هل تستطيع اليمن الاكتفاء الذاتي من محاصيل الحبوب؟

عماد السامعي
عماد السامعي

هل سترتفع أسعار الدقيق غدًا؟ سؤال يتكرر في الأسواق اليمنية كل يوم، إذ لم يعد دقيق القمح مجرد سلعة عادية، بل تحول إلى هاجس يشغل حياة الكثير من الأسر اليمنية؛ أي أزمة عالمية أو حتى اختلال بسيط في حركة التجارة، كفيل بأن يرفع أسعاره في اليمن.

لكن السؤال الأعمق، ما الذي ينقصنا في اليمن حتى لا نزرع ما يكفينا؟ نحن أصحاب أرض عرفت الزراعة منذ آلاف السنين ووصفت بـ “أرض الجنتين”، ووصفها المؤرخون بـ “اليمن السعيد” حين كانت المدرجات الخضراء تغطي الجبال، والوديان تفيض بالمحاصيل.

فما الذي حدث؟ وكيف تحوّل بلد بهذه الخصوبة والتنوع المناخي إلى واحد من أكبر مستوردي الحبوب في المنطقة؟ وكيف أصبح الخبز، أبسط مقومات الحياة، رهينة الاستيراد بدلًا من أن يكون ثمرة أرضنا؟

قد يبدو الاكتفاء الذاتي حلمًا كبيرًا، لكنه ليس مستحيلًا، بل هو خطوة ممكنة لو بدأنا بخطوة صغيرة وواقعية. البداية ليست من كل المحاصيل، بل من محصول واحد فقط يشبه أرضنا وناسنا. تمتلك اليمن مساحة صالحة للزراعة تبلغ حوالي 1.5 مليون هكتار، أي أكثر من (3.5 مليون) فدان، فيما تبلغ المساحة المزروعة منها حوالي 1.2 مليون هكتار، وفق المركز الوطني للمعلومات. إذن، هل نستطيع أن نحقق الاكتفاء الذاتي من مساحة هذه الأرض الخصبة؟

الاكتفاء الذاتي والإرث زراعي

الاكتفاء الذاتي يعني أن وطننا قادر على إنتاج الغذاء الذي يحتاجه شعبه بكميات كافية، دون أن يستورد من دول أخرى، هذا الهدف ليس سهل المنال ولا يمكن تحقيقه لجميع المحاصيل مرة واحدة، ولكنه يصبح ممكنًا إذا ركزنا على محاصيلنا الأساسية التي تصنع الفارق في أمننا الغذائي.

عندما تنتج الدولة غذاءها، فإنها تتحرر من التبعية للدول التي قد تعصف بها الأزمات الاقتصادية والسياسية أو تقلبات الأسعار المجنونة. لهذا يعتبر الاكتفاء الذاتي حجر الزاوية لأمننا الغذائي، خاصة لليمن الذي يواجه تحديات غير مسبوقة في سلاسل الإمداد خلال السنوات الماضية من الصراع.

صحيح أن اليمن تُعد من أقدم الدول الزراعية في المنطقة، ووفق تقرير لمنظمة الفاو، هي أغنى دولة بالأنواع النباتية في شبه الجزيرة العربية، حيث تشير التقديرات إلى وجود حوالي 2900 نوع من النباتات تنتمي إلى 175 عائلة. والسؤال المحوري الآن: من أين نبدأ؟ وما هو المحصول الذي يمكن أن يفتح لنا أبواب الاكتفاء الذاتي سريعًا؟

هل تستطيع اليمن الاكتفاء الذاتي من محاصيل الحبوب؟
حصاد القمح من مزارع بمحافظة الجوف اليمنية

لماذا الذرة الرفيعة تتقدم على القمح؟

القمح هو المحصول الاستراتيجي الأول عالميًا، لكن صورته في اليمن مختلفة تمامًا. فهو يحتاج إلى مساحات شاسعة وكميات كبيرة من المياه، وكلاهما موردان محدودان في اليمن. فبحسب تقرير منظمة الفاو، لا تغطي المساحة المزروعة بالقمح سوى 60 ألف هكتار، بإنتاج لا يتجاوز 138 ألف طن، بينما الاستهلاك السنوي يفوق 3.5 مليون طن. وهذا يعني أن إنتاجنا المحلي لا يغطي سوى حوالي 4% من احتياجاتنا.

هنا بالضبط تبرز الذرة الرفيعة كخيار استراتيجي عملي لا يمكن تجاهله، هي ليست مجرد محصول غذائي تقليدي، بل هي جزء أصيل من تراثنا الزراعي، وتتميز بقدرة فائقة على التكيف مع ظروفنا المناخية الصعبة. ووفق بيانات الإعلام الزراعي والسمكي اليمني، تُزرع الذرة الرفيعة على مساحة تقارب 347 ألف هكتار، بإنتاج سنوي يقارب 522 ألف طن.

هذا يؤكد وجود إنتاج فعلي يمكن أن يكون نقطة انطلاق لتحقيق الاكتفاء الذاتي، بل وحتى التصدير مستقبلًا، إذا تم الاستثمار فيه بشكل صحيح، والأهم أن دقيق الذرة الرفيعة يمكن استخدامه كبديل جزئي لدقيق القمح في صناعة الخبز، أو كطعام أساسي في العديد من الأطباق التقليدية، مما يقلل كثيراً من قيمة الاستيراد.

يُضاف إلى ذلك، تشير بيانات “الفاو” إلى أن زراعة الفدان الواحد من القمح تحتاج ما يقارب 60 كيلوجرام من البذور لتعطي إنتاجًا متواضعًا لا يتجاوز الطن في أحسن الظروف. بينما لا يتطلب فدان الذرة الرفيعة أكثر من 10 كيلوجرام من البذور، ومع ذلك يمكن أن ينتج ما بين طن إلى طن ونصف عندما تتوفر الظروف الملائمة.

 زراعة الذرة الرفيعة: الفجوة التي يجب سدّها

اليمن يزرع اليوم نحو 826 ألف فدان من الذرة الرفيعة، لكن النتيجة غير جيدة حيث إن متوسط الإنتاج لا يتجاوز 600 كيلوجرام للفدان الواحد، أي ما يقارب نصف مليون طن فقط سنويًا من إجمالي المساحة المزروعة. هذه الأرقام تكشف عن خلل واضح ومكلف، ففي الوقت الذي توجد المساحة والخبرة تغيب البذور المحسنة، وضعف تنظيم مواسم الزراعة، ونقص الدعم الفني وهذا جعل المحصول يُنتَج بأقل من نصف طاقته المعروفة.

وكما أشرنا سابقاً، تتجاوز المساحة الصالحة للزراعة في اليمن 3.5 مليون فدان، ومعظمها قابلة لزراعة الذرة الرفيعة. لماذا يظل إنتاجنا متواضعًا إلى هذا الحد؟ الأرقام تقول إنه لو تم استغلال نصف مليون فدان إضافي فقط بزراعة الذرة الرفيعة، وبإنتاجية لا تتجاوز الطن الواحد للفدان، فسنصل إلى مليون طن سنويًا من مساحة 1.3 مليون فدان. هذا يعكس الإمكانية الحقيقية لتوسيع الإنتاج بأدوات بسيطة دون الحاجة لثورة زراعية شاملة، بل عبر التخطيط الجيد وتحسين الممارسات الزراعية.

دول كانت مثل اليمن وأصبحت مصدرة للغذاء

عندما نقارن ذلك بتجارب دول أخرى، ندرك أن الفارق ليس في التربة ولا في المزارع، بل في السياسات المتبعة. المشكلة في اليمن ليست في الإمكانات، بل في غياب الرؤية الرسمية التي تحوّل الأرض الخصبة إلى سلة غذاء حقيقية.

فمثلا فيتنام كانت تعاني من نقص ومجاعة حادة في الثمانينات، اليوم أصبحت تصدر 7 ملايين طن أرز سنويًا، وسر نجاحهم أنهم حرروا السوق الزراعي، طوروا الأصناف، واستثمروا في الري.

البرازيل في السبعينيات كانت تستورد غذاءها، الآن أصبحت أكبر مصدر للصويا في العالم، وبدأ هذا الإنجاز بإنشاء مركز أبحاث ضخم طور أصنافًا مناسبة لمناخهم. أما ماليزيا فقد اختاروا زيت النخيل واستثمروا فيه بذكاء، واليوم يصدرون بما يقارب 18 مليار دولار سنويًا.

إذاً، لماذا نجحت هذه الدول بينما لا تزال اليمن تتأخر؟ الفرق ليس في التراب أو المزارع، بل في أربعة عوامل ساعدتهم على ذلك وهي كالتالي:

  • الاستقرار الأمني، هذه الدول أنهت نزاعاتها واستقرت.
  • التمويل الكافي: خصصت مليارات للزراعة والبحث العلمي.
  • خطط طويلة الأمد: استمرت مشاريعهم 20-30 سنة دون توقف.
  • الإرادة السياسية: جعلوا الزراعة أولوية وطنية لا تتغير.

وتمتلك اليمن مقومات هذه الدول، من الخبرة الزراعية العريقة مثل فيتنام، والتربة الخصبة والتنوع المناخي مثل البرازيل، إمكانية التخصص في محاصيل محددة مثل ماليزيا، والخلاصة هنا أن النجاح ممكن عندما تتحول الزراعة من مجرد نشاط تقليدي إلى استثمار استراتيجي يتبناه الوطن.

تحديات تواجه الزراعة

رغم الإمكانات، تواجه الزراعة في اليمن تحديات جسيمة يجب أن نتجاوزها، وهذا ممكن في الواقع من خلال العمل واستلهام التجارب والتي تتم بخطط واضحة، ومن أبرز هذه التحديات تبرر المياه واستمرار الصراع.

ويكافح المزارعين في اليمن من أجل تأمين الغذاء الذي يتدهور ويتكبدون خسائر مضاعفة، ولا يتلقون أي دعم حقيقي من السلطات مما يجعلهم أكثر تعرضاً للخسائر، وعندما نتحدث عن دعم حكومي نشير الى البنية التحتية والتسويق للإنتاج.

ومن أبرز التحديات: –

  • معاناة من ندرة الموارد المائية واستنزاف المخزون الجوفي.
  • تدهور الأراضي: تأثير التصحر والتعرية على تربتنا الخصبة.
  • آثار الحرب ونزوح الأيدي العاملة، والهجرة من الأرياف إلى المدن.
  • نقص الدعم الفني والمالي للمزارعين والاعتماد على طرق الزراعة البدائية.
  • ارتفاع أسعار البذور والأسمدة ونقص البذور المحسنة.
  • صعوبة الوصول إلى الأسواق أو بعبارة أدق ضعف البنية التحتية.
  • تأثير التغير المناخي المتقلب.
  • عدم وجود خطة استراتيجية واضحة  لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
  • زراعة القات على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية كان من الأفضل استغلالها بزراعة محاصيل استراتيجية.

رغم قسوة هذه التحديات، لا يزال الأمل موجودًا وقويًا، حيث تملك اليمن إمكانات هائلة تؤهلها للنهضة الزراعية، في التنوع المناخي الفريد الذي يسمح بالزراعة على مدار العام، والتربة خصبة في المرتفعات والهضاب، والتي تزرع كثير من المحاصيل الملائمة للمناخ وبحاجة إلى اهتمام وتطوير.

كما يوجد مساحات زراعية شاسعة تصل إلى 1.5 مليون هكتار، وخبرة بشرية عريقة متجذرة في المجال الزراعي في كثير من المحافظات اليمنية، بالإضافة إلى الأمطار موسمية التي يمكن استغلالها عبر حصاد المياه وكثير من الطرق لتجاوز أزمات الجفاف.

حلول يمكن أن تحقق الأمن الغذائي

اليمن ليست أول دولة تواجه تحديات غذائية ولن تكون الأخيرة، والتجارب العالمية تثبت أن التحول من الاستيراد المذل إلى التصدير القوي هو أمر ممكن، لكن البداية يجب أن تكون عملية ومنطقية بالتركيز على محصول واحد، في مناطق محددة، وزيادة المساحات الزراعية تدريجيًا بخطة واضحة. الذرة الرفيعة يمكن أن تكون البوابة التي نبدأ منها.

عندما نستعرض للتحول من الإمكانية إلى الواقع، نحتاج إلى هذه الإجراءات المباشرة:

  • تطوير الأصناف المحلية لتحمل مناخ اليمن وزيادة إنتاجيتها.
  • دعم المزارعين على استصلاح الأراضي المتدهورة.
  • العمل الجاد على حصاد مياه الأمطار في المواسم المطرية.
  • إنشاء التعاونيات الزراعية التي تخفض تكاليف الإنتاج وتساعد المزارعين في عملية التسويق لضمان البيع بأسعار عادلة.
  • الاستفادة من الدعم الدولي والتعاون مع المنظمات لدعم المشاريع الزراعية الناجحة.
  • تنظيم المواسم الزراعية من قبل وزارة الزراعة وفقاً لخطط استراتيجية حقيقية قابلة للتنفيذ.
  • تأسيس بنك بذور للأصناف المحلية المحسنة.
  • الاهتمام الكبير بالذرة الرفيعة ودمجها في برامج الأمن الغذائي الوطنية.
  • تفعيل دور الإرشاد الزراعي ليكون شريكًا للمزارع في الحقل.
  • تشجيع المزارعين على استبدال زراعة القات بالذرة الرفيعة أو محاصيل استراتيجية أخرى.

التحول نحو الاكتفاء الذاتي يحتاج إلى إرادة جماعية على مستوى الدولة والمجتمع، بحيث تدعم الحكومة المزارعين للإنتاج، ويشع المجتمع المنتج المحلي. لقد حان الوقت لكتابة قصة نجاح يمنية جديدة قصة تبدأ ببذرة قوية وتنتهي بأمن غذائي مستدام لأجيالنا.


المصادر:
– المركز الوطني للمعلومات – القطاع الزراعي في اليمن – الإحصاءات الزراعية السنوية”، 2023.
– منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)،
– الإعلام الزراعي والسمكي اليمني، “بيانات زراعة الذرة الرفيعة”
– الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (IFAD)
– دور الإرادة السياسية في تحقيق الأمن الغذائي – مجلة الدراسات التجارية والإدارية

شارك الموضوع عبر:
المقالة السابقة
إدارة المياه في اليمن: بين حكمة الأجداد وجهل الأحفاد

كتابات

حالة الطقس

+20
°
C
H: +22°
L: +14°
صنعاء‎
السبت, 27 كانون الثاني
أنظر إلى التنبؤ لسبعة أيام
الأحد الاثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة
+23° +23° +23° +22° +23° +22°
+14° +14° +14° +14° +14° +14°
شاهد أيضا