تحولت مهنة التنقيب العشوائي عن الذهب -رغم أنها محفوفة بالمخاطر- إلى ملاذ أخير لعائلات سحقتها الحرب والفقر، ففي جبال حجة الشاهقة (شمالي اليمن)، يخوض آلاف المواطنين معركة يومية، ليس من أجل الذهب فقط؛ وإنما من أجل البقاء.
وتحت وطأة الحاجة ومخاطر الانهيارات الصخرية المفاجئة يحفر المواطنون الصخور، ويستنشقون الزئبق، ويحفرون بأيديهم الأرض؛ علّهم يجدون ما يسد رمقهم بالحصول على جرامات من الذهب يبيعونها بأبخس الأثمان، متجاهلين تحذيرات الخبراء من مخاطر الزئبق المميتة، والقانون الذي يحظر التنقيب العشوائي.
كنز محفوف بالخطر
ويتم التنقيب التقليدي عن الذهب بطريقة بدائية لاكتشاف الصخور التي تتضمن نسبا متفاوتة من الذهب، ويتم الحفر يدويا لاستخراج تلك الصخور، ومن ثم تكسيرها وطحنها وفصل ما بداخلها من معدن أصفر.
“مقداد العثماني”، أحد العاملين في التنقيب، يروي حكايته بالقول: “أغوص في أعماق الجبل إلى أكثر من 300 متر، متتبعًا نوعًا معينًا من الصخور التي قد تدل على وجود الذهب، في موسم الأمطار نواجه انهيارات مفاجئة، وقد راح ضحيتها مواطنون”، أحدثتها بحسب رصد منصة ريف اليمن، ما جرى في التاسع من يونيو الجاري، إذ توفى سبعة أشخاص أثناء عملهم في التنقيب عن الذهب، في منطقة بني ريبان بمديرية كشر، بالمحافظة.
ويضيف لمنصة ريف اليمن: “أجمع يوميًا ما بين 20 و30 كيلو من التراب، ثم أقوم بطحنها وخلطها بالماء والزئبق لاستخراج ما بين 5 إلى 6 جرامات من الذهب، كونه يجمع التراب يدويا ويختار الأكثر وفرة، وأقوم ببيعها في الأسواق الشعبية”.
مواضيع مقترحة
• الجفاف يهدد ينابيع المياه: نقص الأمطار يفاقم معاناة اليمنيين
• حجة.. الآبار المكشوفة كابوس يؤرق حياة السكان
• مخلفات الأبقار: بديل قاسٍ للغاز المنزلي في الريف
أما “محمد الحربي”، وهو أب لأسرة تعتمد بالكامل على دخل التنقيب، اكتشف مؤخرًا إصابة أحد أبنائه بالسرطان بسبب الزئبق، ويقول لمنصة ريف اليمن: “كنا نجهل أن الزئبق سام، واليوم أدفع ثمن جهلي من صحة أطفالي”.
ويضيف: “رغم ذلك نواصل العمل، فأنا أعتمد بشكل أساسي على هذه المهنة كمصدر دخل وحيد لي ولأسرتي بسبب انعدام مصادر الدخل. تحت ضغط الحاجة أخاطر بحياتي وحياة أسرتي”، لافتا إلى أنه يقوم بالحفر واستخراج التراب، وفي المنزل يقوم وأسرته بطحنه بشكل تقليدي عبر مطاحن يدوية.
يمنع القانون اليمني عمليات التنقيب من قبل الأفراد، ووفق نص القانون: “لا يجوز لأي شخص البحث أو الكشف أو الاستغلال أو المتاجرة، بالمعادن”
وتكمن خطورة الزئبق السائل في أنه يتبخر في درجة حرارة الغرفة، وبالتالي تختلط ذرات الزئبق مع الهواء دون أن يدركها الإنسان، خاصة وأنها عديمة الرائحة واللون، وعندما يستنشق الإنسان هذا الهواء فإن ذرات الزئبق تدخل للرئة، وتصل بالتالي إلى الدم والمخ.
“علي سعد”، مالك مطحنة في مديرية كشر، يقول: “أدير مطحنة تراب يدويا منذ خمس سنوات، أستقبل يوميًا المواطنين القادمين من المناطق المختلفة من المديرية، وأطحن نحو 40 كيلوجرامًا من التراب في الساعة الواحدة”.
ويضيف: “نستخرج منها جرامًا واحدًا تقريبًا، بعد استخدام الزئبق لأنه الطريقة الوحيدة المتاحة، رغم علمنا بخطورته، ويعمل معي خمسة عمال، وأحصل على 3 – 5 جرام صافي يوميا”.
ووفق تقديرات هيئة المساحة الجيولوجية والثروات المعدنية، فإن احتياطي الذهب في منطقة الحارقة بمحافظة حجة يقدر بحوالي ثلاثين مليون طن صخور حاوية للذهب.
ويتواجد الذهب بشكل عام بنسب بسيطة تقدر بالجرام في كل طن، وعليه فإن احتياطي الصخور الحاوية للذهب في منطقة الحارقة بمحافظة حجه تقدر بنحو 30 مليون طن بدرجة تركيز 1,6 جرام ذهب في كل طن، وفقاً للدراسات الجيولوجية التي نفذتها شركة كانتكش الكندية.
“محمد هادي” أحد المواطنين الذين تركوا زراعة القات واتجهوا نحو العمل في استخراج الذهب يقول: “بعد إغلاق منفذ حرض، الذي كان يمثل مصدر رزقنا الأول، ومع تراجع زراعة القات؛ تكبدنا خسائر مادية، وفقدنا رؤوس أموالنا، ولجأنا لمهنة التنقيب عن الذهب كملاذ أخير للعيش”.

يواصل هادي كلامه لمنصة ريف اليمن، قائلا: “أنتقل من منطقة لأخرى، وعلى وجه التحديد في جبل الحارقة المشهور للبحث عن الذهب، ولدي خبرة في أنواع الصخور الحجرية التي توجد فيها نسبة من الذهب، وأقدم استشارتي لمن يطلبني في تحديد نوعية الصخور”.
ويرى تاجر الذهب في حجة “عبدالملك كامل” أن التنقيب مكسب كبير للتجار أكثر من المنقبين، ويقول: “يبيع لنا المنقبون ما يستخرجونه من قراهم ومناطقهم، وأنا أبيع الكميات في صنعاء عبر دلاليّ الذهب بحسب السعر العالمي، أحقق أرباحًا تتراوح بين 3 إلى 4 مليون ريال يمني في الكيلو، حسب السوق”.
ويحرم قانون المناجم والمحاجر رقم (24) لسنة 2002، التنقيب عن الذهب باعتبار ملكيته للدولة، وتنص المادة (30) من هذا القانون على أنه “لا يجوز لأي شخص طبيعي أو اعتباري البحث أو الكشف أو الاستغلال أو المتاجرة، بالمعادن أو مواد الصخور الصناعية والإنشائية قبل الحصول على إذن بذلك…”، لكن القانون يظل حبرًا على ورق، والتنقيب مستمر بلا ضوابط.
مع استمرار التنقيب العشوائي في حجة ترتفع تحذيرات من كوارث صحية وبيئية تهدد المجتمعات المحلية نتيجة استخدام مواد شديدة السمية مثل الزئبق
وحول دور الأجهزة الأمنية، قال مدير قسم شرطة العبيسة “محمد القاضي”، إن الأجهزة الأمنية تبذل جهوداً متواصلة لمنع دخول المعدات الثقيلة وطواحين التراب إلى مناطق التنقيب العشوائي، مؤكداً أن معظم الطواحين الموجودة حالياً في تلك المناطق تم تهريبها بطرق غير قانونية.
وأوضح القاضي، الذي يدير القسم القريب من المناطق الموجود فيها الذهب، أن اتساع رقعة المناطق الجبلية التي تشهد نشاط التنقيب، تصعّب من المهمة، مشدداً على ضرورة تضافر الجهود بين السلطات المحلية والمجتمع للحد من هذه الظاهرة التي تهدد الاستقرار المحلي والاقتصاد الوطني.
الخطر الصامت: الزئبق والانهيارات
ومع استمرار التنقيب العشوائي في محافظة حجة، ترتفع تحذيرات من كوارث صحية وبيئية تهدد المجتمعات المحلية، ويقول الخبير الجيولوجي “يوسف المخرفي” إن “المنقبين يعتمدون على طرق بدائية وخطيرة، مثل تتبع الرواسب الخام، أو الصخور والمعادن الدالة على وجود الذهب دون أدوات أو خرائط”.
ويضيف لمنصة ريف اليمن: “التنقيب يتطلب تقنيات حديثة مثل الأقمار الصناعية والخرائط الجيولوجية وتدريباً أكاديمياً متخصصاً، أما الزئبق، فخطره يتجاوز السرطان، فالتعرض لتركيزات زئبق تبلغ 20 ميكروغرام/متر مكعب في الهواء قد يسبب تسمماً خفياً في الجهاز العصبي المركزي دون ظهور أعراض واضحة وفورية”.

ويتابع: “الانهيارات الصخرية تهدد حياة العشرات يوميًا، خاصة مع الحفر العشوائي في مناطق غير مستقرة جيولوجياً؛ ما يؤدي إلى انهيارات تدفن العمال أحياءً، كما حدث في حوادث متفرقة لم تسجلها السلطات بدقة”.
ويرى المخرفي أنه -ورغم هذه المخاطر- يزداد الإقبال على التنقيب، بسبب انتشار البطالة، والفقر المدقع، الذي أثقل كاهل المواطنين، إضافة إلى غياب الرقابة الحكومية في أرياف محافظة حجة وأرياف بعض المحافظات، وتراخي تطبيق القوانين التي تمنع الإسراف المالي، أو تعاقب المخالفين.
ويقترح “تأسيس كيان وطني تحت إشراف هيئة المساحة الجيولوجية، وإنشاء شركة وطنية للتنقيب المنظّم، وهذا سيخلق فرص عمل آمنة، ويقلل من المخاطر الصحية والبيئية”، لكن الواقع يظل مرهوناً بخطوات عملية تنقذ آلاف الأسر من براثن الفقر والموت البطيء.
نبيل الشرعبي: استمرار عمليات التنقيب العشوائي عن الذهب في اليمن يشكل خطراً حقيقياً على الاقتصاد الوطني
ويؤكد الخبير الاقتصادي “نبيل الشرعبي” أن استمرار عمليات التنقيب العشوائي عن الذهب في اليمن يشكل خطراً حقيقياً على الاقتصاد الوطني، حيث يتم استخراج كميات من الذهب خارج الأطر القانونية؛ ما يحرم الدولة من موارد مالية كان يمكن أن تساهم في تمويل الخدمات الأساسية.
تقويض الاقتصاد
ويلفت الشرعبي خلال تصريحه لمنصة ريف اليمن، إلى أن هذا النشاط غير المنظم يؤدي أيضاً إلى تنامي السوق السوداء، وتزايد عمليات تهريب الذهب؛ الأمر الذي يربك السياسة النقدية، ويقوض الاقتصاد الرسمي بشكل تدريجي.
ويشير إلى أن التنقيب العشوائي يتم باستخدام مواد شديدة السمية مثل الزئبق؛ ما قد يتسبب بتلوث المياه الجوفية وتلف الأراضي الزراعية، وهو ما يهدد الأمن البيئي والغذائي للمجتمعات المحلية، وقد يؤدي إلى صراعات محلية في ظل ضعف سيطرة الدولة وغياب القانون؛ مما يهدد النسيج الاجتماعي في تلك المناطق.
ودعا الشرعبي إلى ضرورة تقنين التنقيب الأهلي عبر منح تراخيص رسمية مصحوبة بإشراف بيئي وفني، وإنشاء جمعيات تعاونية للمنقبين لتوجيه نشاطهم ضمن مسارات قانونية.
ويشدد على أهمية تحفيز الاستثمار المحلي في قطاع التعدين؛ لتوفير فرص عمل بديلة ومنظمة، إلى جانب إطلاق حملات توعوية وتدريبية في مناطق الذهب، وتحديث التشريعات والرقابة الحكومية بالتعاون مع المجتمعات المحلية؛ للحد من تفاقم الظاهرة، وتحويلها إلى مورد تنموي مستدام.