وأنت في مدينة يمنية كبيرة مثل صنعاء، أصبح مألوفا تستيقظ على صياح الديكة، أو تسمع ثغاء الغنم في فناء منزل مجاور، وتشاهد أناسا يجمعون الحطب، ونسوة يجلبن الماء على رؤوسهن، وكلها مظاهر لم تكن تشاهدها من قبل إلا في الأرياف اليمنية.
هذا ما يطلق عليه “ترييف المدن”، وهي ظاهرة لا تقتصر على صنعاء فحسب، بل تمد لتعم المحافظات الأخرى في بلد تعيش للعام العاشر على التوالي في حالة حرب، والتي انعكست آثارها في سلوكيات وحياة اليمنيين الذي أُجبرو على النزوح إلى مناطق يعتبروها أكثر استقرارا وأمان.
النزوح والتهجير
بحسب مختصين في البيئة والمجتمع تحدثوا لمنصة ريف اليمن، انتقلت كثير من خصائص الريف اليمني إلى المدن، بسبب النّزوح، وانعكست في سلوكيات الإنسان المقيم بالمدن، واستبدلت بأنماط عيش الريف.
يقول خبير البيئة الدكتور عبد القادر الخراز: “إن ترييف المدن أو تريف البيئة هو تحول في أنماط وسلوكيات العيش والأنشطة ذات الأصل الحضري، واستبدال أنماط وسلوكيات وأنشطة ذات أصل ريفي بها”.
وأضاف الخراز لمنصة ريف اليمن، أن ترييف المدن ناتج عن انتقال سكان من المناطق الريفية للمدن، لافتا إلى أن هذا الانتقال كان موجودا سابقا، لكنه لم يكن بتلك الأعداد التي ضاعفتها الحرب، ما أسهم في تريف المدن، وانتشار طبائع الريف فيها.
ويستشهد الدكتور الخراز عن ترييف المدن بمحافظة مأرب التي شهدت موجات نزوح كبيرة، فقد كان عدد سكانها 32,143 نسمة عام 2004، بحسب المركز الوطني للمعلومات، أما في 2022 بلغ تعداد سكانها (3,000,000) ثلاثة ملايين نسمة بعد استقبالها موجات من النازحين، وفق بيانات مجموعة الأزمات الدولية.
مبيناً أن هذا العدد الكبير سبب ضغطا على الموارد والبنى التحتية وغيرها، فالمدينة لم تكن مؤهلة، وهذا ما يحوّل المدن إلى أشبه بالريف من ناحية العشوائية، وطريقة السكن، أو حتى التعامل؛ إذ قد يحصل أن تنقل العادات والتقاليد كما هي وتبتعد عن الجانب الحضري.
وتشير التقارير الصادرة عن الأمانة العامة للمجلس الوطني للسكان في صنعاء إلى أن عدد النازحين ارتفع من 226 ألف في 2010 إلى 464 ألف في عام 2011، ليرتفع هذا الرقم إلى 2.5 مليون في 2015، ليبلغ في 2019 نحو 4 ملايين، أي نحو 13.7% من إجمالي سكان البلاد.
تدهور الخدمات
يقول دكتور علم الاجتماع في جامعة تعز محمود البكاري: “إن ما يطلق عليه ترييف المدن هو تعبير عن تدهور الخدمات الأساسية التي تميز المدينة عن الريف، وتجعلها عبارة عن تجمع سكاني يفتقد لما يحتاجه من معيشة وحياة مدنية”.
ويضيف لمنصة ريف اليمن: “حركة النزوح من الأرياف أدت إلى زيادة عدد سكان المدن، الأمر الذي أضعف الخدمات وتدهورت معه الحياة المعيشية، كما أن الازدحام السكاني أدى إلى حدوث مشكلة كبيرة، وهي انعدام توفر المساكن وارتفاع الإيجارات بصورة غير مقبولة”.
ويشير إلى الحلول التي قد تسهم في تقليل هذه الظاهرة، وتتمثل بتوفير الخدمات الأساسية لسكان الريف، وتخطيط المناطق القريبة من المدينة، أو ما يسمى بالتخطيط الحضري الذي يضمن إنشاء مدن ثانوية على تخوم المدن الرئيسية.
ويفتقد الريف في اليمن لكثير من الخدمات مثل التعليم والصحة والكهرباء والطرقات المعبدة، ويعاني السكان الذين يمثلون 70% من سكان اليمن، من حياة قاسية تفتقد لكثير من الخدمات، فقد أسهمت الحرب في توقف الخطط التنموية سواء بالريف أو الحضر.
ويعود الدكتور الخراز ليذكر أن الحرب أسهمت بشكل كبير في ترييف المدن، لكنه يؤكد أن الإشكالية هي من قبل، وتتمثل في غياب التخطيط السليم، وعدم وجود بنية تحتية من صرف صحي وشبكة مياه وكهرباء، وغيرها من الخدمات.
ترييف المدن
ويشير الخراز إلى تأثير عكسي بالنسبة للهجرة على المناطق الريفية، وهي هجرة الأيدي الماهرة بالزراعة، وهذا يؤدي إلى إهمال الأرض، وغياب النشاط الزراعي، موضحا أن الأراضي الزراعية فقدت خصوبتها بسبب ذلك.
وعن التأثيرات التي قد تطرأ على المدن، يقول: “هناك تزايد عشوائي للتجمعات السكانية غير المخطط لها، وتزايد لعدد السكان بشكل كبير، وتوسع لأنشطة مرتبطة بالريف بهذه المدن التي حصل لها ترييف بسبب موجات النزوح”.
وعن الحلول الممكنة للتخفيف من توسع هذه الظاهرة، يقول الخراز: “إن وقف الحرب سيساعد على تقليل هذه الظاهرة، وسيعود النازحون إلى مناطقهم، وسيتم تنفيذ مخططات عمرانية من شأنها أن تؤدي دورا في إعادة تأهيل المدن بالشكل المطلوب”.
ويشدد على إعادة الاعتبار للريف اليمني، والنظر الى أهمية الأنشطة الخاصة به ودعمها، وتأهيل المناطق الريفية لتقوم بدورها، خاصة فيما يتعلق بالجانب الزراعي، والجانب الحيواني، وغيرها من الأنشطة الريفية.
ويلفت إلى أن هذا سيساعد على عودة الأيادي العاملة، كما سيسهم في إيجاد مشاريع بالمناطق الريفية، وتوفير فرص عمل، تساعد السكان على البقاء في مناطقهم واستغلال أرضيهم الزراعية التي ستعود بالفائدة الاقتصادية على اليمن.
*الصورة.. يمنيان مع قطيع من المواشي في أحد شوارع صنعاء مارس 2024 (فيسبوك/ عبدالناصر العطاب)