أثارت حادثة انشقاق وسقوط أجزاء واسعة من “شجرة الغريب” التأريخية في منطقة السمسرة بمديرية الشمايتين جنوب محافظة تعز، صدمة واسعة في الأوساط البيئية والثقافية في اليمن، إذ لم تكن مجرد خسارة لشجرة معمرة، بل انهيارًا لرمز طبيعي وتاريخي قاوم تقلبات الزمن لأكثر من ألفي عام، وشهد على تحولات متعاقبة في حياة السكان والبيئة المحلية.
وتعد شجرة الغريب واحدة من أندر الأشجار، يناهز عمرها الألفي عام، تقع على بعد 50 كيلو متر من مدينة تعز، في منطقة السمسرة، محاذية للطريق الرئيس الذي يصل تعز بمدينة التربة، وتعرف بشجرة (الكولهمة)، إلا أن اسمها العلمي هو: Adansonia digitata ويصل ارتفاعها إلى حوالي 16م، بينما يبلغ قطرها 8م ومحيطها 35م.
عقب انتشار صور ومقاطع فيديو توثق الكارثة البيئية التي حلت بالشجرة، عمّت حالة من الاستياء في أوساط المثقفين والناشطين والمهتمين بالبيئة والتراث، الذين اعتبروا ما حدث سقوطًا مريرًا لذاكرة جمعية ومَعْلمٍ فريد، مطالبين السلطة المحلية بالمسارعة بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق ومحاسبة المسؤولين عن الإهمال.
مناخ قاسٍ أم إهمال مزمن؟
الشاعر جميل منصور حاجب، بكلمات مؤثرة، دعا إلى “بحث جاد في الأسباب الكامنة وراء هذا التصدع”، مؤكدًا على القيمة الرمزية والتاريخية للشجرة. وتجاوبًا مع هذا الغضب الشعبي، وقّع نخبة من المثقفين والأكاديميين والناشطين المدنيين عريضة تطالب السلطة المحلية بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق وتحديد المسؤوليات عن هذا الإهمال الجسيم.
تشير التحليلات الأولية إلى أن ما حدث لم يكن قضاءً وقدرًا، بل نتيجة تراكُمية لضغوط بيئية ومناخية متزايدة تفاقمت بفعل الإهمال الإداري وغياب الصيانة، فمع التغير المناخي الذي تشهده اليمن، باتت الأشجار المعمرة تواجه تحديات خطيرة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، ونُدرة المياه، وتقلبات هطول الأمطار، وهي عوامل أضعفت التربة وزادت من مخاطر الانجراف والانهيار.

وتضاعفت حدة التهديدات البيئية بفعل أنشطة بشرية ضارة، منها التوسع العمراني العشوائي، وإزالة الغطاء النباتي لأغراض الزراعة أو التحطيب العشوائي، والرعي غير المنظم، وكلها أسهمت في تدهور التربة وفقدانها لقدرتها على دعم الأشجار الضخمة كشجرة الغريب.
وتشير شهادات حية من سكان محليين وناشطين بيئيين إلى غياب أي خطط واضحة ومستمرة لصيانة الشجرة وحمايتها من عوامل التعرية والأمراض والآفات. ويؤكد شهود عيان أن المنطقة المحيطة بالشجرة عانت لعقود من الإهمال، حيث لم يتم اتخاذ أي تدابير وقائية مبكرة، مثل بناء دعامات قوية لتحمل أوزان الفروع الهائلة التي بدأت تظهر عليها علامات الضعف والتصدع منذ سنوات، ويُرجح أن هذا التقاعس عن اتخاذ إجراءات وقائية بسيطة كان له دور حاسم في تفاقم الوضع تدريجيًا وصولًا إلى الانهيار المأساوي.
منصة ريف اليمن، تواصلت مع مدير مكتب الزراعة في تعز، عبدالله الدعيس، فامتنع عن الإدلاء بأي تصريح، واكتفى بالتأكيد أنه بناءً على توجيه محافظ المحافظة كُلف فريق من المهندسين من مكتب الزراعة ومكتب البحوث، بالإضافة إلى فريق من فرع الزراعة في الشمايتيين، بالنزول إلى موقع “شجرة الغريب”. وأوضح أن الفريق سيعود غدًا لاستكمال بعض الإجراءات الخاصة بمعالجة الوضع، مشيرًا إلى أنه سيتم رفع تقرير شامل وواضح بعد الانتهاء من المعالجات.
أسباب فيزيائية
ويستبعد أستاذ العلوم البيئية الدكتور يوسف المخرفي، أن تكون التغيرات المناخية هي السبب المباشر لانهيار الشجرة، وأوضح في حديث خاص لمنصة “ريف اليمن” أن عمر الشجرة المديد وجذورها العميقة تمنحها قدرة فائقة على مقاومة الجفاف لسنوات طويلة.
ورجّح المخرفي أن تكون الأسباب “فيزيائية بالدرجة الأولى”، مشيرًا إلى القطر الهائل للشجرة البالغ 31 مترًا، والوزن الثقيل لفروعها، موضحا أن السياج الذي أحاط بها لم يكن كافيًا، وكان ينبغي تدعيمها بجدران أو سواند خرسانية، خاصة للفرع الشرقي الذي انهار أولًا، كما استبعد وجود شبهة جنائية، مؤكدًا: “لا يوجد مستفيد ليكون السقوط متعمدًا”.

كما أشار إلى احتمالية مساهمة العوامل الريحية القوية وأوزان الفروع، بالإضافة إلى تساؤلات حول ما إذا كانت الشجرة قد تعرضت لليبس قبل التصدع وعلاقة ذلك بعوامل التجوية، ودعا المختصين في تعز إلى تقديم دعمات عاجلة للجذع الغربي المتبقي قبل أن ينهار هو الآخر، منتقدا ما وصفه بـ “إهمال” الجانب العلمي، متسائلاً عن دور المختصين في الجامعة في إجراء تقديرات لأحمال الشجرة بشكل دوري.
مدير تحرير صحيفة “اليمن الزراعية”، محمد حاتم وصف ما حدث بـ”الكارثة”، موضحا أن أسباب سقوط الشجرة قد تعود إلى “عوامل مناخية وبيئية متعددة، مثل الجفاف الشديد، والرياح القوية، وربما يعود أيضا إلى عدم قدرة فروعها القديمة على تحمل ثقل الأغصان الكبيرة”.
وأكد حاتم في تصريحه لمنصة ريف اليمن، أن الإهمال الذي تعرضت له الشجرة على مر السنوات وسوء التعامل مع هذه الثروة الطبيعية كان سببًا رئيسيًا في الكارثة، مشيرًا إلى أنه “لو وُجدت شجرة بهذا العمر والمكانة في بلد آخر، لكانت حظيت برعاية حكومية وأكاديمية خاصة، وتم تسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي، وتحولت إلى مزار بيئي وسياحي”.
مطالبة بالتدخل
وشدد على ضرورة التحرك العاجل من الجهات المعنية للحفاظ على ما تبقى من الشجرة، ودعا إلى “اتخاذ إجراءات فورية لحماية الفروع والأغصان المتبقية، والعناية بالتربة المحيطة بها، وتغذيتها بالطرق الزراعية السليمة، بما يضمن استمرار حياتها ويمنع تكرار ما حدث”. وأكد أن تحديد السبب الدقيق لسقوط الأجزاء يتطلب “تدخل خبراء مختصين في مجالي الزراعة والبيئة لتقييم الحالة بشكل علمي”.
محبوب الجرادي، مدير فرع هيئة التراث والمتاحف بتعز، أعرب عن أسف الهيئة وقلقها الشديد إزاء سقوط جزء كبير من الشجرة قبل إتمام إجراءات القبول والتجاوب من قبل اليونيسكو، معتبرًا أن هذا الفقدان يمثل ضربة موجعة لجهود الحفاظ على التراث الطبيعي في تعز.
وأوضح أن الهيئة قامت بجهود مكثفة خلال السنوات الأخيرة لدراسة وتوثيق الشجرة، وجمع كافة المعلومات المتعلقة بتاريخها ونوعها الفريد، بالإضافة إلى العمل على تسجيلها رسميًا ضمن القائمة التمهيدية لمواقع التراث العالمي التابعة لليونيسكو إلى جانب معالم أثرية أخرى في المحافظة.
وأشار إلى المبادرة التي أطلقها محافظ المحافظة بتشكيل لجنة متخصصة تضم خبراء في الزراعة والفنيين والبيئة للتحقيق العاجل في الأسباب المباشرة وغير المباشرة لانهيار الجزء المتضرر من الشجرة، منوها بالأهمية التاريخية والطبيعية الاستثنائية لشجرة الغريب كأحد أبرز المزارات السياحية والأثرية في المحافظة.

التواصل مع اليونسكو
وأضاف مدير فرع الهيئة أنهم ينتظرون التقرير النهائي الشامل للجنة لتحديد سبل المعالجة الفورية للجزء المنهار والحفاظ على ما تبقى من الشجرة بشكل علمي ومستدام. منوها بعزم الهيئة التواصل مع منظمة اليونيسكو بشأن هذا الأمر فور الاطلاع على نتائج التقرير وإضافة ملاحظات وتوصيات اللجنة المختصة، مشيرا إلى لقاء مرتقب مع القائمة التنفيذية لليونيسكو لمناقشة الوضع الحرج للشجرة وقضايا أخرى ملحة تتعلق بالحفاظ على التراث الثقافي والطبيعي في محافظة تعز.
ولا يمثل فقدان “شجرة الغريب” مجرد خسارة بيئية، بل هو فقدانٌ لجزء عزيز من الذاكرة اليمنية، ومَعْلم سياحي فريد، ومصدر فخر للمجتمع المحلي، ويستدعي هذا الحدث بحسب مختصين، تحركًا عاجلًا لتقييم الأضرار وتأمين ما تبقى من الشجرة، ووضع استراتيجية واضحة لحماية الأشجار المعمرة والمعالم الطبيعية في تعز واليمن بشكل عام.
مؤكدين على ضرورة أن تتضمن هذه الاستراتيجية إجراء دراسات علمية دورية لفهم المخاطر المحدقة بالأشجار التاريخية، وكذا تخصيص ميزانيات للصيانة والحماية، وتفعيل القوانين البيئية وتطبيقها، مع أهمية رفع الوعي المجتمعي بأهمية التراث الطبيعي، ودمج الاعتبارات المناخية في التخطيط البيئي والتنمية المستدامة.