زهور السعيدي – الحديدة
“ذرفتُ دموعًا حارقة، شعرتُ بمرارة وحسرة في صدري، كأن هناك من يتعمد القضاء على رزقنا الضئيل و يترصدنا بسبق الإصرار”. بهذه الكلمات المؤثرة، عبر الصياد فيصل محمد عن ألمه حينما شاهد كميات هائلة من الأسماك النافقة في أعماق البحر، على بُعد أميال من شواطئ الحديدة غربي اليمن.
يتكرر ذلك المشهد بشكل يومي في السواحل اليمنية، نتيجة للصيد الجائر الذي بات يشكل خطرًا على الثروة السمكية، ويهدد حياة مئات الآلاف من أسر الصيادين الذين يعيشون أوضاعاً معيشية صعبة في بلدا تعصفُ به الحرب منذ عشر سنوات.
الاصطياد الجائر وهدر للثروة
ينحدر فيصل من قرية القطابا شمال مدينة الخوخة، ويقول:” تبتلع الأمواج أسماكًا وأحياء بحرية مرمية على السواحل بسبب ممارسات الاصطياد العشوائي. مشيراً أن هذه الظاهرة، باتت تهدد بالقضاء على المخزون السمكي الذي يعتمد عليه ملايين اليمنيين
تمتلك اليمن شريطًا ساحليًا يزيد عن ألفي كيلومتر، يمتد عبر البحرين الأحمر والعربي وخليج عدن. ويعمل في مهنة الاصطياد التقليدي أكثر من نصف مليون يمني، وفقا للجهاز المركزي للإحصاء ويعيلون مئات الآلاف من الأسر في القرى والمدن الساحلية.
يقول شيخ الصيادين في الحديدة ماجد المشولي بأن: “المياه الإقليمية اليمنية أصبحت مستباحة لمراكب الاصطياد التجاري التي تمارس عمليات جائرة بتواطؤ من بعض الجهات المستفيدة”.
وأضاف المشولي: “شركات الاصطياد تبحث عن أنواع محددة من الأسماك، لكنها تدمر الشعب المرجانية وتُهدر كميات هائلة من الأحياء البحرية. يتم جرف المطارح، وهي مواقع حساسة لنمو وتكاثر الأسماك، عبر وسائل مدمرة كالديناميت”.
وأوضح بأن:” الاستنزاف المتعمد للمخزون السمكي، خاصة في البحر الأحمر، يُحدث أضرارًا بيئية جسيمة، إذ تُعد مياهه صغيرة ومحدودة مقارنة بالبحر العربي وخليج عدن”.
وتقدر منظمة الأغذية والزراعة الأممية “الفاو ” مساهمة القطاع السمكي بـ15% من اجمالي الناتج المحلي لليمن كما تقدّر المنظمة الدولية، عائدات صادرات الأسماك بـ 13 في المئة من مجموع الصادرات غير البترولية للبلد.
يشكل قطاع الصيد رافدا اقتصاديا مهما لليمن، إذ تحتل صادرات الأسماك المرتبة الثانية بعد الصادرات النفطية في العام 2015 بحسب تقديرات منظمة الاغذية والزراعة “الفاو”، في وقت تمثل فيه مصدر رزق عشرات الالاف من الصيادين المحليين الذين يعولون الملايين من أفراد عائلاتهم على امتداد السواحل اليمنية.
ويعد قطاع الصيد وفق خبراء من القطاعات الواعدة التي من الممكن أن يتم توظيف موارده السمكية لتحقيق الأمن الغذائي وتحسين الاقتصاد، لكنه اليوم يواجه تحديات كبيرة في مقدمتها الصيد الجائر الذي يصفه الصيادون المحليون بالكابوس، إذ فقد أكثر من 35 ألف صياد مصدر دخلهم، بالإضافة إلى تداعيات الحرب.
تفاقم الأزمة وغياب الرقابة
فقد الصياد أمين ربيد المنحدر من قرية دار الأعلى شرق مدينة الحديدة مصدر دخله الوحيد، وأصبح عاطلا عن العمل بعدما كان يمتلك قارباً تقليدياً متوسط الحجم يدر عليه مروداً مادياً جيد، إذ كان يعيش وهو وزوجته وأطفاله الستة في مستوى معيشي أفضل ولكن تغير كل شيء مع استشراء ظاهرة الصيد الجائر في البحرين الأحمر والعربي.
وأوضح ربيد وهو في العقد الرابع من العمر بأنه” مثل الكثير من زملائه الصيادين تعرضوا لخسائر مباشرة ومتتالية، إذ كانت تكلف الرحلة البحرية مليون ريال تقريبا وفي كل مرة يطول البحث عن الاسماك دون جدوى بعد تدمير كثير من “مطارح” الاسماك فتراكمت الديون للوكلاء المتعهدين بتجهيز وتمويل رحلات الاصطياد حتى وصلوا الى مرحلة الافلاس واليأس.
وتقدر جمعيات تعاونية أعداد الصيادين التقليديين الذين فقدوا مصادر عيشهم بسبب الاصطياد غير القانوني بقرابة 40 ألفا باتوا يعيشون أوضاعاً معيشية سيئة للغاية، ويعود تاريخ مشكلة الصيد الجائر في اليمن إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما فُتح المجال للاستثمار في الاصطياد التجاري دون رقابة فعالة.
ومع استمرار الصراع السياسي منذ أكثر من عقد، تفاقمت الظاهرة بشكل كبير إذ يقول سالم صديق، عضو المكتب التنفيذي للاتحاد التعاوني السمكي: “حتى عندما كان هناك استقرار سياسي، لم تكن الرقابة كافية. تعيين مراقبين على السفن التجارية فشل، إذ كانوا يتلقون رشاوى، مما سمح للسفن بالاستنزاف العشوائي دون قيود”.
وأضاف: “البيئة البحرية ومراعي الشعب المرجانية التي تتغذى عليها الأسماك كانت أبرز ضحايا ظاهرة الاصطياد غير القانوني”.
تشير تقارير اقتصادية رسمية أن الخسائر المباشرة الناتجة عن رمي سفن الصيد التجاري لكميات كبيرة من الأسماك “المرتجعة” الى البحر تتراوح مابين ملياري الى خمسة مليارات دولار أمريكي.
وقال الخبير في الصيد التقليدي صبري المشولي “تنطوي هذه الخطوة على أضرار كبيرة ومباشرة على الشعب المرجانية التي لا تتعافى اذا تعرضت للجرف أو التلوث الا بعد ثلاثة عقود وربما لا تتعافى أبدا”.
وأضاف المشولي وهو أحد أقدم وأشهر الصيادين في الساحل الغربي القضاء على الشعب المرجانية يعني تلقائيا ضياع المخزون السمكي المستقبلي لفترات زمنية طويلة”.
تبعات اقتصادية
ظل الاصطياد التجاري والاستثماري محط جدل كبير خلال العقدين الماضيين وعانت البلاد تبعات وخسائر اقتصادية وبيئية واضحة جراء مخالفات سفن الاصطياد التجاري وأثارت الكثير من الشبهات حول تواطؤ بعض الجهات الرسمية والشخصيات النافذة في الحكومات المتعاقبة.
عقب اندلاع الحرب في مارس/آذار 2015 توسعت المشكلة وصارت ظاهرة كما يصفها المختص في مجال الصيد التقليدي سلمان عمر الذي أكد أن غياب الدولة وضعف وهشاشة المؤسسات الحكومية المختصة بالقطاع السمكي عقب إندلاع الحرب وفر أرضية مناسبة لكثير من ذوي المصالح لاستغلال الوضع الأمني والسياسي المتأزم لتحقيق مكاسب مادية وكان الاستثمار في البحر بيئة خصبة للمخالفات”.
وتشير تقارير رسمية الى أن هناك حوالي 200 سفينة ومركب تجاري تمارس الاصطياد الجائر في المياه الاقليمية اليمنية بضوء أخضر من بعض القوى المحلية المرتبطة بانظمة ودول اقليمية ودولية.
لا توجد أرقام وإحصائيات رسمية حول حجم الخسائر الاقتصادية المباشرة التي يتكبدها اليمن جراء الاصطياد غير القانوني غير أن هناك تقارير اقتصادية غير رسمية تقدر الخسائر بنحو عشرة مليارات دولار تشمل الأضرار الناتجة عن ممارسات الصيد المباشر وكذلك نتيجة توقف مشاريع سمكية محلية والأضرار التي لحقت بالصيادين التقليديين الذين يتصدرون قائمة ضحايا استفحال ظاهرة الاصطياد الجائر في المياه الإقليمية.
ويقول مختصون أن هذه التقديرات تتعلق بالخسائر والاضرار على المدى المنظور أما الخسائر الاستراتيجية فهي تزيد عن ذلك بكثير إذ أن الاضرار التي تتعرض لها الشعب المرجانية والبيئة البحرية جراء ممارسة أرباب الصيد الاستثماري تحتاج لعشرات السنوات كي تستعيد شيئا من عافيتها.
تحديات حلول ممكنة
يعتبر قطاع الاصطياد السمكي حجر زاوية في اقتصاديات كثير من البلدان لكن مشكلة الاصطياد غير القانوني غالباً ما تكون العقبة الأكبر أمام تطوره وازدهاره وأداء دوره المأمول في الاقتصاد الوطني.
يشير الناشط البيئي عبده زياد إلى أن مكافحة الصيد الجائر تتطلب تضافر جهود السلطات والمجتمع المحلي. الحلول تشمل دعم الصيادين التقليديين وتوفير المعدات الحديثة لهم، إضافة إلى توعية المجتمعات الساحلية بأساليب الصيد المستدامة. كما يشدد زياد على ضرورة تحسين البنية التحتية لمراكز الإنزال السمكي وتعزيز الرقابة على ممارسات السفن التجارية.
الوضع السياسي والامني في البلد وخصوصاً بمنطقة البحر الاحمر وخليج عدن وما تشهده من توترات عسكرية حالياً يحول دون وجود مثل المبادرات الدولية لكن هناك بعض المبادرات المحلية ” مجتمعية” في عدد من البلدات الساحلية على البحر العربي جنوبي وشرقي اليمن لكنها بامكانيات محدودة و تأثير ضئيل.
إجمالاً فإنه مع غياب الحلول الجذرية واستمرار الوضع الراهن، تبقى السواحل اليمنية، بثرواتها السمكية الهائلة، مهددة بالاستنزاف والتدمير. في بلد يعتمد مئات الآلاف من سكانه على البحر، لذلك يعد الحفاظ على الثروة البحرية ضرورة ملحّة لضمان استمرار الحياة الاقتصادية والاجتماعية.