، صبورٍ في وجه الجفاف، ومبدعٍ في تطويع الطبيعة وتسخيرها لصالحه ولصالح أفراد أسرته، بل والمجتمع وللاقتصاد المحلي، فالزراعة في اليمن ليست مجرد مهنة أو نشاط اقتصادي؛ بل هوية متجذّرة في التربة، وذاكرة تختزن أسرار البقاء.

قبل آلاف السنين، بنى اليمنيون حضاراتٍ عظيمة، ازدهرت فيها الزراعة كما لم تزدهر في مكانٍ آخر من الجزيرة العربية. لم يكن سد مأرب مجرد معجزة هندسية، بل كان ترجمة لثقافة زراعية راقية، استندت إلى فهم عميق للدورة المائية، ولتضاريس البلاد الجبلية والجافة. في تلك العصور، كانت السيول تُروّض، والتربة تُخصب، والمياه تُخزن، والمزارع تُصمم بعقلية المهندس والفلكي معاً.

لكن، مع تقادم الزمن وتبدّل الأحوال، بدأت الهوة تتسع بين الماضي والحاضر. لم يُكتب الكثير عن تلك التجربة الزراعية الثرية، بل ظلت تنتقل شفهياً بين الأجيال، فتسرب منها ما تسرب، واندثر ما اندثر مع رحيل كبار السن، أو انشغال الأحفاد بوسائل حياة جديدة.

عقب ثورة سبتمبر 1962، انفتح اليمن على الخارج، وبدأت رياح الحداثة تهب بقوة، فحملت معها قيماً جديدة، وسلوكياتٍ استهلاكية أزاحت الكثير من الموروث الزراعي جانباً. أصبح السماد الكيماوي رمزاً للتطور، والمبيد المستورد حلاً سحرياً، فيما سخرت الأجيال الحديثة من جيلٍ كان يزرع القمح والبقوليات ويقلب روث المواشي بيده ليخصب أرضه.

لكن المفارقة أن تلك “البدائية” التي هجرتها الأجيال، كانت في جوهرها ممارسات بيئية ذكية، تسبق عصرها بكثير. فعندما كان الفلاح اليمني يزرع الذرة مع الفاصوليا والقرع في حقل واحد، لم يكن يفكر فقط في تنوع المحصول، بل كان يُعيد للتربة توازنها، ويطرد الحشرات برائحة زهور القرع (الدباء)، ويستغني عن السماد الكيماوي بالاعتماد على جذور الفاصوليا لتثبيت النيتروجين في التربة.

وحين غيّر محاصيله من موسم إلى آخر، لم يفعلها صدفة؛ بل كان يفهم دورة التربة، ويعرف أن الآفات تضعف حين لا تجد نفس العائل في كل عام. وحين جمع روث مواشيه وبقايا حطبه، كان يصنع سماداً عضوياً يحافظ على رطوبة التربة، ويحميها من التعرية والتصحر.


في قرى اليمن لم تكن هناك خطوط إسمنتية تمد المياه، بل برك من الطين والحجر تحتفظ بالمطر، وتكفي المنزل والزريبة والحقل طوال الصيف


وما يثير الإعجاب حقاً، تلك الهندسة الجبلية الدقيقة التي شيد بها المدرجات، وحوّل بها سفوح الجبال إلى جنائن معلقة. لم تكن المدرجات مجرد جدران حجرية، بل نظاماً بيئياً متكاملاً يُبطئ السيل، ويغذي الجوف، ويحمي التربة من الانجراف. أضاف إليها حواجز حجرية في بطون الأودية، حاكماً تدفق السيول، ومتحكماً بترسيب التربة في المكان المطلوب.

وفي قرى اليمن، لم تكن هناك خطوط إسمنتية تمد المياه، بل برك من الطين والحجر تحتفظ بالمطر، وتكفي المنزل والزريبة والحقل طوال الصيف. أما المراعي، فقد خضعت لإدارة صارمة، فيها تنقل موسمي، وتدوير للأراضي، وحسابات دقيقة لمواسم الراحة والرعي.

وفي هذا السياق، تبرز حكاية “صالح هادي”، الفلاح الحكيم من إحدى قرى المرتفعات. خالف الأعراف، وترك أرضه بعد الحصاد لرعي المواشي من كل بيت في القرية، حتى لأولئك الذين لا يملكون أرضاً. لم يفعلها طلباً للثناء، بل لأن المواشي كانت تنظف الحقل، وتخصب الأرض، وتُعيد للتربة حيويتها..

كان يُدرك أن حركة الأقدام تفكك التربة، وأن الأعشاب المأكولة لن تعود لتسرق الماء من المحصول القادم؛ فصارت أرضه أكثر خصوبة، وأقل حاجة للجهد والمال. ومع ذلك، ظلت طريقته مثار استغراب، ثم نسيان، مع قدوم جيل يبحث عن الأسهل في كيس بلاستيكي عليه ملصق مستورد.

هكذا بدأنا نخسر الزراعة التي حفظت اليمن مئات السنين؛ الإنتاج انخفض، والتكاليف ارتفعت، وأمراض النبات والإنسان معاً صارت أكثر شيوعاً. ما كان يُنجز في دورة حياة واحدة، أصبح بحاجة إلى دعم ومشروع وخبير أجنبي.

ربما آن الأوان أن نعيد النظر، أن نُخرج تلك المعارف من طيّات الذاكرة، ونُوثقها كما نُوثق الشعر والأنساب. فالمعرفة الزراعية التي ورثناها لا يليق بها النسيان، بل مكانها المناهج الزراعية، ومدارس المزارعين الحقلية، والمقاطع المرئية، والخرائط التراثية. والأجمل أنها تُلائم برامج الزراعة الذكية مناخياً، فهي محلية، منخفضة الكلفة، وصديقة للبيئة، ويمكنها أن تبني جسراً بين الموروث والتقنية.

العودة إلى الجذور لا تعني الرجوع إلى الوراء، بل هي قفزة ذكية إلى الأمام. ففي حكمة الأجداد ما يُنقذ حاضرنا الزراعي، وفي تراب هذا الوطن بذورٌ لم تُروَ بعد.

*خاص بمنصة ريف اليمن

شارك الموضوع عبر:
المقالة السابقة
هل خذلنا التخطيط الحديث؟

كتابات

حالة الطقس

+20
°
C
H: +22°
L: +14°
صنعاء‎
السبت, 27 كانون الثاني
أنظر إلى التنبؤ لسبعة أيام
الأحدالاثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعة
+23°+23°+23°+22°+23°+22°
+14°+14°+14°+14°+14°+14°
شاهد أيضا