تعرضت الطفلة زينب البالغة من العمر 8 سنوات، لحروق وتشوهات جسدية، بسبب كيّها بالنار في مناطق مختلفة من جسدها، أبرزها رقبتها ورأسها وبطنها، بهدف علاجها من آثر موقف صعب تعرضت له، إثر انتحار والدها أمامها في محافظة عمران (شمالي اليمن).
وبدلاً من عرض الطفلة على طبيب نفسي، سارعت جدتها وعائلتها إلى نقلها إلى إحدى العاملات في العلاج الشعبي، بهدف كيها بالنار، فهم يعتقدون أن ذلك يقيها من الصدمة، لكنه ألحق بها أضراراً بالغة، وظلت لأيام تعاني من الآلام.
العلاج بالكيّ وسكان الريف
وفي ظل غياب نظام صحي في العديد من المناطق الريفية والنائية؛ يلجأ الكثير من السكان إلى استخدام أساليب علاج تقليدية، كالعلاج بالكي الذي أصبح وسيلة مفضلة لدى الكثيرين باعتباره حلاً سهلاً ومتاحاً، ولا يتطلب تكاليف باهظة أو معرفة طبية متخصصة، وعادة من يقومون بهذه العمل كبار في السن.
زينب ليست وحدها من يعاني، إذ يروي استشاري الباطنية الدكتور وهاج المقطري عبر حسابه في الفيسبوك قصة مأساوية لطفل يبلغ من العمر 14 عاماً، تعرض لاضطراب ما بعد الصدمة بسبب مقتل اثنين من أصدقائه في حارتهم بمنطقة الظليمة بمحافظة عمران.
وأضاف المقطري: “بعد ثلاث سنوات من ممارسة الشعوذة جاءوا به للعيادة وأخبروني أنهم قد يئسوا من علاجه، وأثناء إجراء الفحوصات الطبية، وجدت في بطنه وظهره وكتفيه أكثر من أربعين علامة كي بالنار بطريقة وحشية”.
وتتم عملية الكي بتحديد مناطق الألم باستخدام رماد الفحم، قبل أن يتم تسخين سيخ حديد حتى الاحمرار، ومن ثم وضعه على جسم المريض. ويقول نبيل محمد (40 عاما)، وهو معالج شعبي في محافظة حجة:” لا تحتاج هذه المهنة لأي دراسات، وتؤخذ بالخبرة”.

ويوضح محمد لمنصة ريف اليمن أنه ورث هذا العمل عن والده الذي كان يعالج الناس بهذه الطريقة. ويقول: “نحن لا نجبر أحداً على الكي، فهم يأتون إلينا من أجل العلاج للتخلص من الأمراض، ونحن نقوم بخدمتهم مقابل مبالغ بسيطة”.
وتختلف أسعار الكي بحسب مكانها ونوعها، وبحسب محمد، فإن الأسعار تتراوح بين 800 ريال إلى 8 آلاف، على عملية الكي الواحدة، أي ما يعادل 15 دولارا بحسب صرف المنطقة التي يتواجد فيها.
الطفلة أمل البالغة من العمر 5 سنوات، هي الضحية الأخرى؛ إذ وصلت إلى إحدى العيادات الجلدية في صنعاء في حالة صراخ مستمرة من شدة الألم الذي أصابها بسبب الكي.
مضاعفات خطيرة
تقول دكتورة الجلد حنان يحيي التي استقبلت الطفلة في عيادتها: “ظنت أسرة الطفلة أن الكي هو علاجها المناسب كي تستعيد نطقها الذي فقدته إثر صدمة عصبية تعرضت لها، وقاموا بكيّ فروة رأسها وصدرها بحجة تنشيط الأعصاب من قبل معالج تقليدي جعلها تصاب بحروق من الدرجة الثالثة”.
وتؤكد الأخصائية في العلاج الطبيعي رفيدة فيصل أن “الكي يؤدي في حالات كثيرة لمضاعفات خطيرة مثل تلف الأعصاب، وضمور العضلات، وتشوهات دائمة”.
وتضيف رفيدة -التي تعمل في مستشفى الأطراف بصنعاء- في حديثها لمنصة ريف اليمن: “يوفر الطب الحديث بدائل آمنة مثل الكي بالليزر الذي يتم تحت إشراف طبي دقيق وبنتائج فعالة دون آثار جانبية”.
أما الدكتورة سبأ الجرادي أخصائية طب الأطفال فتقول إن “العديد من الأطفال الذين يُعالجون بالكيّ يعانون من حروق شديدة وبدرجات مختلفة تصل في حالات للوفاة، إضافة لتشوهات وتفاقم حالة الطفل من مرضه الحقيقي”.

وكما أن للعلاج بالكي أضرار موضعية، فإن له كذلك مضاعفات نفسية، حسبما أكدت الدكتورة منيرة مهدي وهي أخصائية نفسية، أن “الأضرار النفسية الناتجة عن الكيّ تكون بالقلق المستمر، والخوف، وفقدان الثقة بالنفس”.
وتلفت إلى أن “الأطفال الذين يتعرضون لهذه الممارسات يواجهون صعوبة في التكيف الاجتماعي، ويجلسون في ترقب دائم لتعرضهم للغدر من قبل عائلاتهم”.
وتنتشر هذه العادة في أرياف مختلفة، ففي ريف محافظة الحديدة كان الطفل محمد الذي لم يتجاوز عمره ستة أشهر يعاني من انتفاخ في بطنه، وبدلاً من شراء علاج الانتفاخ من أقرب صيدلية لجأت والدته إلى العلاج الشعبي رغم صغر سنه.
تم بالفعل نقل الطفل إلى منزل أحد المعالجين الشعبيين، والذي قام بكيّ بطن الطفل بأكثر من 20 مرة باستخدام “الميسم” (سيخ معدني محمى بالنار). يقول والد الطفل، الذي يعمل بائعًا متجولا: “لم أتمكن من تحمل تكاليف العلاج الطبي بسبب ضيق الحال وارتفاع سعر الأدوية في المستشفيات” مبرراً أن الكي كان يستخدمه الأجداد، لكنه أصيب بنكسة حين رأى نتيجة كي طفله ساهمت بمضاعفة الألم؛ فهو يعاني من حروق وتشوهات.
وتشير أخصائية الجلد الدكتورة حنان يحيى في حديثها لمنصة ريف اليمن، إلى أن “تحمُّل الأطفال للألم الناتج عن الكيّ بالنار ضعيف مقارنة بالبالغين؛ كون جلدهم رقيقاً وأكثر حساسية وعرضة للتلف، ويصعب علينا في حالات كثيرة معالجتها”.
استخدام خاطئ
ترى أستاذ علم الاجتماع بجامعة ذمار الدكتورة نجاة مطاع أن استخدام الكيّ بالنار ينتشر بشكل كبير في المجتمعات التي لا تزال تؤمن بالإرث الثقافي في معالجة الأمراض؛ لأنهم يعتبرون ذلك حلاً قليل التكلفة، لكنهم لا ينظرون إلى المخاطر المترتبة على ذلك.
أما الدكتورة سندس المرصد، اخصائية طب وجراحة عامة فتقول: “النساء الكبيرات في السن في القرى أو حتى المدن هنّ من أكثر الفئات العمرية اعتقاداً بالكي لعلاج الأمراض”.
وأضافت لمنصة ريف اليمن “خلال تطبيقي في العديد من مستشفيات العاصمة صنعاء، شاهدت ضحايا للكي بشكل مأساوي، يعانون من تشوهات وحروق وقيح للحروق وتلوث، إذ شاهدت طفلة ذات عامين قادمة برفقة أهلها من إحدى القرى، وآثار الكيّ تملأ بطنها. أستطيع القول بأنهم شوهوا الطفلة بدم بارد”.

وأوضحت بأن “الطفلة في الأصل كانت تعاني من مرض الكبد”، لافتة إلى أن للكي مخاطر كبيرة مثل التسبب بعدوى بكتيرية، وحروق وتشويه، بالإضافة إلى قسوة التعذيب بالنار للمريض.
عبد الله علي ذو الخمسة والعشرين عاما، لا يزال بعد عامين من تعرضه لحادث صدام يحمل آثار الكي خلف رقبته، ويقول: تعرضت لحادث بسيط ولم أصب بأذى، وعند عودتي للمنزل وبشكل مفاجئ أحسست بحرق في رقبتي تحت مبرر “اتعالج من الفجعة”.
ويعتقد أن للعلاج بالكي فوائد، لكن سوء استخدامه يعود بالضرر، ومن التقاليد أيضا أن من يرفض الذهاب الى من يقومون بهذا العمل، يتم كيه بالنار بأي طريقة، كأن يقوم رب الأسرة وضع سيجارة على رقبته، أو عود ثقاب(الكبريت)، ويتم ذلك بشكل مفاجئ حتى تخرج الفجعة، كما يعتقد الكثير من سكان الأرياف، وحتى بعض القاطنين في المدن.
ويعد العلاج بالكي من أقدم طرق العلاج، حيث تذكر المصادر التاريخية أن المصريين عرفوه قبل نحو ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، واستخدموه لاستئصال الأورام ووقف النزيف وعلاج الدمامل، وانتقلت هذه الوسيلة إلى عصر النهضة الإسلامية، حيث استخدمها الأطباء المسلمون لعلاج مختلف الأمراض، غير أن استخدامه دون معرفة واحترافية يتحول إلى مشكلة.