على امتداد الصحاري والرمال الشاسعة، تظل حضرموت شاهدًا حيًا على فن الصِّقَارَة، الذي يعكس الأصالة اليمنية والإبداع التراثي العريق، إذ تعود جذور هذه الرياضة إلى عصور قديمة؛ حيث كان الحارث الكندي أول من درّب الصقور على الصيد، ما جعل الصقارة جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية اليمنية والعربية.
وفي محاولة لإعادة الاعتبار لهذا التراث العريق؛ أعلن سكان وادي حضرموت في ديسمبر 2023م تأسيس الجمعية اليمنية لرياضات وسباقات الصقور في مدينة تريم، كأول كيان مؤسسي يُعيد إحياء هذا الفن القديم كرياضة تنافسية، ومجال يُبرز الهوية اليمنية للعالم أجمع، لتشرق الصقارة مجددًا كفلسفة وحكاية تأبى الانطفاء.
الصِّقَارَة في اليمن
تأسيس الجمعية جاء بجهود الدكتور “علي سالمين الهميمي”، ودعم قبيلة بلعبيد، وكان بمثابة إعلان عن عودة الصِّقَارَة إلى واجهة المشهد الثقافي والرياضي، حيث اجتمع أكثر من مئة صقار وهاوٍ وإداري من شبوة وحضرموت، إضافة إلى يمنيين مقيمين في السعودية والإمارات، تحت مظلة واحدة تهدف إلى إعادة إحياء هذا الفن، وتعزيز مكانته محليًا وعالميًا.
حملت الجمعية شعارًا يضم 22 نجمة ترمز إلى عدد المحافظات اليمنية؛ بهدف توحيد الشباب حول هذا التراث الأصيل، ومنذ تأسيسها حرصت الجمعية على تنظيم فعاليات تراثية وندوات توعوية، كما شاركت في محافل دولية لتعريف العالم بالصقارة اليمنية، كان أبرزها الاحتفال بيوم الصقور العالمي في نوفمبر 2024 تأكيدًا لالتزامها بالحفاظ على هذا الإرث.
بفضل ذلك، أصبحت حضرموت بوابة للصقارة اليمنية نحو العالمية؛ حيث شاركت الجمعية في معرض أبوظبي الدولي للصيد والفروسية (ADIHEX) ومعرض كتارا الدولي للصيد والفروسية في الدوحة؛ مما ساعد في تعريف العالم بالإرث اليمني للصقارة.
كما سجل الفريق اليمني مشاركة مشرفة في كأس الاتحاد الدولي لرياضات وسباقات الصقور بدبي؛ حيث نافس 22 فريقًا من 20 دولة، وحقق الصقار “عبدالقادر العيدروس” المركز السادس في فئة “الجير شاهين”، بينما شارك الصقار “عبدالرحمن بادعام” في فئة “القرموشة”.
الاعتراف الدولي بالصقارة اليمنية جاء تتويجًا لهذه الجهود، حيث حصلت الجمعية في نوفمبر 2024 على عضوية مراقب في الاتحاد الدولي للصقارة وحماية الطيور الجارحة في منغوليا؛ مما فتح أمامها آفاقًا جديدة للمشاركة في المحافل العالمية، والمساهمة في حماية هذا التراث.
ويصف الدكتور علي الهميمي، رئيس الجمعية، هذا الإنجاز بأنه بداية لمسار طويل يهدف إلى ترسيخ مكانة اليمن على خارطة الصقارة الدولية، مشددًا على ضرورة تحقيق توازن بين الحضور الدولي والتطوير المحلي.
ويقول الهميمي لمنصة ريف اليمن: “تعمل الجمعية على غرس ثقافة الصقارة كجزء من الهوية الوطنية اليمنية، وتعزيز مكانة حضرموت كمركز ثقافي عالمي للصقارة بالتعاون مع شيوخ القبائل, وإدراجها تحت مظلة المؤسسات المحلية والدولية المختصة, وتوسيع حضورها”، مؤكدا أن هذه المشاركة مثلت انطلاقة مهمة عكست الجهود المبذولة لتطوير الرياضة محلياً, معرباً عن عزمه على تعزيز المشاركة المستقبلية، وتطوير أداء الفريق؛ لتحقيق إنجازات أكبر.
تحديات وطموح
في ذات السياق يتحدث الصقار عبدالقادر العيدروس، قائلا: “هذا الإنجاز لم يكن سهلًا؛ واجهنا تحديات كثيرة من نقص الأدوات، لكننا صنعناها بأيدينا وبعشقنا للصقارة”.
بدأ العيدروس رحلته منذ الـ13 من عمره، ومنذ التحاقه بالجمعية عام 2023م، أخذ على عاتقه النهوض بهذه الرياضة، ويضيف لمنصة ريف اليمن: “بدعم وإشراف الدكتورعلي الهميمي، تم إنشاء الجمعية, وكان للأستاذ علي باشعيب نائب الجمعية، والأستاذ صلاح باوزير دوراً كبيراً في تحقيق هذا الحلم, الدولة لم تُبدِ اهتماماً برياضة الصقور، لكننا تجاوزنا كل الصعاب”.
ورغم الإنجازات، “هناك تحديات، أبرزها: ضعف الدعم المالي لتنظيم الفعاليات، والتغيرات البيئية التي تقلِّص مَوَاطن الصقور، بالإضافة إلى غياب الرعاية البيطرية المتخصصة، وضعف الوعي حول أهميتها كموروث ثقافي يجب حمايته, وغياب البنية التحتية”، بحسب الدكتور الهميمي. ويؤكد أن الجمعية تسعى إلى تحقيق استدامة مالية وإدارية لضمان استمرار أنشطتها، وإدراج الصقارة تحت مظلة المؤسسات الدولية.
في ذات السياق يقول “أحمد سليمان”، اختصاصي بيئي في مجال الطيور: “الصقارة تحمل في طياتها عمقاً ثقافيا يجب ممارستها بشكل يحترم الطبيعة والبيئة, وبناء هياكل تنظيمية للحفاظ عليها وتطويرها”.
ويلفت سليمان إلى أن “التدهور البيئي, والصيد الجائر، وفقدان البيئات الطبيعية, وتجارة الصقور وبيعها؛ يشكل خطرا كبيرا على الصقور البرية، واستدامة هذه الرياضة, لذا يجب تطبيق قوانين صارمة لحمايتها”.
ويرى العيدروس أن الظروف الاقتصادية التي تؤثر على توافر المستلزمات الضرورية للعناية بالصقور, وغياب الدعم الرسمي والمراكز المتخصصة يجعل من تدريبها والعناية بها أمرًا أكثر صعوبة مقارنةً بالدول الأخرى.
ويؤكد أن العناية بالصقور تتطلب توفير غذاء متوازن؛ حيث تُعد لحوم الحمام والقمري الأفضل، بينما يُنصح بتجنب لحوم الأغنام والدجاج لفترات طويلة، لأنها تؤدي إلى ضعف الريش وتكسُّره.
حماية التنوع البيئي
إلى جانب الجهود المبذولة في تطوير الصقارة كرياضة، تسعى الجمعية اليمنية إلى تعزيز الوعي بالصيد المستدام؛ لحماية الصقور البرية التي تمر عبر حضرموت خلال هجرتها السنوية من الانقراض والاتجار غير المشروع، حيث أشار الدكتور الهميمي إلى أن الجمعية تعمل على تنظيم حملات توعوية، وبرامج لحماية الطيور، بالإضافة إلى تعليم الأجيال الجديدة أساليب الصقارة التقليدية، بما يضمن استمرار هذه الرياضة كجزء من الهوية الثقافية اليمنية، ومراقبة أعداد الصقور البرية وحمايتها, والسيطرة على أعداد الطرائد؛ مما يحدُّ من الإضرار بالنظام البيئي.
تعود جذور الصقارة في اليمن إلى قرون طويلة، وارتبطت بالقبائل البدوية التي جابت الصحاري والوديان، معتمدةً عليها في الصيد وتأمين الغذاء, وتعتبر رمزًا للقوة والمهارة والاعتزاز بالنفس في الثقافة اليمنية, وتناقل هذا الفن عبر الأجيال وبشكل فردي.
وتُستخدم الصقور في القصص الشعبية والأشعار التي تمجد المهارات والخصال الحميدة للصقار, وتنظم القبائل مسابقات وعروضًا للصقور يبرز أهميتها كجزء من الهوية الثقافية, وارتبطت بكرم الضيافة، حيث كانت الطرائد التي يتم صيدها تقدم في والمناسبات الاجتماعية الكبرى.
وينوه الهميمي بأن الصقارة ارتبطت بالعادات والتقاليد اليمنية، وتُمارس في المناسبات الاجتماعية، وتعتبر رمزًا للفخر العائلي أو القبلي, بينما تتبادل الصقور كهدايا ثمينة بين الأصدقاء والزعماء القبليين، مما يعزز الروابط الاجتماعية, بالإضافة لاستخدامها في الصيد الجماعي، بما يعكس التعاون والتلاحم في المجتمع.
ورغم أنها رياضة تراثية، إلا أنها تحمل بُعدًا اقتصاديًا، فهي تسهم في تنشيط السياحة الثقافية في اليمن, فالمهرجانات والمسابقات التي تنظمها الجمعية اليمنية لرياضات وسباقات الصقور تستقطب الزوار المهتمين بهذه الرياضة.
أقدم الرياضات العربية
يتوارث الصقارون اليمنيون طرقًا فريدة في صيد الصقور، أبرزها استخدام الشبكة المثبتة على ظهر الحمامة على مسافة حوالي 30 مترًا من مكان الصقار وتربط بحبل فينجذب إليها الصقر ويهبط لافتراسها، ويعلق في فخٍ مُحْكم، قبل أن يقترب الصقار منه بحذر، مغطّيًا رأسه بـ”البرقع” لتهدئته.
وللصقور أنواع عدة تشمل: “الشواهين الجبلية”، ويُستخدم لصيد الطرائد الصغيرة, والوكري وهو من أسهل الصقور تدريبًا، ويستخدمه المبتدئون, أما “الصقر الحر” فهو الأقوى والأكثر قدرة على التحمل، ويُستخدم في الصيد الشاق.
تعد الصقارة من أقدم الرياضات العربية، ويعود تاريخها إلى 4000 سنة, وامتدت هذه الممارسة إلى ما قبل الإسلام وفي القرآن الكريم، تم ذكر “الجوارح” كوسيلة للصيد. ومع مرور الزمن، أصبحت الصقارة مرتبطة بالمكانة السياسية والاجتماعية، حيث كانت تُدار من قبل “أمير الصقار”، وهو منصب رفيع في بعض الدول الإسلامية.
في عام 2010، أدرجت منظمة اليونسكو الصقارة ضمن التراث الثقافي غير المادي للبشرية، وتُمارس هذه الرياضة في أكثر من 90 دولة حول العالم. ويؤكد الدكتور عبدالرحمن بادعام، أحد الصقارين اليمنيين البارزين، أن الصقارة ليست مجرد هواية، بل هي فن يعكس العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ويجب أن تحظى بمزيد من الاهتمام لضمان استمراريتها.
ورغم التحديات، تسعى الجمعية اليمنية لرياضات وسباقات الصقور إلى تحقيق توازن بين الحفاظ على التراث وتطوير الرياضة بما يتماشى مع متطلبات العصر، واضعة نصب أعينها هدفًا أساسيًا يتمثل في تعزيز مكانة اليمن عالميًا في مجال الصقارة، وبناء جيل جديد من الصقارين يحملون هذا الإرث بفخر نحو المستقبل.
صورة الغلاف: صقر في مهرجان ذهباء العاشر للموروث الشعبي بمديرية عسيلان شبوة شرقي اليمن، فبراير 2025 (تصوير: عمار نميش)