في قلب الريف اليمني، حيث تمتزج الطبيعة الخلابة مع التراث العريق، تنبض حياة مليئة بالقصص، ومن بينها تبرز مهنة استخراج السّمن البلدي ذو المذاق الفريد، كواحدة من أقدم وأهم المهن التي تشتغل بها المرأة الريفية منذ القدم.
وللمرأة الريفية دور حيوي في الحفاظ على هذه الحرفة التقليدية، التي أصبحت مؤخرًا مدخلًا يوميًا لكثير من الأسر اليمنية المنتجة، وإحدى الأعمدة التي تتكئ عليها لإعالة أسرتها، ومواجهة التحديات الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
السّمن البلدي
أمينة محمد 58 عاما، امرأة ريفية، كانت تعيش ظروفا اقتصادية صعبة، وتعتمد على دخل محدود لتلبية احتياجات أسرتها، قبل أن تتجه للعمل في حرفة استخراج السّمن البلدي وتُحسن وضعها الاقتصادي.
تقول أمينة، التي تنحدر من منطقة وادي الضباب غرب تعز لمنصة ريف اليمن: “قبل أن أبدأ في إنتاج السّمن البلدي، كانت أوضاعي الاقتصادية صعبة جدًا، ولكن بفضل الله ثم بفضل هذه الحرفة، تمكّنت من تحسين وضعنا المالي”.
بدأت أمنية رحلتها مع السّمن البلدي منذ سنوات عديدة. وتوضح أن البداية كانت بسيطة، حيث كانت تصنع السّمن للاستخدام الشخصي، ولكن مع مرور الوقت، بدأت في بيعه في الأسواق المحلية. وتضيف قائلة: “كنت أشعر بالسعادة وأنا أرى والدتي تعمل بجد وتنتج هذا السمن الذهبي. كانت تقول لي دائمًا إن هذه الحرفة هي جزء من هويتنا وتراثنا، ويجب أن نحافظ عليها”.
قصص مقترحة
- السّمن واللبن.. هدايا الريف لسكان المُدن
- في قُرى اليمن: البقرة أُمٌّ ثانية في الأسرة
- الثروة الحيوانية.. ركيزة اقتصادية مهملة في اليمن
وتمر عملية استخراج السّمن بعدة مراحل، بحسب أمنية -، تبدأ بحلب الأبقار وجمع الحليب، بعدها نقوم بتحريك الحليب داخل “الجعفة”، (إناء مصنوع من ثمرة اليقطين)، حتى يخرج منه الدهن، (الزبدة)، وعند تسخينه يتحول إلى سمن سائل بلون ذهبي فاخر.
وتتابع: “نترك السّمن ليتخمر أو يجهز، مما يساعد في تحسين نكهته. ثم ندخّن الإناء بأعواد مخصصة لذلك (كَبى، تبخير) لإعطاء السّمن نكهة مميزة. في النهاية، يتكون السّمن البلدي الجاهز للاستخدام، فنعبّئه في قوارير ونبيعه للأسواق”. وتؤكد أن هذه العملية تضمن الحصول على سّمن بلدي ذي جودة عالية ونكهة فريدة. تقول: “نحن فخورون بما نقدمه ونسعى دائمًا للحفاظ على هذه الحرفة التقليدية وتقديم أفضل المنتجات لعملائنا”.
التحول الاقتصادي
مع مرور الوقت، بدأت أمينة تلاحظ تحسنًا في وضعها المالي، وأصبحت قادرة على بيع السّمن البلدي في الأسواق المحلية وتوزيعه على بعض المحلات التجارية، ويصل سعر كيلو السمن البلدي إلى حوالي 25 ألف ريالا، مما أدر عليها دخلاً جيدًا يمكنها من تلبية احتياجات أسرتها وتوفير حياة كريمة لهم.
تؤكد أمينة: “بيع السمن البلدي هو مصدر دخلي الوحيد، أعمل بجد كل يوم لأتمكن من توفير احتياجات أسرتي، لكن الوصول إلى الأسواق الكبيرة صعب، وغالبًا ما نضطر لبيع منتجاتنا بأسعار منخفضة”.
لم تكن رحلة أمينة خالية من التحديات، حيث واجهت المنافسة من المنتجات المستوردة أو المصنعة بطرق غير تقليدية، كما كانت تحتاج إلى جهود كبيرة لترويج منتجاتها وجذب الزبائن، وتقول لريف اليمن: “عملية إنتاج السمن البلدي تتطلب الكثير من الجهد والصبر، نحن نستخدم أدوات تقليدية مثل الأواني الفخارية والملاعق الخشبية لأننا نؤمن بأنها تعطي السمن نكهة خاصة ومميزة”.
لكنها لم تستسلم أمام هذه التحديات، بل اعتمدت على عدة طرق لترويج منتجاتها. منها المشاركة في الأسواق المحلية وعرض منتجاتها والتعامل مباشرة مع الزبائن. وحرصت على تقديم منتجات ذات جودة عالية وبأمانة، مما أكسبها ثقة الزبائن وولائهم.
وبفضل جهودها ومثابرتها، تمكنت أمينة من تحويل حياتها وحياة أسرتها للأفضل. أصبحت قصتها مثالًا رائعًا على كيفية استغلال المهارات التقليدية لتحقيق النجاح الاقتصادي. اليوم، تُعتبر أمنية واحدة من أبرز النساء في مجال صناعة السمن البلدي في السوق التعزي، وتستمرّ في تحقيق النجاحات وتوسيع نطاق عملها.
يحظى السّمن البلدي بإقبال كبير في الأسواق اليمنية، فيفضله كثير على المنتجات الصناعية بسبب نكهته الطبيعية وفوائده الصحية. ويُباع السمن البلدي في الأسواق المحلية والمهرجانات التقليدية، ويعتبر مصدر دخل مهم لكثير من الأسر الريفية.
عبد الله الشرعبي، تاجر من تعز، يقول لمنصة ريف اليمن: “نحن نعمل بجد لتلبية الطلب المحلي والدولي على السّمن البلدي. تصدير منتجاتنا إلى الخارج يساعد في تحسين دخلنا ويوفر فرص عمل جديدة”.
ويقول لمنصة ريف اليمن إن السمن البلدي يتميز بجودته العالية ونكهته الفريدة، مما يجعله مطلوبًا بشكل كبير في الأسواق الخارجية، ويشير إلى أن السمن البلدي ليس منتجًا غذائيًا وحسب، بل هو جزء من التراث الثقافي اليمني، مؤكدا على أن الحفاظ على جودة السمن البلدي يتطلب اتباع تقنيات تقليدية في الإنتاج، مما يعزز من قيمته ويزيد من جاذبيته في الأسواق العالمية.
تتراوح أسعار السمن البلدي في السوق اليمني بين ١٥ ألف و٢٠ ألف ريال يمني للكيلو الواحد، (7 – 10 دولار) مع تباين الأسعار حسب الجودة والمصدر. هذه الأسعار تعكس الطلب الكبير على السمن البلدي في الأسواق المحلية، حيث يفضله الكثيرون على المنتجات الصناعية بسبب نكهته الطبيعية وفوائده الصحية.
بالإضافة إلى السوق المحلي، يتم تصدير كميات كبيرة من السمن البلدي إلى دول الخليج، خاصة المملكة العربية السعودية، حيث يحظى السمن اليمني بشعبية كبيرة. هذا التصدير يعزز من دخل الأسر الريفية ويوفر فرص عمل جديدة، مما يسهم في تحسين الظروف الاقتصادية في المناطق الريفية.
تاريخ السمن البلدي
السمن البلدي له تاريخ طويل في المطبخ التقليدي، حيث يعود استخدامه إلى العصور القديمة في مصر والهند والشرق الأوسط. في الهند، يُعرف باسم “غهي” ويُستخدم في الطقوس الدينية والاحتفالات، بينما في الشرق الأوسط يُستخدم في أطباق مثل الكبسة والمندي. في أوروبا، كان يُستخدم قبل انتشار الزبدة النباتية والزيوت.
يُستخدم السمن البلدي في الطهي لتحمل درجات الحرارة العالية، وفي الخبز لتحضير الخبز والحلويات التقليدية، وأيضًا في الطب التقليدي لعلاج بعض الأمراض.
ويحتوي على فوائد صحية عديدة، منها كونه مصدرًا غنيًا بالطاقة، وتحسين الهضم بفضل حمض البيوتريك، وتعزيز المناعة بفضل فيتامينات A وD. بفضل خصائصه المضادة للالتهابات، يساعد السمن البلدي في تقليل الالتهابات في الجسم. كما يعزز صحة الجلد والشعر بفضل احتوائه على فيتامينات E وA.
وأوضحت الدكتورة هديل السفياني أخصائية التغذية العلاجية، أن السمن البلدي يحتوي على مجموعة من الفيتامينات المهمة مثل فيتامينات A وD وE، بالإضافة إلى الحديد والزنك وأحماض أوميغا-3 الدهنية، مما يجعله مفيدًا لصحة القلب والجهاز الهضمي.
وأشارت السفياني في تصريح لمنصة “ريف اليمن”، إلى الفرق بين السمن البلدي والسمن الصناعي، موضحة أن البلدي يتميز بكونه أقل معالجة وأكثر طبيعية، بينما السمن الصناعي قد يحتوي على دهون مشبعة أكثر ويكون أقل في الفيتامينات والمعادن. هذا يجعل السمن البلدي خيارًا أفضل لمن يبحثون عن منتج طبيعي وصحي.
وقدمت نصائح لاستخدام السمن البلدي بشكل صحي، مشددة على ضرورة استخدامه بكميات معتدلة، وتخزينه في مكان بارد وجاف، واختيار السمن البلدي عالي الجودة من مصادر موثوقة. وأكدت أن السمن البلدي يمكن أن يكون جزءًا من نظام غذائي صحي إذا تم استخدامه بشكل سليم.
تحسين ظروف العمل وزيادة الإنتاج
ورغم النجاحات المحدودة، لاتزال النساء الريفيات في اليمن يواجهن تحديات كبيرة في صناعة السّمن البلدي، مما يستدعي اتخاذ خطوات عملية لتحسين ظروف العمل وزيادة الإنتاج. ويشدد اقتصاديون على أهمية توفير التدريب اللازم للنساء الريفيات على تقنيات الإنتاج الحديثة، بالإضافة إلى تقديم الدعم المالي لشراء المعدات والأدوات اللازمة.
وقالت المختصة الزراعية أحلام عبد الله لمنصة ريف اليمن ” أصبح إنتاج السّمن البلدي في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، وسيلة للعديد من الأسر لتحقيق دخل إضافي”. وتضيف “هذا المنتج لا يقتصر فقط على السوق المحلية، بل يمكن أن يكون له سوق واسع على المستوى الخارجي إذا تم الترويج له بشكل صحيح”.
ولتحقيق هذا الهدف، تشدد المختصة أحلام على أهمية التركيز أن يكون السّمن البلدي معبأ بشكل جذاب ونظيف، مع وضع العلامات التجارية والمعلومات الغذائية بوضوح، كما يجب استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية للترويج للسمن البلدي، وعرض فوائده واستخداماته، فضلا عن المشاركة في المعارض المحلية والدولية لعرض المنتج والتعريف به. وأخيراً، الحصول على شهادات الجودة والمعايير الصحية لزيادة الثقة لدى المستهلكين”.
ونوهت إلى أهمية التعاون مع المطاعم والفنادق لتقديم السّمن البلدي في أطباقهم وهذا يمكن أن يزيد من انتشاره وشهرته، مما يساهم في تحسين الوضع الاقتصادي للعديد من الأسر اليمنية”. ويقترح اقتصاديون إنشاء شبكات تسويق محلية ودولية لمساعدة النساء الريفيات في الوصول إلى أسواق أكبر وبيع منتجاتهن بأسعار عادلة. استخدام منصات التجارة الإلكترونية لتسويق وبيع السمن البلدي يمكن أن يفتح أسواقًا جديدة ويزيد من الطلب.
وتظل صناعة السمن البلدي جزءًا لا يتجزأ من التراث اليمني، وتلعب النساء الريفيات دورًا حيويًا في الحفاظ على هذه الحرفة التقليدية، رغم التحديات الكبيرة التي تواجههن، ويواصلن العمل بجد للحفاظ على هذا التراث وتوفير دخل لأسرهن.