في مطلع عام 2023، تعرّض المواطن علي محمد (55 عاما) للإصابة بـ”الغرغرينا”، وكان بحاجة للمعاينة اليومية، لكن قريته الريفية بوادي الجنات بريف محافظة إب، تفتقر إلى مركز صحي، فلم تجد أسرته من خيار غير نقله إلى إحدى مستشفيات المدينة التي تبعد نحو 20 كيلومترا وتحمل تكلفة مضاعفة.
طريق القرية وعرة ولا تستطيع السيارات الصغيرة عبورها، الأمر الذي ضاعف معاناة محمد، وأجبرته على بيع جميع ممتلكاته من أجل توفير تكاليف العلاج في المستشفى، وسبق أن توفي طفل بعمر 8 سنوات بسبب لدغة ثعبان بينما كان في طريقه إلى اقرب مركز صحي لإسعافة.
وادي الجنات في إب
يعاني سكان قرى وادي الجنات الذين يقدّرون بـ4 آلاف نسمة، ويتوزعون على نحو 26 قرية، من غياب المرافق الصحية ونقص الرعاية الصحية والطرق الوعرة، وذلك ينعكس سلباً على حياة المرضى، الذين لا يستطيعون السفر لتلقي العلاج في المدينة.
يقول نجل علي محمد لمنصة ريف اليمن: “لو كان لدينا مركز صحي أو طبيب في القرية، لكان الأمر هينا بالنسبة لنا، ولن نضطر إلى بيع ما نملك بسبب التكاليف الكبيرة”، وقبل وفاته بأسابيع كان محمد قد باع قطعة أرض في المنطقة، لتغطية تكاليف السفر ذهابا وإيابا إلى مدينة إب لتلقي العلاج، فهو بالإضافة إلى الغرغرينا، كان يعاني من مرض السكر، وهو ما أدى إلى وفاته في سبتمبر عام 2023.
يضيف نجله لمنصة ريف اليمن: “حالة والدي كانت تتطلب وجود اثنين من المرافقين لمساعدته؛ لأنه كان طريح الفراش، وهو ما كان يضاعف من تكاليف السفر بشكل شبه يومي، وفي الغالب كان يُحال للرقود لأيام، نحمد الله على كل حال”.
تماما مثل محمد، فقد الطفل “بلعيد” حياته عندما لدغته أفعى بمحيط قرية الحيفة، ولم يتمكن الأهالي من إسعافه لغياب مركز صحي قريب.
ظلّ الطفل بلعيد البالغ من العمر 8 سنوات لفترة طويلة طريح الفراش؛ لأن والده كان حينها يعمل بالأجر اليومي بمحافظة الضالع، وحاولت بعض أسرته تقديم ما بوسعهم مداواته مثل الثوم واللبن وغيرها من الأعشاب الطبيعية، لكن دون جدوى، وساءت حالته الصحية.
بعد ساعات من اللدغة، نُقل الطفل على متن سيارة دفع رباعي قديمة إلى أحد مستشفيات المدينة، لكنه لقي حتفه قبل أن يصل، وهناك حاول رجال التمريض إنعاشه، لكن السم القاتل كان قد انتشر في مختلف أنحاء جسمه.
بحسرةٍ يقول والد الطفل لمنصة ريف اليمن: “توفي طفلي بلدغة ثعبان، وكان من الممكن إنقاذه في دقائق. حالته الصحية كانت تتطلب فقط جرعة أمصال مضادة، لكن انعدام المراكز الصحية في قريتنا حال دون ذلك”.
الدراجات النارية وسيلة إسعاف
الطفل هشام كُسرت ذراعه اليسرى، بسبب سقوطه من شجرة “التين” القريبة من منزلهم، فاضطر والده إلى إسعافه للمستشفى الذي يبعد نحو 20 كيلومترا عن قريته على متن دراجة نارية رغم الخطورة الكبيرة.
يعمل والد الطفل هشام في الزراعة وتربية الحيوانات، ويقول لمنصة ريف اليمن إنه اضطر للتنقل بالدراجة النارية بسبب انخفاض تكلفتها وسرعة الوصول إلى أقرب مجمع صحي، لكن ذلك زاد من ألم الإصابة التي تعرض لها طفله، بسبب وضعية الجلوس الخاطئة والطريق الوعرة.
وقد استغرقت الرحلة نحو ساعة كاملة على متن الدراجة النارية، وهناك تلقى هشام الإجراءات الطبية اللازمة، ثم عادوا إلى منزلهم في المدة نفسها، وقد تكرر ذلك مراراً عند متابعة الحالة.
وبفعل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها أبناء المنطقة مع وعورة الطريق وصعوبة التنقل، لا يستطيع كثير منهم إيصال الحالات الحرجة إلى مستشفيات المدينة أو مراكز صحية أخرى تبعد عنها عشرات الكيلومترات، وسبق أن توفيت حالات في الطرق عند نقلها بمركبات قديمة إلى مؤسسات صحية متخصصة.
وغالبا ما يُسعف المرضى وكبار السن الذين يتعرضون لنوبات مفاجئة، وكذلك النساء الحوامل اللاتي لم يتمكن من الولادة الطبيعية إلى المراكز الطبية في المدينة، على متن مركبات قديمة (لم تعد موجودة إلا في بعض القرى)، ويُعد ذلك مشوارا خاصا يكلّف ما يقارب 50 دولارا، وهذا مبلغ غير يسير بالنسبة لسكان المنطقة الذين يعتمدون على الأجر اليومي بالأعمال الشاقة، أضف إليها تكاليف الولادة والوقود.
يقول محمد علي إن زوجته وفاء ولدت في صندوق سيارة نقل (شاص موديل 82) مغطاة بقطعة قماشية قبل سنوات، عندما حاول إسعافها من القرية إلى المدينة، وتعرضت لمضاعفات بسبب طريقة الوضع وعدم تعقيم الأدوات المستخدمة عند الولادة.
وأشار محمد في حديثه لريف اليمن إلى أنه اضطر بسبب المعاناة في القرية إلى الانتقال للسكن بالإيجار في منطقة ريفية أخرى؛ لأنها تقع قرب الخدمات كالمستشفيات وغيرها.
تطلعات السكان
أبدى المواطنون استعدادهم إلى تقديم الأرض والأحجار والأيدي العامة، لأي جهة قد تبادر في بناء مركز صحي يقدم الخدمات الصحية للمواطنين وتخفيف معاناتهم اليومية.
وبحسب السكان، سيخفف وجود مركز صحي في وادي الجنات من معاناتهم المستمرة منذ سنوات طويلة، وسوف يقلّل من انتشار الأوبئة في قرى المنطقة مثل: البلهارسيا، الكوليرا، الجدري المائي، الحصبة، والحمى وغيرها من الأوبئة المتنقلة، وغيرها من الأمراض.
يواجه اليمن عبئاً مضاعفاً من المرض والنزاع، يحتاج ١٧,٨ مليون شخص إلى مساعدات صحية. تشكل النساء ٢٤٪ حيث يحتجن للحصول على خدمات طبية وصحية إنجابية مختلفة، وفق ما أفادت منظمة الصحة العالمية في إبريل 2024. كما يشكل الأطفال ٥٠٪ من هذه الفئات، بمن فيهم ٥٤٠,٠٠٠ طفل دون سن الخامسة يحتاج إلى علاج منقذ للحياة بسبب الهزال الشديد١٠٪ منهم يعانون من سوء التغذية الحاد.
وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن قطاع الصحة في اليمن يعاني من عواقب الصراع المسلح، والتدهور الاقتصادي، والانهيار المؤسسي، وتواجه نسبة كبيرة من السكان تحديات في الحصول على الرعاية الصحية؛ إذ لا تعمل سوى 50% من المنشآت الصحية بكامل طاقتها، ويواجه أكثر من 80% من السكان تحديات كبيرة في الحصول على الغذاء ومياه الشرب وعلى خدمات الرعاية الصحية.