على عكس الهجرة الشائعة مِن الريف إلى المدن بحثا عن فرص أفضل للحياة، اتجه أحمد صالح إلى ريف مديرية دمت بمحافظة الضالع للبحث عن عمل، وذلك بعد أن عانى شهورا من البطالة بسبب خسارته وظيفته سكرتيرا في إحدى المؤسسات في المدينة، وقد نقل معه خبراته وعاداته ليتبادلها مع المجتمع المستضيف على قاعدة التأثير والتأثُر الاجتماعيين والثقافيين.
لم يكن القرار سهلا بالنسبة لأحمد، فهو يعيش في مركز المدينة مع أسرته، ولم يعتد مفارقتها منذ أن تزوج قبل خمسة أعوام، لكن غياب البدائل المتاحة دفعته للهجرة باتجاه قرية صديقه في مخلاف الحبيشية الذي يبعد حوالي ٣٠ كيلومترا، وذلك بعد أن عرض عليه فكرة المجيء للتدريس مقابل راتب شهري يدفعه أولياء الأمور في ظل انقطاع رواتب المعلمين، مما نجم عنه نقص في الكادر التدريسي.
في العادة يهاجر أبناء الريف نحو المدن الرئيسية لاستكمال التعليم والبحث عن فرص العمل بسبب تركز التنمية والخدمات، فيما تغيب عن الريف الذي يعيش فيه نحو ٧٥% من السكان المعتمدين على الأنشطة الزراعية، مثل زراعة المحاصيل وتربية الماشية، بحسب تقديرات سابقة لوزارتي الزراعة والريّ والتخطيط والتعاون الدولي.
لكن الحرب المستمرة منذ سنوات والتداعيات الناتجة عنها اقتصاديا، بما في ذلك توقف صرف الرواتب، حفّز المبادرات العامة لدى الأهالي الذين تقاسموا مرتبات المدرسين، ما شجع كثيرا منهم للمجيء بحثا عن رزق أو استقرار مؤقت أو دائم، مما يعزز الاندماج الاجتماعي والتأثير المشترك، ويغير الصور النمطية عن بعض المناطق لدى أبناء مناطق أخرى.
فرص الهجرة للريف
مر أكثر مِن عامين، منذ بدأ أحمد يدرّس عدة مقررات في مدارس مختلفة، منها: التربية الإسلامية والجغرافيا، بالإضافة إلى التاريخ، فهو تخصصه العلمي الذي يحمل فيه درجة البكالوريوس.
يتحدث أحمد عن تجربته لمنصة ريف اليمن بالقول: “الظروف تجعل المرء يقبل بأي عمل، فما بالك بالوضع الراهن؟! ولحُسن حظي أني وجدت فرصة في مجال تخصصي، بغض النظر عن أن الراتب ٥٠ ألف ريال ويُصرف بشكل مؤقت، لكن هناك جانب إيجابي، وهو أني لا أصرف منه إلا على المواصلات عند العودة، فالتغذية يتكفّل بها أهل القرية، وأحيانا يوفرون المصاريف، فأستطيع أن أغطي إيجار الشقة في المدينة والالتزامات الأخرى”.
وبفضل تعاون كثير من سكان القرى والتزامهم بتوفير مرتبات المعلمين لتعليم أولادهم بمساعدة بعض المغتربين، استمرت العملية التعليمية في مناطق مختلفة، مما أسهم في بقاء أبواب المدارس مفتوحة، وضمن عدم انضمام آلاف التلاميذ إلى الأمّية المرتفعة في الريف.
ونتيجة لهذا الالتزام واستشعار أهمية التعليم من قبل الأهالي، حظي كثير من المعلمين والعاملين في المدارس، القادمين من مناطق ذات اكتفاء في أعداد المعلمين، بفرص عمل ساعدتهم كثيرا على تحمّل أعباء الحياة، وقد انتقل بعضهم مع أسرته للسكن بالقرب من مقر العمل، في ظل توفر السكن المجاني والمياه، وتوفر المواد الغذائية أحيانا.
يقول الصحفي الاقتصادي، وفيق صالح، لمنصة ريف اليمن: “على الرغم من أن الريف يعد من أكثر المناطق فقراً في اليمن، ثمة نماذج لافتة، يلعب فيها الريف دوراً في توفير فرص عمل لبعض أبناء الريف أيضا الذين يتنقلون من مكان إلى آخر في نطاقه، وهو ما يعرف بالاقتصاد الريفي”.
ويضيف: “هناك عدد من التجارب والخبرات التي تشكلت وانتقلت من منطقة إلى أخرى في العهد الجمهوري، نتيجة إقبال الناس على التعليم في المدارس، وانضواء كثير من المتعلمين من أبناء الريف في مهنة التدريس، وهو ما جعل هذه الخبرات تتوزع في مناطق الريف، ليشكل بعد ذلك قطاع التعليم وعاءً يستوعب منه المعلمين في القرى”.
تجربة ثرية
على مدى أكثر من عشرين عاما، تخرّج على يديه عشرات، إن لم يكن مئات الطلاب، وأصبح بعضهم ذا شأن في المجتمع، وما يزال عبد الرحمن قائد غالب محمد (52 عاما)، يواصل مهنته معلما بكل شغف وحب. وتنقل بين عدة مدارس ومعاهد في أربع قرى ومناطق مختلفة، ولم يستسلم للواقع حتى حينما توقّف راتبه الحكومي، بل استمر في عمله انطلاقا من شعوره بالواجب تجاه الطلاب.
ومن المدارس التي ترك بصمته فيها مدرسة أبي ذر الغفاري، مدرسة الشهيد عبد الرحمن، مدرسة النهضة، مدرسة اليرموك والمعهد التقني، فضلا عن مدارس أخرى، وكلها في قرى نائية بالمحافظة.
رغم التغيير الذي تركته الحرب في اليمن، هناك فرص إيجابية يمكن استغلالها في الريف ودعمها لتحسين سُبل العيش.
تتلخص فلسفة المعلم عبد الرحمن المنتمي إلى عزلة “عدينة” بمديرية جبل حبشي بمحافظة تعز، في حبه للعلم والتعليم، وحِرصه على رؤية طُلاب متفوقين ومتميزين يسعون لِخدمة الوطن والمواطنين في المستقبل، وقد أرغمته زيادة الطلب والإقبال نحوه من جهة الطلاب ومن جهة أولياء أُمورِهم، على تلبية طلبهم وطلب أبائهم كي يؤدي الرسالة التعليمية لأبنائهم.
وبجانب تلك الصفات التي أكسبته حب الناس، يملك عبد الرحمن القدرة والكفاءة على تدريس عدة مواد، مثل: الكيمياء، الفيزياء، الأحياء والرياضيات لطلاب الصف التاسع والمرحلة الثانوية، بالإضافة إلى تدريس دورات تأهيل وتدريب لاجتياز امتحانات القبول الجامعية في الطب والهندسة وغيرها.
هذا الحضور المهيب في نفوس الناس جعله يصف علاقته بالطلاب بأنها “علاقةٌ لينة وممتازة كعلاقة أب بأبنائه”، ولذلك لم يكن غريبا أن يكون بعضهم من المتفوقين الذين حصلوا على منح دراسية داخلية وخارجية، ويُرجع ذلك في حديثه لمنصة ريف اليمن قائلا: “إحداث ثورة في قلوب وعقول الطلاب أشعلت رغبتهم وحبهم للتعليم والثقة التامة بي معلما لهم، وقد بثّ هذا في قلوب أهاليهم الطمأنينة والتأمين على مستقبل أبنائهم، وهذه الثقةُ الزائدة بي والإقبال الزائد نحوي دفعني للاستمرار في التعليم وعدم التراجع عن هذا المسار”.
فرص أخرى
ويعتمد سكان الريف بشكل كبير على الزراعة كمصدر للعيش، وتشير تقديرات الإحصاء الزراعي أن محاصيل الحبوب تشكل ٥٦% من إجمالي المساحة المزروعة، يأتي بعد ذلك القات الذي يُزرع في معظم المحافظات بنسبة ٢٠%، ويعمل في زراعته وتسويقه أكثر من مليون عامل، وفق تقديرات، ويشكلون ثلث العمالة الزراعية، كما يرفد خزينة الدولة بعائدات متزايدة من الضرائب.
وتختلف عدد مرات قطفات القات اعتمادا على طريقة السقي، فإذا كان مرويا، فإنه يمكن قطفه ثمان مرات، ولا يقل عن أربع مرات سنويا، وإذا اعتمد السقي على المطر، فقد يُقطف ثلاث مرات بالسنة، وهذا أحد الأسباب وراء توسع زراعته.
ويمكن لأي مقاول أن يأتي من محافظة أخرى مع عماله لمقاولة مزرعة قات في قرية وقطفها وبيعها في عدة مدن، كما يُمكن لمن يُطلق عليهم “الأُجراء” الذين يستأجرون أرضا من صاحبها ويتولون زراعتها، أن يستغلوا مساحات صالحة لزراعة القات، وينتقلوا مع أسرهم للعيش في تلك المناطق، وبهذا تُخلق فرص عمل بشكل مباشر وغير مباشر ومن خارج مناطق زراعته المعروفة.
ويرى صالح أن كثيرا من أبناء الريف يتنقلون بين القرى أثناء مواسم الحصاد الزراعي لوفرة الفرص في الجانب الزراعي في مواسم الإنتاج والحصاد. وعلى الرغم من وجود هذه الفرص، هناك عدد من التحديات التي تواجه المزارعين وتعيق تحسين مدخولهم يلخصها البروفيسور إسماعيل عبد الله محرم، رئيس الهيئة العامة للبحوث والإرشاد الزراعي السابق، في عدم توفر مدخلات الإنتاج بأسعار مناسبة والحصول على قروض ميسرة في ظل ارتفاع أسعار مدخلات الأسمدة والبذور وشبكات الري الحديث وعدم توفرها في كل المناطق.
بالإضافة إلى ذلك، يضيف محرم أن الإقراض والتمويلات الزراعية تحتاج إلى إجراءات لا يستطيع المزارع الوفاء بها، مثل: الضمانة التجارية أو رهن مستندات الأرض، ولا يملكها أكثر المزارعين؛ لأنهم أُجراء في هذه الأراضي وليسوا مُلاكا، بالإضافة إلى تخوّفهم من مصادرة الأراضي في حالة تعثرهم عن سداد القرض، وبالتالي لا يستفيد من هذه القروض إلا الميسورون.
وللمساعدة في التغلب على ذلك، يقترح محرم في دراسته “واقع الإنتاج الزراعي في اليمن – التحديات والفرص”، جملة من الإجراءات، مثل “ضرورة مراعاة ظروف وإمكانيات صغار المزارعين بما يضمن الحصول على القرض، وإعادة صياغة اشتراطات الإقراض للمنتجين الزراعيين أو التمويل، وإمكانية السداد والحصول عن طريقها على التمويل والإقراض.
القروض والتمويلات الزراعية تحتاج لإجراءات لا يستطيع المزارع الوفاء بها، مثل: الضمانة التجارية أو رهن مستندات الأرض، ولا يملكها أكثر المزارعين، وبالتالي لا يستفيد من هذه القروض إلا الميسورون.
إسماعيل عبد الله محرم، رئيس هيئة البحوث والإرشاد الزراعي السابق
كما يقترح تشجيع إنشاء الجمعيات الزراعية المتخصصة، والحصول عن طريقها على التمويل والإقراض، إضافة إلى إيجاد آلية لتسويق المنتجات، ويكون البنك طرفا فيها لضمان الإنتاج والتسويق، والسماح للمرأة بالحصول على التمويل والإقراض بغرض تحسين الإنتاج وتسويقه، وإيجاد آلية مستدامة لتسويق المنتجات الزراعية”.
ويعتقد المسؤول الزراعي السابق أنه إذا حدث ذلك، فستتوفر كثير من الفرص في القطاع الزراعي مثل “تحسين بيئة وآلية التمويل، والإقراض للمنتجين الزراعيين، وإيجاد أسواق للمنتجات الزراعية واستدامتها، وتشكيل جمعيات زراعية عامة ومتخصصة بغرض تحسين الإنتاج وتسويقه والحصول على التمويلات والقروض، علاوة على استغلال الموارد المحلية والتدريب والتأهيل للكوادر، وتوفير فرص عمل، والحد من الهجرة، وتحسين النشاط الاقتصادي ودخل الأسرة”.
التأثير المشترك
انتقال الشخص من منطقة إلى أخرى ليس تغييرا في المكان فحسب، بل تغيير في الثقافة والخبرات والمفاهيم والدخل، ويعتمد نتيجة هذا التحول على عوامل كثيرة تترك أثرها سلبا أو إيجابا على الوافد الجديد وبيئته المؤقتة أو الدائمة.
وحول ذلك هذا الأمر، يرى الدكتور عبد الكريم غانم، أستاذ علم الاجتماع السياسي، أن “تأثير وتأثر العمال الزراعيين وأصحاب المهن الحرة الذين انتقلوا إلى قرى أخرى للعمل والإقامة المؤقتة أو الدائمة، يرتبط بمستوى ثقافتهم، ومدى احتياجهم للاندماج الاجتماعي في هذه القرى، فإذا كانت العمالة الوافدة من بيئة لها ثقافة أكثر تطورًا، فالمرجح أنها ستنقل بعض هذه العناصر الثقافية إلى القرى التي هاجرت إليها، ومنها على سبيل المثال أساليب العمل وأدواته، ونمط الحياة الذي تتبعه”.
وفي حديثه لمنصة ريف اليمن، يلفت الانتباه إلى أن “الاندماج الاجتماعي يتطلب من العمالة الوافدة الإلمام بالاتجاهات والمعايير الاجتماعية المعمول بها في هذه القرى تجنبًا للوقوع في أي ممارسات يرفضها المجتمع المحلي في القرية، فإذا كانت المجتمعات القروية محافظة، فالمرجح أن يكتسب العامل المقيم القيم والاتجاهات الأصولية، ويمكن أن يعود بها إلى مجتمعه الأصلي، مثل تجنب الاختلاط بالنساء خارج مؤسسة الزواج والأسرة وما يرتبط بهذا الاتجاه من ثقافة مادية، مثل تغيير شكل البناء ونمط الأزياء”.
ورغم التغيير الذي تركته الحرب والمتغيرات المصاحبة على الحضر والريف، هناك فرص إيجابية يمكن استغلالها في الريف ودعمها لتحسين سُبل العيش والاندماج المتبادل.